عندمــا يطلــق الألمــان العنــان لفرحهــم وأحكامهــم

23-06-2010

عندمــا يطلــق الألمــان العنــان لفرحهــم وأحكامهــم

توقفت الفتاة الألمانية عند إشارة المرور الحمراء، وهرعت ترفع علم بلادها على نافذة سيارتها. لكنه لم يثبت، فشعرت ببعض الخجل وعادت مسرعةً إلى مقعدها ورمت الأعلام في الداخل. مشهد صغير من هستيريا الألمان التي ترافقت مع المباراة أمام الصرب.
المقاهي امتلأت عن بكرة أبيها. الأعلام غطت كل الزوايا والسيارات. أماكن العمل خصصت أماكن خاصة للمشاهدة وقدمت المشروباتبألوان العلم الألماني. المدارس توقفت عن التدريس قبيل بدء المباراة، وفي حدائق الأطفال شاهدت المربيات والأطفال المباراة سوياً، ولع ألماني قديم بالكرة السحرية، شغف منقطع التأثير والأثر لدرجة أن كثيرين من المحللين النفسيين والاقتصاديين ربطوا بين فوز منتخبهم واندفاع العجلة الاقتــصادية في بلد التصنيع الأول في أوروبا الذي يعيش حالة الركود والأزمة كغيرها من اقتصاديات القارة العجوز.
بعد مباراتهم ضد استراليا أطلق الألمان العنان لكل فرحهم ليخرج دفعة واحدة. حتى ساعات متأخرة من تلك الليلة ظلت القــوافل السيارة تجوب شوارع المدينة مطلقة زماميرها، فيما حواجز المشاة من الشباب والفتيات اللوآتي لونّ الوجوه بالعلم الألماني، كانوا يستــوقفون القــوافل السيارة بالزمامير والرقصات، شعب جميل ومبــهر عندمــا يفرح، لا ينفــك يدهشك بعظمة الفرح الجماعي، هذا الذي نفــتقر له في بلاد الشرق، منبع الحزن واللطم والندب والمواويل والأغانــي الحزينــة والمآتم الجماعية الأزلية.
خرجنا نزمر لأكثر من دافع حينها. أقلها شعور المرء بضرورة مشاركة القوم بأفراحهم. لكن على الأرجح ذلك الشعور الذي دهمنا لكسر النظام والترتيب وعلى وجه الخصوص التزمير. هذا الزمور الذي نخصص له في بلادنا أدواراً اجتماعية كثيرة، ووظائف لم تخطر ببال صانعيه الأصليين.. فللزمور على ما أزال أذكر في بلادنا، مكانة رائدة وأدوار شتى، تكاد تضاهي اللغة الشفهية لتصير في مصاف اللغة الرمزية، فمَن ينسى زمور المنادة للراكب الواقف أو النائم أو الهارب أو السائر على اعتبار أن كل كائن متحرك هو عندنا مشروع أو احتمال راكب على حد قول أحد سائقي العمومي في بلادنا، ناهيك عن زمور المستعجل، وهذا غني عن التعريف حيث ينقره السائق نقرة واحدة ونهائية، مروراً بزمامير المواكب والمسؤولين وأصحاب السلطات والسلطان، وزمور العروس، وزمور الحبيب، وهكذا وصولاً إلى زمور أنصار كرة القدم.. وهو الأكثر صخباً واتسـاعاً وانتشـاراً وشهرة على الإطلاق.
هنا الوضع يختلف بعض الشيء، فاستعمال الزمور ممنوع بشكل عام، ونادراً ما تسمعه في الشوارع، حتى إن المرء يكاد لا يميز زمورا أو يعرفه من غيره، غير أن المونديال يقطع هذا المنع، وكأن القانون يأخذ إجازة في هذه المناسبة.
لا، لن أفوت فرصة خرق النظام والهدوء الرتيبين واستعادة ذكريات زمامير بلادي. هكذا انخرطنا في قافلة كونتها إشارة المرور، فبدوت مندهشاً لالتزام الجميع بها، وسيارات الشرطة تجوب الشوارع، وقد أقفلت شوارع وسط المدينة التي امتلأت بالمحتفلين سيراً على الأقدام. هنا ارتطمت ثلاث سيارات ببعضها، تدخلت الشرطة وسيارات الإطفاء تنظف المكان من الزيت، وتسجل الإفادات. القانون لا يزال صاحياً ولم يغفُ حراسه إذاً. الحشود تتابع سيرها، والزمامير تزعق.. بعد منتصف الليل راحت الشرطة تبعد المشاة من وسط الشارع وفتحت الطرق.. وعاد النظام إلى حالته.
في مباراة الألمان مع الصرب بدت التحضيرات للاحتفال أكثر اتساعاً وشمولاً، لكن الخيبة لفّت البلاد برمتها، مشت الجموع متقهقرة من النوادي والمقاهي سكرى تجر أذيال الخيبة. لكن حزن الألمان بدا أيضاً جميلاً كما فرحهم: «لم نلعب جيداً»، يقول مارك، ويضيف آخر لدينا فرصة بعد. فيما يرد آخر الأمر على سوء الحظ الذي حلّ بالمنتخب من جراء إضاعة ركلة الجزاء وإلى تعسف الحكم الذي طرد كلوزيه أحد أبرز اللاعبين.
