بريجيت مونهاويت: عودة إرهابية

24-02-2007

بريجيت مونهاويت: عودة إرهابية

قبل احدى وعشرين سنة حكم عليها بالسجن المؤبد خمس مرات في اطار محاكمة قيادات «الجيش الاحمر», ونسب اليها تنفيذ عمليات ارهابية بشعة شهدتها ألمانيا خلال السبعينيات. وقبل أيام أمرت محكمة ألمانية عليا باطلاق سراحها وتحويل عقوبة السجن المؤبد الى حكم مع وقف التنفيذ.
من هي بريجيت €بيرجيتا بالالمانية€ مونهاوبت التي عرفت بالمرأة «الأكثر شراً والأكثر خطورة» في بلادها, وكيف تم الافراج عنها؟

هي من أبرز عناصر منظمة «الجيش الأحمر» وأبرز قيادات الجيل الثاني في هذه المنظمة التي نسب اليها الكثير من الأعمال الارهابية. أوقفت في العام 1982 مع عدد من رفاقها اثر اختطاف رئيس رابطة ارباب العمل الالمانية هانز مارتن شلاير في العام 1977 وتصفيته, وقد اتهمت بالمشاركة في قتل المدعي العام الاتحادي الالماني زيغفريد يوباك ورئيس بنك دريسدن يورغن بونتو وجرائم اخرى.
وفي 11 شباط €فبراير€ الحالي, وبعد 24 عاماً امضتها وراء القضبان, اصدرت المحكمة العليا لولاية بادن­ فورتمبيرغ الالمانية, والتي تتخذ من شتوتغارت مقراً, قراراً بالافراج المشروط عنها وأقرت اطلاق سراحها وتحويل الفترة المتبقية من العقوبة الى «حكم مع وقف التنفيذ». وجاء في حيثيات الحكم انه جاء بعد توافق وجهات النظر بين كل من القضاء والادعاد العام والمحللين النفسيين بأنها لم تعد تشكل خطراً على الأمن العام في الوقت الحاضر او في المستقبل. ومعروف ان المحكمة الدستورية العليا كانت قد اتخذت في العام 1977 قراراً يقضي بأن يمنح المحكوم عليهم بالمؤبد فرصة استعادة حريتهم بعد قضاء فترة معينة من العقوبة, ونص القانون الالماني على ما يعرف بـ«الحد الادنى من العقوبة» اي 15 سنة في «الحالات العادية», لكن تقدير كل حالة على حدة ترك للقضاء الذي يستطيع ان يمدد الفترة. ويبدو ان القضاء قال كلمته في قضية بريجيت على خلفية ان منظمة «الجيش الاحمر» لم يعد لها وجود في المانيا, ولم تعد بالتالي تشكل خطراً على الأمن العام.
لكن «بريجيت» التي تستعد للخروج من السجن مختلفة كلياً عن «بريجيت» التي قادتها كوكبة من رجال الشرطة في العام 1985, بسترات واقية للرصاص, الى قاعة محكمة شتوتغارت المحصنة للاستماع الى قرار المحكمة. يومذاك كانت امرأة تضج بالحياة بشفتيها الرقيقتين وشعرها الاشقر المنسدل على كتفيها الآن وقد بلغت السابعة والخمسين وخط البياض شعرها الخفيف ونتأت عظام وجهها فهي تبدو امرأة مرهقة الى حد الوهن, بسحنة شاحبة شأنها شأن كل المساجين القدامى الذين لا يسمح لهم بالخروج من زنزاناتهم الا ساعة واحدة في اليوم.
وفي الواقع لم تحتفل بريجيت بنبأ العفو عنها بالطريقة المألوفة من ثورية سابقة. لم تطلق شعارات عدائية. لم ترفع قبضتها في الهواء. بل اكتفت بتناول «كاتو» مع مساجين آخرين قبل ان تقوم بنزهة مع قطة السجن «أولغا».
