قصر الطين

11-04-2009

قصر الطين

قد لا يتوقع القارئ للوهلة الأولى أن تجذبه رواية €قصر الطين€ للروائي السوري عبد الناصر العايد الصادرة عن الأمانة العامة لدمشق عاصمة الثقافة العربية, بسبب الانطباع الذي يخلفه الغلاف, أولا من حيث أن النص المثبت على الدفة الثانية للغلاف والمتضمن تعريفاً بسلسلة الروايات الفائزة في مسابقة الكتابة التي أعلنت عنها أمانة العاصمة الثقافية, يخلو من أي تعريف بالروائي أو موضوع الرواية, أو أسباب اختيارها ضمن الأعمال الفائزة. ثانياً يفاجأ القارئ بأن أحداث الرواية تدور في مملكة ماري على ضفة الفرات في 1760 ­1757 ق.م, والصورة المختارة للغلاف هي لطريق أسفلت تشق البادية!!
تكاد تكون €قصر الطين€ أول رواية سورية تتناول تلك الحقبة من التاريخ القديم لمنطقتنا, حيث تعيد تركيب وصياغة تلك الأجواء التاريخية من خلال إخضاعها لمنطق روائي, يعيد قراءة الرمز الديني ضمن معطياته الاجتماعية والسياسية في تلك الحقبة, من خلال لغة بسيطة ومفردات قريبة من لغة ترجمات الألواح الطينية, لتأخذ القارئ في رحلة ممتعة إلى الماضي المندثر, والتعرف مجدداً الى أصل نشوء الأساطير التي افرزها الواقع الديمغرافي, ليس كتعريف لرؤية البشرية لفكرة نشوء الكون, وإنما كمنطلق نظري لبسط السلطة والمُلك, عبر قالب حكائي تصاعدي, يبدأ بسيطاً سلساً ليتشابك ويتعقد تلقائياً مع تطور الشخصيات, دون أن يفقد إثارته وجمالياته, ودون تهويلات وتهويمات €فذلكة€ تحتملها قراءة الأسطورة التي ابتذلت كثيرا في الأدب.
تعاملت €قصر الطين€ مع الأسطورة كحدث فكري, في ما يتعلق بقصة اختراع الدين بمعناه الاجتماعي والسياسي السلطوي. فيحكي عن مراهقين وفدا إلى مملكة ماري يوم عيد رأس السنة في الأول من نيسان €ابريل€, وضبطا يتلصصان على الملك والملكة وهما يمارسان طقوس الاحتفال المقدسة للإله إنليل الذي هو اله ممالك بلاد ما بين النهرين, وكي يخرجا نفسيهما من المأزق ادعيا أنهما ابنا الإله إنليل فأرسلا إلى الملك, ليكون أحدهما محارباً في جيشه والآخر كاهنا... وعبر تتبع مصير هذين الشابين تخوض الرواية في طبيعة النظام السياسي الحاكم وطبقة الكهنة وانقسامها إلى مراكز قوى يستمد الملك من تجاذبها قوته واستقراره. هذا التجاذب هو الذي يؤخر دخول الشابين إلى القصر, فلا يصادق الكهنة على ادعائهما بنوة الإله, خشية تنامي نفوذهما وتشكيلهما لمركز قوة جديد يخلخل النظام القائم, إلا أن الملكة وبعد عدة سنوات تدخلهما سراً إلى القصر, وتضم الأول إلى الجيش والثاني إلى سلك الكهنة, ويخضعان للتدريب, لتدخل الرواية في مستوى جديد على صعيد رصد الحركة التاريخية للأفكار, مما يكشف عن وجود قوى «معارضة» تجتمع سراً خارج أسوار المملكة وتمارس طقوسها المقدسة الخاصة بها, ومع أن الحدث هنا يحتمل الكثير من الإسقاطات نرى €قصر الطين€ نجحت في تجنب هذا الإغراء, واكتفت بسرده مجرداً من دون أن تتعدى زمانه ومكانه, فكان العشتاريون أتباع الآلهة عشتار ربة الماء مجموعة من المؤمنين بالسلام, تناهض فكر الإله أنليل€الشمس رب النار. يكتفي العشتاريون بالاحتفال السري بلا أي طموح للسيطرة على السلطة, إلا أن تعرف الفتى الذي التحق بالكهنوت الى هذه المجموعة جعله يفكر في جعل العشتارية دين الدولة, وفي لحظة تاريخية سانحة قام بانقلاب سلمي غير فكر €دين€ النظام, دون المساس برجاله €الملك والكهنة€.