هذا في الشارع، أمّا على الشاشات فتغطية حديثة جدا للمباريات، تكاد تربك المشاهد بالأبعاد الثلاثة، وتقيم التحليلات العميقة النفسية والبدنية وغيرها لكل موقف أو فريق، مع الإسهاب بالحديث عن روح اللعب التي لا يمكن اكتسابها أو تعلمها أو حتى تقليدها، هذه التي تتميز بعض الفرق الشهيرة بها..
لا تخلو هذه التحليلات والتعقيبات التي تلي كل مباراة من بعض الطرائف وأحياناً الأحكام المسبقة. أطرف تلك التعليقات كانت حول مباراة البرازيل والمنتخب الكوري الشمالي، المنتحب السري كما أسماه المذيع، حيث أحيط كل ما يتعلق بهذا الفريق ولاعبيه بتعتيم شديد من السلطات الكورية. «هل شاهدتم الدموع؟»، يشير المعلق إلى دموع احد لاعبي المنتخب الكوري التي انهمرت أثناء تأدية النشيد الكوري. أمّا مدرب المنتخب الكوري، فهو جدي جداً وأشبه بقائد عسكري يدير كتيبة في الجيش لا منتخباً رياضياً، ويضيف المعلق: «إنهم يركضون ويركضون حتى إلى ما بعد نهاية المباريات، يظلون يفعلون ذلك من دون أن يسجلوا هدفاً، يبدو أنه تنقصهم الجرأة لذلك أو القدرة..». كلام قد يستشف منه أكثر من بعد مبطن، أو حتى ربما نظرة دونية أو شوفينية، ليختم التعليق بالقول إن البرازيل لم تؤد عرضاً يليق بها وبتاريخها وسمعتها.
هذا فيما لم تستدعِ كل الجهود الكورية مجرد لفتة ثناء لفريق أدّى، رغم كل الظروف والفارق في الخبرة والدعاية، أداء متميزاً أمام البرازيل، أحد أعرق الفرق الكروية وأكثرها شــهرة. غير أن بعض المنصفين تحدثوا صراحة عن فضيحة البرازيل أمام الكوريين، حيث فازوا بصعوبة بهدف يتيم.
في مشهد آخر من مباريات الجزائر وانكلــترا، كان أداء الفريــق الجزائري لافتاً وحتى أفضل بكثير من الأحيان من الانكلــيز، لكن المعلقين ردوا ذلك إلى دهشتهم من ضعف الأداء الإنكليــزي. «لا، هذا غــير ممكن. لا يمكن أن يكون هذا هو منتحب انكلترا!!»، كان المعلق يختم تعلــيقه المتأسف.
في الواقع لم أرد لهفة المحللين الرياضيين الألمان على أترابهم الأوروبيين لدواعٍ عنصرية، بل فكرت بما يجمعهم بالجزائر أو غانا أو كوريا أو غيرها من دول آسيا وأفريقيا القليلة المشاركة في احتفال العالم بالكرة؟! لا شيء البتة، لا التاريخ ولا الجغرافيا ولا الثقافة ولا أي شيء آخر، فهذه دول بعيدة نامية ومتخلفة يستغرب الكثيرون هنا وصولها إلى التصفيات النهائية. أمّا أن تهزم إحدى هذه الدول منتخبات أوروبية ذات تاريخ كروي حافل، فهذه تعزى إلى عوامل كثيرة، مثال سوء الحظ أو الحكم، وفي أحسن الحالات إلى تراجع الفريق الأوروبي العريق عن مستوياته.
يجرنا هذا الحديث مباشرة إلى مسألة توزيع المقاعد على القارات، حيث ظلت لفترة طويلة قارة بحجم آسيا تتمثل بمقعدين ونصف إلى أن ارتفعت هذه الحصة إلى أربعة مقاعد ونصف، حيث تمثلت في هذا المونديال بكل من استراليا واليابان والكوريتين الشمالية والجنوبية. لا يعرف المرء حقاً من أي أطلس سحبت الفيفا أستراليا إلى قارة آسيا؟! أما أفريقيا فقد تمثلت بستة فرق من ضمنها الجزائر والدولة المضيفة. فيما حصدت أوروبا كما جرت العادة حصة الأسد من المقاعد بمشاركة 13 دولة أوروبية. وفيما تعزو الفيفا سبب ضعف التمثيل الآسيوي إلى قلة المحترفين في هذه الدول وضعف المستوى العام والميزانيات والإمكانات المرصودة لهذه المنتخبات، يرى آخرون أن وراء هذا الأمر أبعاداً أخرى. ويضاف إلى ذلك التعقيدات الكثيرة التي تضعها الدول الأوروبية أمام اللاعبين الأفارقة وغيرهم، المتعاقدين مع أنديتها، في ما يتعلق بمشاركة هؤلاء اللاعبين في منتخبات بلدانهم الأصلية في ألعاب المونديال.

(ألمانيا)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...