عن كرة القدم وروح الشعب

15-06-2010

عن كرة القدم وروح الشعب

تختزل لعبة كرة القدم حركة التاريخ المعاصر أكثر من أي شيء آخر.. فهي تمثل حروب الأمم غير الدموية ضمن قواعد وشروط وتقاليد متفق عليها ولا يسمح لأحد بخرقها حتى ولو كانت إسرائيل.. أرض المعركة محددة بينما الحكام يراقبون الفرق والمدربون يخترعون الخطط واللاعبون يبدعون في تمرير الكرات وتحقيق الأهداف وكتابة التاريخ الشعبي لمؤيديهم بواسطة كرات جلدية ممتلئة بالهواء وروح الجمهور المتحفز..
فمنذ أول مونديال عالمي, بدأت عموم الناس تستبدل تاريخ النخب السياسية والعسكرية بتاريخها الشخصي,  فحولت الحروب التدميرية إلى معارك رمزية, والمآسي الإنسانية إلى متعة رياضية, وقضاة القسوة والسجون إلى حكام للفرح, والقادة العسكريين إلى مدربين, والأبطال التاريخيين إلى لاعبين أسطوريين, كما جعلوا الأقدام تفكر وتعمل بسلاسة ومهارة ضمن قوانين وقواعد كما لم يستطع الزعماء أن يفعلوا بالرؤوس منذ بداية التاريخ السياسي إلى اليوم, ولهذا نلاحظ كيف أن السياسيين يهتمون بلعبة كرة القدم أكثر مما تهتم شعوبهم بألعابهم السياسية.. فكرة القدم هي أهم اكتشاف اجتماعي على الإطلاق, ولم يستطع دين أو قومية أو حزب أن يجمع الناس ويفرقهم أكثر مما تفعل هذه الكرة الجلدية التي استبدلت العصبيات القديمة بأخرى جديدة أشد وأقوى, والخلاف العربي المصري-الجزائري أكبر شاهد على تغيّر نظرية ابن خلدون التي أوردها في مقدمته الاجتماعية الشهيرة.. ذلك أن الحياة نكتة, مضحكة ومؤلمة, ولكنها ممتعة عندما تفوز فيها..
ويبقى السؤال: ما الذي يدفع بفرق بعض الأمم إلى المقدمة دون غيرها, ولماذا لم يصل أي فريق عربي إلى النهائيات منذ أول مونديال إلى اليوم؟
الأمر ليس متعلقا بالتطور التكنولوجي والرخاء الاقتصادي دونما شك, وإنما قد يكون مرتبطا بالتكوين النفسي والروحي لأفراد الشعب.. فنحن العرب مازالت روح البداوة والنزعة الفردية متأصلة فينا, وليس لدينا ما يسمى بروح الفريق, بدءا بالمجالس البلدية ومرورا بالمؤسسات الدينية وانتهاء بالأحزاب والفرق الكروية والجمعيات الخيرية.. وهذا أمر ليس جيدا ولا سيئا ولكنة واقع, وهو واقع غير مساعد لنجاح أي فريق في غياب روح التعاون التي نلاحظها عند أمم متخلفة أكثر منا, كشعوب أميركا اللاتينية، ولكنها تتميز عنا بتوفر مكونات اجتماعية وثقافية تمهد الأرض المناسبة لبذرة  التعاون, هذا إن صحت قراءتنا لرواياتهم المترجمة ورؤيتنا لكرنفالاتهم المنظمة, إذ نلاحظ شيئا سحريا وغامضا وشديد الترابط في علاقات الأفراد ببعضهم, بينما في مجتمعاتنا ما يزال جينوم البدوي يتلجلج في شيفرتنا, حيث في لاشعور كل فرد بيننا فارس بدوي يمتطي حصانه متشوقا لإنجاز بطولة ما تحقق له وجوده الفردي عبر إلغاء الآخر.. ولهذا يتوفر لدينا لاعب ماهر ولكن ليس لدينا فرق كروية ماهرة.. ويظهر هذا اللاعب الماهر أكثر عندما يلعب لصالح فرق كروية أجنبية تعمل بمبدأ: (الواحد للجميع والجميع للواحد).. وهذي ثقافة الفرسان الأوربيين الأربعة الذين يغيرون النظام السياسي وليست ثقافة البطل العربي الواحد الذي يقوم بالانقلاب على الجميع.. ويمكن تعميم ذلك على عمل الشركات والمؤسسات والجماعات والأحزاب والوزارات العربية التي لا تتقن إنتاج الشريك بقدر ما تنتج منافسا ينازع الآخرين ويخرب العمل الذي جاء به المؤسس الأول, والتاريخ يشهد منذ الانقسام الكبير تحت سقيفة بني سعد وحتى الانقسامات تحت سقيفة الجامعة العربية, ليبقى شعار الوحدة مجرد كلمة نحلم بها وتحققها غيرنا من الأمم (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي).. وسيبقى الاتحاد العربي والفريق العربي مجرد حلم طالما أن روح التعاون والتشاركية ميتة ولا أحد يشتغل على بعثها, وطالما أن مربينا لا يعلموننا أن قدم المرء ورأسه لن يوصلا الكرة إلى المرمى إلا بالتعاون مع رؤوس وأقدام باقي الفريق.. إنه شيء مفقود في التربية وليس في الوعظ الأخلاقي, حيث المعلم يعظ لأجل الأستذة وإثارة الاحترام أكثر مما يعمل لمد الجسور بين النفوس على ملعب الوطن والحارة والأسرة..