ولعل من أجمل المشاهد الروائية ذلك الذي يصور آشار وهو يصنع تمثال عشتار ربة الينبوع, من حجر رخام ابيض وضع فيه خلاصة رؤيته للجمال والحب والخصب والتوق للحرية والانعتاق والسلام, حافراً فيه مجرى للماء يصب فيه ما يرد من قنوات سرية اخترعها, كي يقنع الملك والكهنة بهذه المعجزة الإلهية, واستبدال حوض الرماد ودم الاضحيات بينبوع ماء, أي الماء بدل النار, والسلام بدل الحرب. لتصبح ماري مملكة السلام والخصوبة والحب. المفارقة أنه حين نجح هذا الانقلاب, وصارت العشتارية دين المملكة, اختفى العشتاريون الأوائل, ومضوا ليمارسوا طقوسهم في مكان ما مجهول. في محاولة لرصد حركة تطور الأفكار وتجددها, حين تفقد العلاقة مع أصحابها ولا تعود تشبه حتى أصولها.
الانقلاب الديني في ماري, كان ذريعة لحمورابي البابلي الطامح للتوسع كي يحتل ماري, وهو احتلال لم يمنع صانع عشتار من وضع تصور للإبقاء على فكر العشتارية بل وتعميمه؛ تصور استوحاه من فيضان النهر «الذي ترتفع مياهه ببطء شديد وعلى نحو غير ملحوظ لتنساب بهدوء وصمت تحت الحشائش والأعشاب وتندفع في المسارب الواطئة وبعد أن تشمل المكان تبدأ بالنهوض دفعة واحدة والدفع من أسفل, رويداً رويداً, حتى إذا جاء الصباح وطلع انليل€الشمس وجد الدنيا سماء وماء».
وهكذا بعد أن كان الدين مركزياً يتمحور حول تمثال الربة في ماري, صار وفقا للخطة الجديدة منتشراً ومحلي السمات, فلكل قبيلة ومنطقة عشتارها التي تقبس من روح عشتار الأصلية. فكان هناك عشتار المحاربة وربة الأكوان وربة الأمنيات وربة الخصب... انتشار العشتارية وصلابة شوكتها وحتى ظهورها ثانية إلى العلن, دفع حمورابي إلى حرق المملكة لتغدو أثراً بعد عين. وهنا تعطي الرواية إشارات قوية عن تسلل الإيمان بالعشتارية إلى المكلف تحطيم عشتار, فلم يحطمها تماماً.
تتبدى جرأة الرواية في إعادة سرد قصة أصل الدين من جهة والعلاقة الإشكالية بين الدين والسلطة.
«قصر الطين» رواية سورية بامتياز, تعيد الاعتبار للأسطورة السورية ببعدها الفكري والفلسفي أم سائر الأساطير التي عرفتها الحضارات اللاحقة. فيها نعثر على الجذر الأول لها, كما نعثر على المكونات الأولية لهوية منطقة موغلة في القدم, في مملكة لا يعرف عنها غير المختصين سوى النزر القليل, فهي ليست قصة مخترعة أو حكاية سياحية عن لقى أثرية, تجذب السياح والباحثين من كل الأصقاع, وإنما رواية عن شخصيات من لحم ودم, مثلنا تماماً نحن أبناء القرن الحادي والعشرين بعد الميلاد, يقلقهم ما يقلقنا, العلاقة مع الآخر ومع الرب ومع السلطة الحاكمة. بشر يبحثون عن صيغ جديدة لمجتمع أفضل, يتعرضون للقمع والإبادة لكنهم لا يفقدون الأمل, بل يخترعونه ويورثونه. والأهم من ذلك أن الرواية لا تؤول الماضي ولا تسقط الحاضر عليه, وإنما تترك تلك المهمة للقارئ ليمارسها بحرية.

سعاد جروس

المصدر: الكفاح العربي

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...