غسان الرفاعي: الاحتشاد المغشوش

28-12-2009

غسان الرفاعي: الاحتشاد المغشوش

­1­

سيحتشدون في أجمل شوارع العالم »الشانزليزيه« ­والذي قد بالغ الرئيس ساركوزي في تزيينه وغندرته­ وقد تقاطروا من العالم الثالث وأنظمة الاستبداد، يتجاذبهم إغراءان: ممارسة الحرية التي خيل إليهم أنهم قد حرموا منها واسترداد الحلم الوردي الذي بدده استبداد أحمق. ‏

وسيصدمون مرتين: مرة حين يتبين لهم أن الحرية المتوافرة ليست أكثر من بطاقة مرور إلى البطالة والموت البطيء، ومرة أخرى حين يكتشفون أن حلمهم قد اغتيل بمسدس كاتم للصوت، وعلى مرأى من مشاهدين مصابين بالهوس وفقر الدم. ‏

سيسهرون حتى مطلع الفجر للاحتفال بالعام الجديد 2010، وهم يرقصون ويغنون ويشربون ويتصايحون وحينما ينبلج الفجر ستطفح عيونهم بالدموع كزجاجات الخمر والويسكي التي تجري في عروقهم وسيغضبهم همّ ثقيل وسيقول أحدهم للآخر، وقد تورم واحتقن »فلنعد«، وستتساقط خيبة أمل فاجعة منه كتساقط أوراق الخريف. ‏

­2­ ‏

المفارقة الأولى التي ستثير جزع المتقاطرين هي توهمهم أن «الغرب الديمقراطي» الذي طالما بهرهم يتخوف من انتصاره على الأنظمة الشمولية التي تداعت ويتضايق من زوال «الخصم» الذي كان يهدده بشكل جدي وخطير، وقد تولد عنده سلوكان متناقضان: سلوك عدم الاكتراث من جهة ويتجلى في التنحي عن الصراع الفكري والزهد في بلورة موقف نضالي ضد الاستبداد والقمع، وسلوك الخداع من جهة ثانية ويتجلى في تصنيع خصم موهوم جديد وتحميله كل أوزار الانحدار الذي يشكو منه المجتمع المدني المعاصر، وليست الدعوة إلى توريم الخطر الأصولي إلا مظهراً مزيفاً من مظاهر التضييع هذه، يقول روجيس دوبريه وهو من الثائرين القدامى الذين تأقلموا مع المجتمع المدني الغربي من جديد: ولماذا لا نعترف وبلا خجل أننا من أكبر المتضررين من موت الطاغية ستالين ومن سقوط جدار برلين، كنا بحاجة إلى ستالين لإيهام الجميع أن الديمقراطية هي الفردوس البديل وكنا بحاجة إلى جدار برلين لشحن مجتمعنا بالشجاعة والروح النضالية وها نحن نكتشف أن هذه ستائر مخملية تخفي فسادنا السياسي وتخلفنا الاجتماعي وإن ديمقراطيتنا التي نتفاخر بها غابة متوحشة تتحكم فيها مافيات متخاصمة متنافسة. ‏

­3­ ‏

والمفارقة الثانية التي أثارت قرف المتقاطرين المحتشدين هي إماطة اللثام عن خديعة »العمل الإنساني« الذي حل مكان العمل السياسي، وآية ذلك أن هذا الغرب الديمقراطي المسكون بروح »الشفقة والتعاطف« بدأ يرسل الممرضات وسيارات الإسعاف إلى مناطق الصراع والحروب الأهلية بعد أن تبين له عجزه عن إيجاد حل لأسباب الصراع واكتشافه انه السبب الرئيسي في الصراع. ‏

إن الهدف الخفي من هذا العمل «النبيل» هو تأمين الموت البطيء للضحايا لا القبض على الجلادين والقتلة، أو على الأقل ملء بطون الضحايا بمعلبات الطعام الفاسد قبل تسليمهم إلى جلاديهم، هل نذكر المقال «التاريخي» الذي نشره المفكر زلاككو ديزدرافيك في صحيفة «اوسلو بومين» التي استمرت تصدر في سراييفو حتى بعد أن أصبحت المدينة مقبرة ضخمة «لقد تحولت مدينتنا إلى حديقة للحيوانات الكاسرة» إنهم يرسلون إلينا الكاميرات وكبار الصحفيين لنقل صورة حقيقية عن القتل والذبح والافتراس والاغتصاب، كما كانوا يرسلون الكاميرات وكبار الصحفيين إلى أدغال إفريقيا لتصوير بقايا الحيوانات المهددة بالانقراض. ‏

