قصة: بين كلبين !

30-05-2021

قصة: بين كلبين !

ملهم جديد:   نيويورك مدينة كبيرة  ، ليبرالية ، و في منتهى الانفتاح.  غير أن انشغال الناس الدائم بتحقيق طموحاتهم التي لا تنتهي، يجعل منهم أفرادا منعزلين في عزّ ازدحامهم، و لا قيمة للتواصل بينهم إلا بقدر يحقق لهم من تقدم على مستوى الطموحات التي يسعون إليها ، فتصبح إقامة علاقة لمجرد العلاقة مع الجنس الآخر أمرا شاقا، و ليس بالسهولة التي قد توحي به المدينة النشطة التي لا تنام . 

ومن الضروري التنويه أنه الآن،  و في ظل نشاط الحركة النسائية  ( me too ) أي و ( أنا أيضا )، و التي تهتم بقضايا التحرش الجنسي و تجر الرجال زرافات و وحدانا إلى المحاكم ، فإن كلمات الإطراء التي درج الرجال تاريخيا على استخدامها للتعبير عن الإعجاب و جذب انتباه النساء ، لم تعد عديمة الجدوى وحسب ، لا بل وقد تعرض المتفوه بها لتهمة التحرش الجنسي مهما بدت التعبيرات بريئة ظاهريا مثل ( تبدين  اليوم جميلة ) أو ( الفستان الذي ترديه اليوم هو الفستان الأكثر انسجاما مع شمس بداية الربيع ) إذ يعتمد القضاة الناظرين في هكذا مسائل على ما شعرت به المرأة المستهدفة بالإطراء، و لا يلقون بالا لما تعنيه الكلمات بحد ذاتها مهما بلغت براءتها الظاهرية  ( مع الاعتراف أن بعضها قد يخفي خبثا لا يمكن إثباته ) ! و لأنه من الصعب أن يقّدر الرجال ما يمكن أن تشعر به النساء بالضبط عند سماعهن للإطراء،  فإنهم يفضلون الصمت اتباعا للمثل القائل  " الباب يللي بتجيك منو الريح سدّو و استريح " ! و لأن تاريخ البشر ليس سوى مسرح تراجيوكوميدي يقوم على الحركات و المفارقات ، فإنه يحدث دائما أن تخلق الحركة التي تقوم للدفاع عن ضحايا معينين ضحايا جددا ينتظرون بفارغ الصبر قيام حركة أخرى لإنصافهم و تخليصهم من الخوف و الاضطهاد الذي سببته الحركة الأولى  ! أما أنا ، و لأني قاربت الستين من العمر ، و أتميز بقلة الصبر ، فقد قررت عدم الإنتظار ،و البحث عن وسيلة سريعة تمكنني من الاقتراب من النساء ،أو اقتراب النساء مني( لا فرق )،  من دون مخاطر تهمة التحرش بهن . و لم أجد وسيلة أفضل من اقتناء كلب يجذب انتباه الجنس اللطيف.

اشتريت كلبا و انتظرت يوما ربيعيا مشمسا لتنزيهه في حديقة السنتر بارك في قلب مانهاتن . في الحديقة التي تعج بالمتنزهين من مختلف الألوان و الجنسيات و الأعمار ، بدأت خطتي تجني ثمارها، أو هكذا اعتقدت ، فخلال الساعات الثلاث التي قضيتها هناك اقتربت مني (الأحرى القول اقتربت من الكلب ) ما لايقل عن عشر نساء جميلات من أعمار مختلفة( و هل هناك نساء غير جميلات! ) . كن يقتربن، و يقضين وقتا لا بأس به يمسدن على ظهر الكلب و يداعبن رقبته قبل أن يرفعن رؤوسهن و يسألن عن اسمه ( اسم الكلب و ليس اسمي ) ،ثم يستفسرن عن سلالته ، و يطرين على جماله ،و هناك اثنتان قبلنه ، قبلة منهما كانت على فمه ! طبعا ، كنت أنا في تلك الأثناء التي يقضينها مع الكلب، أحاول بحرص شديد ترتيب جملة ما تجعلهن يتركن الكلب ولو لثانية واحدة و ينتبهن لي ، وكم كان شعورا مذلا ما زلت أشعر بثقله ، و أعني الشعور بدخول منافسة مع الكلب للفت انتباههن و إثبات أني لست أقل منه ، إن لم يكن جمالا ، فعلى الأقل لطفا، و أنه يمكن لهن الوثوق بي كما يثقن به ، و إذا كان الكلب يتحدر من سلالة جرمانية عريقة ، كما كنت قد شرحت لهن  ، فإني أيضا لست نكرة، و أتحدر من سلالة نشأت في  بلاد مهد الحضارات التي تزاحمت، و ما زالت تتزاحم فيها، الرسالات السماوية و الأرضية ، و إذا كن لا يستطعن تبينها على الخريطة بوضوح  ، فذلك بسبب غبار المعارك التي لا تخمد، و لا يبدو أنها سوف تخمد في المستقبل المنظور ! و في الحقيقة،  كان يمكن لي تجاوز الشعور المذل بالدخول في منافسة مع الكلب ، أما أن أخسر المنافسة ، فهذا كان أكثر من قدرتي على الاحتمال . حتى أن آخر امرأة داعبت الكلب قبل أن أترك الحديقة قالت لي قبل أن تودعه( الكلب و ليس أنا ) " إني أحسدك على هذا الكلب !" تحسدني أنا و لا تحسد الكلب علي  ! و ما زاد من غضبي أن الكلب ، كان بين فترة و أخرى، يتطلع إلى الأعلى ، ينظر إلي و يهز رأسه ، ثم يعود و ينظر أمامه منتظرا اقتراب امرأة جديدة ، و كأنه يقول لي " أنت رجل محظوظ لأني قبلت مرافقتك!" ربما لم يكن يقصد ذلك !