وليست وحدها من «الجيش الأحمر» من تغير فرفيقتها غوردن انسلن حبيبة اندرياس بادر, التي كانت الدماغ المفكر والقوة الرافعة في فصيل «الجيش الأحمر» والطالبة الموهوبة جداً, وقد شنقت نفسها في زنزانتها في العام 1977.
هورس ماهلر الذي يبلغ حاليا الواحدة والسبعين من عمره وهو من مؤسسي فصيل «الجيش الأحمر» وقد تولى الدفاع عن «بادر» ورفاقه وساعده على الفرار, سجن في العام 1980, فعمل مجدداً كمحام قبل ان يبدل معتقداته السياسية وينضم الى حزب «ان بي دي» النازي, وقد سجن مرات عدة بسبب تصرفاته العنصرية.
اولريكي ماينهوف وهي من مواليد العام 1934, كانت صحفية يسارية معروفة عملت في صحيفة «كونكرت» الشيوعية قبل ان تساعد بادر على الفرار من سجنه في العام 1970, وقد عرفت باسم «اولريكي الحمراء» وتعتبر من المساهمين في تأسيس فصيل «الجيش الاحمر». شاركت في العديد من الاعمال الارهابية, قبض عليها في العام 1974 وكانت تمضي عقوبة سبع سنوات سجنا عندما انتحرت بدورها في زنزانتها في العام 1976.
اندرياس بادر من مؤسسي فصيل «الجيش الاحمر». لم يكن في رأي البعض ثوريا حققيا, بل شخصاً يريد لفت الانظار اليه, شارك في العمليات الارهابية وسجن الا انه تمكن من الفرار والقي القبض عليه مجدداً في العام 1972 وحكم بالسجن مدى الحياة, وقد انتحر باطلاق النار على نفسه في زنزانته.
سيلسكي ماير­ ريث التي تبلغ الآن السابعة والخمسين من عمرها, كان تورطها مجدداً في عملية اختطاف رجل الاعمال هانز­ مارتن شلاير ثم انفصلت عن فصيل «الجيش الاحمر» في العام 1979, وفرت الى المانيا الشرقية , وعاشت هناك حتى القاء القبض عليها في العام 1990. سجنت خمس سنوات ثم ذهبت الى كوسوفو كناشطة من اجل السلام.
كلهم اذاً انتحروا او انتُحِروا... او تبدلوا, وبريجيت بدورها تبدلت.
لكن كيف كانت قبل ان تتبدل, وما هي «انجازاتها» الارهابية؟
الساعة 28.5 من بعد ظهر يوم الخامس من ايلول €سبتمبر€ 1977 كانت اللحظة التي بدلت حياتها. دفعت امرأة بعربة اطفال امام سيارة في احد شوارع كولونيا الهادئة. داخل السيارة كان يجلس احد اهم رجال الاعمال الالمان واكثرهم نفوذا هانز مارتن شلاير الذي كان ضابطاً سابقاً في الاستخبارات النازية ومعروفاً بشخضيته الفولاذية ضغط سائق السيارة على الكوابح بقوة, بحيث اصطدمت سيارة بوليس كانت تواكبها بمؤخرتها, وتقدمت بريجيت مع اربعة مسلحين اخرين وبدأوا اطلاق النار فقتل المرافقون وسائق السيارة وقبضوا على شلاير. بعد شهر واثر فشل المفاوضات مع السلطات الالمانية وجدت جثته داخل سيارة «اودي 100» قرب الحدود الالمانية­ الفرنسية.
قتل شلاير حصل في الفترة التي اصبحت تعرف بـ«الخريف الالماني» وهي فترة شهدت ذروة اعمال العنف التي قام بها فصيل «الجيش الاحمر» الذي انبثق عن حركة التمرد الطالبية, وكان معارضاً للحرب في فيتنام وللنظام الرأسمالي الالماني والماضي النازي السابق لمعظم افراد الطبقة الحاكمة. وقد شملت اعمال العنف نسف المحلات التجارية وسلب المصارف وقتل مصرفيين ورجال قانون, وصناعيين وجنود اميركيين, وكان الهدف من هذه العمليات كما كان يأمل اعضاء الفصيل, كشف الوجه الفاشي الحقيقي للدولة, مما سيؤدي بصورة تلقائية الى اندلاع ثورة ماركسية.