نبيل صالح

نكتة: كان الفلاح حميدان القط يحتضر عندما جمع أولاده الثلاثة ليعطيهم حكمته الأخيرة حول التعاون.. أعطى كل ولد من أولاده عصا وطلب منه أن يكسرها منفردة ففعلوا.. بعد ذلك أعطى ابنه علوش حزمة من العصي وطلب منه كسرها معا, فكسرها علوش وزحنها ودمرها تدميرا, فقال الأب حانقا: وهلق يا حيوان كيف بدي أشرحلكن حكمة التعاون والتعاضد!؟

 

التعليقات

بس لو فيني اعرف شو في براسك يا استاذ نبيل من وين بتجيب هالافكار من وين

استاذ نبيل أنت شخص رائع.. باسقاطاتك.. وبقراءتك للواقع.. لكن هل يمكنك في حلقة أخرى متعلقة بنفس الموضوع أن توضح الأسباب الداعية لهذه الانقسامات ولهذه الفرقة.. طبعاً غير الأسباب المعروفة للجميع.. مثلاً البحث في أصل الثقافة العربية - الإسلامية وثغراتها ونقاط ضعفها وانعدام قدرتها على التجدد والمواكبة.. وهل فعلاً اللغة العربية لغة ليست علمية إنما هي لغة إبداعية أدبياً.. أرجو البحث في أصل أو أصول العقد والمشاكل التي نعاني منها وعدم الاكتفاء بنقل صور للواقع بطريقة المقاربة الفنية أو الابداعية. على ذلك أتمنى لك التوفيق.. واقدم لك الشكر على هذه الجرعات التي تقدمها لنا كالثلج في الصيف.

جمع الفلاح حميدان القط أولاده وهو على فراش الموت ليعطيهم خلاصة تجربته مع الحياة، فطلب من ابنه علوش أن يأخذ عصا ويحاول كسرها فنجح علوش بسهولة فطلب الأب المستلقي على فراش الموت من ابنه علوش أن يأخذ عصاتين ويحاول كسرهما ففعل بسهولة ويسر وجاءت اللحظة الحاسمة عندما طلب الأب الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيره من ابنه علوش أن يأخذ رزمة العصي ويكسرها معا ففعل علوش دون تردد... وتسمر الجميع فوق رأس الأب الذي خارت قواه وتسارعت أنفاسه وأضنته الحمى ينتظرون حكمة الأب وبعد لحظة من الوجوم والصمت قال لهم: ليش هالكر بيخلي حدا يقول حكمة!

