نبيل صالح: عودة الابن المطرود

25-07-2007

نبيل صالح: عودة الابن المطرود

أحب الأشياء الكاملة، وهذا ما نمّى لدي حس النقد تجاه مساوئي ونقائص الآخرين، الأمر الذي سبّب لي الكثير من الخسائر في حياتي. فبلوغ الكمال نوع من المرض الذي لا نهاية له سوى بأن تسلم نفسك لمتعة الخطيئة.

هكذا أردت أن أصلح العالم بالكتابة، وأن أجلّس الأشياء الملتوية كي تغدو مستقيمة، إلى أن أدركت، بعد زمن طويل، أن الخط المستقيم هو خط وحيد بلا أصدقاء، وغير قادر على المعانقة إذا لم يلتوِ قليلاً، كما أدركت أن البشر نوعان: نوع يحب أن يعيش الحياة كما يجب أن تكون، وهذا النوع يضمّ الناس المعقمين الذين نحترمهم ولكننا لا نحب معاشرتهم. ونوع يحب أن يعيش الحياة كما هي، وهو يضمّ الذين لا يمكنك احترامهم، ولكنك لا تستمتع بالحياة من دون معاشرتهم، ذلك أن أفضل وسيلة للتخلص من الخطيئة هو معانقتها، وأفضل التوّابين هم الخطاة الكبار. ‏

كذلك سفحت أكثر من عشرين عاماً من عمري على صفحات جريدة «تشرين» معتقداً أن العالم سيكون أفضل مما هو عليه بعد كل مقالة أكتبها. واليوم أجد أن العالم أكثر سوءاً مما كان عليه، وأن موظفي الحكومات الذين هاجمتهم أقل سوءاً ممن جاء بعدهم، وأن الكثير من المظلومين الذين ناصرتهم قد تحولوا إلى جلادين، وأنه من الأفضل للسلطة أن تقتات على حياة المواطنين كي لا تأكل نفسها، وأن المرأة لن ترتقي اعتماداً على شرفها بين مجموعة من الذكور الجائعين، وأن أفضل ما تقدمه للمذلين المهانين هو أن تركلهم على قفاهم بدلاً من أن تطبطب على ظهورهم، فلعل ركلتك توقظ أرواحهم الميتة. ‏

ها أنا أعود للكتابة والحماقة على صفحات «تشرين» بعد سنتين من الغياب أو قل التغييب الذي تكرر مع كل رئيس جديد للوزراء، منذ أيام الرفيق الزعبي إلى اليوم، حيث كنت أعتقد أني ربحت الجمهور وخسرت مستقبلي، والآن أنظر أمامي فلا أجد الجمهور ولا مستقبلي.. هكذا هي حرفة الكتابة في الصحارى العربية: نوع من البوكر، وإذا لم يكن الحظ إلى جانبك فمن الأفضل لك أن تغش في اللعب.. وعندما أنظر إلى حياتي السابقة في «تشرين» أذكر حديثي مع المؤرخ الأب جوزف حجار على شرفة قصره في معرة صيدنايا، وكنت قد نشرت حينها عن «محنة الأب حجار» وتدخل الرئيس حافظ الأسد شخصياً لحلها بعد ردود فعل غربية على ما جرى للأب حجار.. قلت له: أحس بخيبة أمل من نفسي يا أبانا؟! فقال: ليش؟ قلت: لقد قارعت الكثير من الأشرار على صفحات «تشرين» طوال سنوات، وقد آذيتهم جميعاً فأوصلت بعضهم للسجن، وحجزت على أموال بعضهم الآخر، وملأت قلوب من تبقى بالحقد والخسران.. قال الأب حجار: وماذا في ذلك، كنت تقوم بواجبك.. قلت: لو لم أكن أكثر شراً منهم لما غلبتهم.. فواساني الأب بحديثه عن قوة الخير بداخلي وما إلى ذلك، فقلت: يا أبتي هذه مواعظ كنسية لا تنفع مع محترف مثلي، فقال لي: ابتعد إذاً عن التصنيفات.. اتبع قلبك ودع الآخرين يصنّفوك.. ومنذ ذلك اليوم وأنا أنظر إلى نفسي في عيون الآخرين فأرى أشخاصاً أفضل أو أسوأ، ولكنني لم أجد حتى الآن من يراني كما أنا تماماً، ذلك أن الناس يتبعون هواهم على الرغم من تحذير الرب لعباده أن يبتعدوا عن هواهم في كتبه المتلاحقة، من دون جدوى.

 

نبيل صالح

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...