الثورة لم تحصل, مع ذلك ظلت اسئلة عديدة اخرى بلا اجابة حتى الآن, ويأتي اطلاق سراح بريجيت ليثيرها مجدداً, ومنها: هل بالغت السلطات الالمانية في ردة فعلها؟ كيف يمكن التعامل مع الارهاب من الداخل؟ وكيف يمكن طمس الصورة الرومانسية الاسطورية المأخوذة عن فصيل «الجيش الاحمر»؟
من ناحيتها لم تعرب بريجيت عن اي ندم على افعالها, وهذا امر اثار سخط ذوي الضحايا الذين سقطوا بنيران «الجيش الاحمر», لكن في المقابل صمم لها موقع الكتروني بدأ يتلقى رسائل التأييد والتعاطف والدعم, واعرب احد موقعي هذه الرسائل عن استعداده لتقديم منزل لها والاعتناء بها, فيما اعلن اخر انه سوف يحول لحسابها مبلغ 20 الف يورو كي لا تحتاج الى الضمان الاجتماعي.
ومرد الامر الى ان الغموض لا يزال يكتنف منظمة فصيل «الجيش الاحمر» ودوافعها. وقد مات معظم زعماء هذا «الجيش» وهم يحملون اسرارهم معهم, وبذلك قد لا يستطيع احد ان يفسر ما الذي دفع شباناً اذكياء يتحدرون من الطبقة الوسطى على القيام بما قاموا به. وحتى الذين ما زالوا احياء قد لا يساهمون في توضيح الصورة, فمعظمهم يعيش الآن حياة هادئة باسماء مستعارة. بعضهم يمارس التعليم. آخرون التأليف. وما زال عدد قليل طريد العدالة, واحدهم عمل محررا في صحيفة «الاندبندنت» البريطانية, قبل ان يصبح محاضراً في جامعة برلين في فن التصوير. ثم ان آخر اصبح شخصية سياسية مرموقة وهو اوتوشيلي الذي ظل حتى العام 2005 وزيرا للداخلية وكان قبلها محامي دفاع عن «الجيش الاحمر».
ونادراً ما يتحدث الارهابيون السابقون, وغالب الاعتقاد انهم اذا ما تحدثوا, فانما مع الاطباء النفسانيين, لكن يبدو انهم بصورة عامة يقرون بفشلهم, وقد عبر عن هذه القناعة كارل­ ناينز دلوو البالغ من العمر 55 عاما.
كان قد شارك في الهجوم على السفارة الالمانية في ستوكهولم في العام 1975 واطلق سراحه في العام 1995 ومما قاله «عندما كنت في السجن بدأت التفكير لقد قفزنا ولم نهبط في اي مكان لقد فشلنا».
واللافت ان بريجيت, بخلاف الاخرين, لم تتحدث مطلقا الى الصحفيين, بل انها لم تتقدم بطلب لاطلاق سراحها, وتلاحظ جودي دمبسي في تقرير لها الى صحيفة «انترناشيونال هيرالد تريبيون» من برلين ان في دولة اخرى غير المانيا لا تأمل بريجيت المحكومة بخمس عقوبات لمدى الحياة, الى جانب 15 عاماً بالحصول على عفو, لكن في المانيا عقوبة مدى الحياة نادرا تعني مدى الحياة في السجن. ويفسر هذه المفارقة نائب رئيس المحكمة الدستورية الالمانية بقوله «انه مبدأ انساني. ان اساس نظامنا القانوني هو ان الكرامة البشرية هي منح حتى الاشخاص المحكومين مدى الحياة فرصة للحرية, اذ يعاد النظر بالعقوبة مرة كل 15 عاماً, ولا يبقى في السجن الا الاشخاص الذين يعتبرون خطرين فعلا وسوف يبقون خطرين» واللافت ايضا, ان المحكمة لا تطلب من المحكوم عليه ان يعرب عن اسفه او ندمه او توبته على فعلته.