لكن هذا ما شعرت به ، و لأنه ليس من المهم ما يقصده الآخرون، سواء كانوا بشرا أم كلابا، بقدر ما هو مهم تأويلنا، و المشاعر التي تنتابنا بناء على هذا التأويل، فلكم أن تتخيلوا حجم الغم الذي خرجت به من الحديقة !

قطعت الشارع ، و اتجهت نحو " ستار باكس " لشرب فنجان قهوة و قراءة جريدة " new York times" التي اشتريتها قبل رحلة القطار إلى مانهاتن، و لم يتوفر لي الوقت لقراءتها بعد . أخذت فنجان القهوة و جلست على كرسي خارج المقهى ،بينما كان الكلب يتمطى تحت وهج الشمس التي كانت قد انتصفت في سماء خلت من الغيوم. 

كانت هناك أربع صور تغطي القسم الأعلى من الصفحة الأولى لما بدا أنه جنازة رسمية مهيبة ، في الصورة الأولى بدت أربعة خيول تجر عربة فوقها تابوت مغطى بالعلم الأميريكي،  بينما كان علم شرطة الولاية يخفق في مؤخرة العربة ، و في الصورة الثانية كانت العربة تسير بين صفين من رجال الشرطة المسمرين كالتماثيل في أمكنتهم في وضعية التحية الرسمية ، أما الصورة الثالثة فقد كانت للميداليات الرسمية التي حصل عليها الفقيد خلال تأديته للخدمة ، بينما كانت صورة كلب شبيه بكلبي تتصدر الصورة الرابعة و قد كُتب تحتها " ستبقى دائما في القلب " ! عندما انهمكت بقراءة المقال اكتشف بأن الفقيد كان من كلاب شرطة الولاية و تدعى ( k 9 )، (قسم مكافحة المخدرات )، و حصل في اليوم السابق أن هاجمت الشرطة منزلا مشبوها ، حيث كان على الكلب الفقيد ، بعد أن كسرت الشرطة الباب الخارجي للشقة ، أن يدخل أولا ، ليدخل بعده رجال الشرطة،  وحدث أنه في اللحظة التي أصبح فيها الكلب الفقيد في منتصف الصالون ، أن ظهر أحد المهتمين نازلا الدرج و في يده مسدس ، فقفز الكلب في الهواء متجها نحو يده التي تحمل المسدس ، فأطلق المتهم العيار الناري الوحيد الذي أودى بالكلب قبل أن تردي الشرطة بالمتهم،  و بذلك يكون الكلب، كما ورد في الصحيفة،  قد قام بواجبه بحماية رجال الشرطة من الطلقة الأولى التي كان ممن الممكن أن تردي أحدهم ، فاستحق على ذلك لقب بطل العام و شرف التمدد في مثواه الأخير في المقبرة الوطنية . إذا "الجنازة كبيرة و الميت كلب" فعلا و ليس مثلا  كما يُقال عندنا ، و مع أن الأمر مفهوم ضمن سياق الاختلاف الثقافي  ، فإني قضيت المساء ممددا على سريري وحيدا ، أتأمل اليوم الذي قضيته في حسد كلبين ؛ كلبي الذي خسرت المنافسة معه في كسب قلوب النساء ، و كلب الشرطة الذي لن يكون لي حظه في الحصول على جنازة مهيبة تتصدر الصفحات الأولى من جرائد الولاية عندما أموت !

 



إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...