مدري ليش ذكرني النص بكتاب كاليانو (كرة القدم بين الشمس والظل) !

رائع استاذ نبيل زدنا زدنا مقال فش خلقي و اتنفس الصعداء لما اراه من تقوقع ذاتي وعمل فردي و عزلة لا تشتهى . فزدنا ارجوك فكل يوم أتيك هنا .. احترامي وتقديري

جمع الفلاح حميدان القط أولاده وهو على فراش الموت ليعطيهم خلاصة تجربته مع الحياة، فطلب من ابنه علوش أن يأخذ عصا ويحاول كسرها فنجح علوش بسهولة فطلب الأب المستلقي على فراش الموت من ابنه علوش أن يأخذ عصاتين ويحاول كسرهما ففعل بسهولة ويسر وجاءت اللحظة الحاسمة عندما طلب الأب الذي كان يلفظ أنفاسه الأخيره من ابنه علوش أن يأخذ رزمة العصي ويكسرها معا ففعل علوش دون تردد... وتسمر الجميع فوق رأس الأب الذي خارت قواه وتسارعت أنفاسه وأضنته الحمى ينتظرون حكمة الأب وبعد لحظة من الوجوم والصمت قال لهم:طالما هالكر معكم لا تخافو من حدا

شكرا استاذ نبيل على كل مقالاتك الرائعة التي تسر القلب و تضحك الروح بسخريتها الرائعة. على امل انه هالبدوي في جيناتنا ينقلع بقى و يحل عنا.

نعم استاد نبيل نحن بحاجة تربية من البداية والعرب كما قال ابن خلدون أيضا لا يقودهم إلا نبي ،صدقت عقلية الديكتاتور او الوحدانية تسيطر علينا بكل تفاصيل حياتنا ، و علينا أن نغير الأفكار لتستوعب الحراك العالمي العظيم أمامنا من خلال تربية و تعليم راقي في مدارسنا التي تعتبر المولد الحقيقي لأفراد المجتمع في العصر الراهن, ولكنني أتخوف من الهجمات السلفية الواضحة التي وصلت إلى مشارف بلاد الشام بقوة البترودولار من أن تزيد من غفوة أهل الكهف التي نعيشها منذ قرون طويلة جداااااااااااااا، علينا المواجهة بشكل علني وبدون مدارات لنعيد الحية لصحرائها من حيث تأتي ..

المونديال حرب عالمية بدون أسلحة ودمار تتكرر كل اربع سنوات تشترك فيها كل الدول والشعوب بمختلف مشاربها وأطيافها وأديانها ومذاهبها ضحاياها الكتل البشرية الفقيرة من هذه الشعوب والرابحون فيها هم نفس الرابحون من يمتلكون القوة والسيطرة والمال وهم أنفسهم من يحضرون الحروب العالمية تشن باسلحة... فهدفهم من كل هذه الحروب بغض النظر عن مسمياتها مونديال واولمبياياد اوسكار، الحرب العالمية الأولى والثانية، الحرب على الارهاب، الحرب على المخدرات، والحرب من أجل الطاقة في النهاية هدفهم هو غلهاء الناس وتحريضهم على بعضهم حسب هدف الحرب وأسبابها... المهم في وجهة النظر هذه أن ما تهدره هذه الشعوب المتنافسة ضد بعضها البعض وعبر فرق قد لا تكون من عرقها أو تكوينها أو ثقافتها نسميه الروح الرياضية والحماسة ولكنه في الحقيقة اعلان حرب من نوع خبيث على كل روح التسامح والسلام البشرية

لا يسعني القول سوى أن كلامك يا أستاذ نبيل زينة العقل، كل الشكر والتقدير لأفكارك الرائعة، فقد شفيت غليلي بهذه المقالة الاحترافية....

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...