واطلاق سراح بريجيت اثار ولا يزال يثير لغطا قويا في المانيا بين مؤيد ومعارض بل انه اعاد الى الواجهة الخلافات الحادة بين اليسار واليمين على المستوى السياسي. ففيما اعلنت عضو في «حزب الخضر».
مثلا ان بريجيت امضت في السجن اكثر من اي مجرم نازي سابق فإن كبار ضباط الشرطة عارضوا اطلاق سراحها, فيما اعتبر الامين العام لحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي, الحزب الشقيق للحزب الحاكم الديمقراطي المسيحي, ماركوس سودر ان العفو عن بريجيت «صفعة في وجه ضحاياها وذويهم».
ومن ذوي الضحايا البارزين دريك نجل شلاير الذي صرح للصحافة بأنه من الصعب قبول قرار المحكمة مضيفاً: بعض ذوي الضحايا لم يستطيعوا تجاوز الامر, فقد ماتوا او اصيبوا بالجنون او اصبحوا مدمنين, يجب اخذ هذا الامر بعين الاعتبار. هؤلاء الاشخاص وثقوا بالحكومة, وآمنوا بأن العدالة سوف تأخذ مجراها, وبالتالي يصعب جدا القبول بهذا العفو. لكن السياسيين اليساريين رأوا في العفو فرصة لقلب صفحة من فصل مظلم في تاريخ المانيا بعد الحرب. وغالبية الصحف الالمانية رأت ان القرار مؤشر ايجابي, ومنها صحيفة فايننشال تايمز دويتشلاند» التي قالت انه صائب لانه يقوم على مبادئ الدولة الدستورية, وقالت «سوويشي زمينتوغ» الصادرة في ميونيخ انه يظهر ان النظام القضائي في المانيا كريم ورحوم, مضيفة «علينا النظر الى الارهابيين كمجرمين وليس كأعداء مع ذلك برزت تحفظات في عدد اخر من الصحف, «بليد» الواسعة الانتشار قالت مثلا ان القرار لم يكن عادلا مع انه قانوني.
والنقاش لم يبق محصورا بالمانيا بل تعداه الى دول اخرى, في سويسرا أثنت صحيفة «لوتان» على القرار قائلة ان مقاومة محكمة شتوتغارت اصوات الشوارع القائلة لا رحمة لانهم بلا رحمة, ولا حرية لاعداء الحرية والديمقراطية, قد حرر المانيا من نفق الماضي, وبالنسبة الى دولة القانون فان غياب الرحمة لدى المجرمين او عدم توبتهم لا يشكل ذريعة ضدهم. لا يمكن الا تقدير الشعب الالماني مجتمعا على اطلاق سجالات معمقة حول دور الدولة ومعنى الديمقراطية وانسنة العدالة بشغف كبير. قبل ان تضيف: مرة اخرى على سويسرا ان تعجب بالمانيا.
في غضون ذلك حصل انفجار قرب مخيم «زاما» العسكري الاميركي قرب طوكيو, وتم في ايطاليا اعتقال 15 عضوا من فلول «الالوية الحمراء» مما حمل صحيفة «لاربيبليكا» على القول ان ارهاب اليسار المتطرف لم ينته كليا في ايطاليا, مضيفة «ان الشبح الذي اعتقدنا اننا ابعدناه كليا عن حياتنا قد عاد. ان الارهاب بيننا الآن, ولم ييأس لاعتقاده ان في قدرته استغلال الفروقات الاجتماعية وغضب الشباب واحباط العمال, وخوف المجتمعات المدنية كي يضرب من جديد.

حسان كورية

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...