إن ما يهمهم هو تصوير الرؤوس المتدحرجة والأطراف المفصولة والأطفال المتجمدين من الصقيع وكأنهم يستعيضون عن آلام الرعب السيئة بمشاهد حية عن أفلام رعب متقنة من دون تزييف وحيل إخراجية. ‏

­4­ ‏

والمفارقة الثالثة التي ستفاجئ المحتشدين هي اكتشافهم أنهم مرغوب فيهم ما بقوا معارضين في بلادهم، يناضلون ضد الخصم المفترض ولكنهم مرفوضون حينما ينتصرون ويقضون على الخصم حينئذ ينقلبون إلى «غرباء أو وافدين» يهددون الاقتصاد الوطني بعبء مالي وإنساني ينبغي التخلص منه ضمن خطة «حماية الهوية الوطنية». ‏

ألم يكن آلان دوهاميل المعلق السياسي في عدة إذاعات وصحف صريحاً إلى حد الوقاحة حينما كتب مخاطباً كل الطامعين إلى اللجوء السياسي إلى الغرب: «نريد لكم أن تعرفوا أن التيارات اليمينية تجاهر بالإعجاب بكم ما بقيتم في الخندق الآخر تقاتلون من أجل التشبه بنا وحينما تنجحون تصبحون مثلنا فنحن نزهد فيكم». ‏

صدقونا إن اليمين عندنا يهواكم وأنتم محاصرون ومطاردون ومن الأفضل أن يقبض عليكم وأن تحاكموا فهذا يعطينا الحق في الصراخ ضد أنظمة بلادكم المستبدة. ‏

­5­ ‏

أورق حلم أخضر في أفئدة الملايين من المسحوقين والمقهورين في أميركا اللاتينية وآسيا والشرق الأوسط حينما وصل الخلاسي باراك أوباما إلى البيت الأبيض وهو يمد يده المبسوطة إلى الجميع ويبشر العالم بعالم جديد يقوم على المحبة والتسامح والتعاون، وحينما وجه نداءه الدافئ إلى المسلمين من أنقرة والقاهرة أخذ الجميع يردد شعارات أوباما الانتخابية: »نعم نحن قادرون WE CAN YES وهم يحملون المعاول لقبر عالم بوش البائد الذي يشطر العالم إلى أخيار ومارقين ويزرع الغطرسة والهيمنة والموت في كل مكان ولكن سرعان ما تسرب اليباس الأصفر إلى الحلم الأخضر وتفجرت خيبات الأمل في القلوب وتساقطت الوعود تساقط أوراق الخريف، وكما جاء في لافتة حملها آلاف المتظاهرين في شوارع كوبنهاغن: «نعم هو أراد ولكن لم يكن قادراً». ‏

أليس من المحزن أن يعلن أوباما في الخطاب الذي ألقاه في الأكاديمية السويدية بعد تسلمه جائزة نوبل للسلام «أنه لا توجد حروب مقدسة وإنما قد تكون هناك حروب يمكن تسميتها الحروب العادلة؟ دون أن نتناسى أن الحرب هي جزء من جنون الإنسان... وأن ينتحل فكرة كان قد طرحها الكاتب الفرنسي ألبير كامو حينما تسلم هو الآخر جائزة نوبل« حينما يحمل المضطهد السلاح باسم العدالة فإنه يخطو خطوة في عالم الظلم..... ‏

أليس من المخجل أن يعترف أوباما في أحاديثه مع زعماء العالم في مؤتمر كوبنهاغن «أن القبول ببعض الجرائم ضروري لتأمين الاستقرار العام»؟... إن غض الطرف عن بعض الأخطاء لا بد منه لتحقيق استراتيجية متوازنة وإن قبول عدم المساواة قد يكون ضرورياً للعدالة». ‏

­6­ ‏

سيحتشد في شارع الشانزليزيه الجميل المسحورون بالنظام العالمي الجديد وسيسهرون حتى مطلع الفجر احتفالاً بالعام الجديد وهم يرقصون ويغنون ويتصايحون، ولكنهم سيتسترون عن المفارقات والعورات، إما بسبب فقدان الجرأة على المكاشفة وإما بسبب دهاء مشبوه، ولكن النظام العالمي الجديد بحاجة إلى مسدسات رجال الشرطة بقدر حاجته إلى الضحايا الذين تُصوب إليهم المسدسات، انه يوفر المسدسات المتطورة القادرة على إصابة الهدف مباشرة ويحرض الضحايا أو المرشحين لأن يكونوا ضحايا معتمداً على آليته الإعلامية الجهنمية، وعلينا جميعاً أن نختار خندقنا: إما مع رجال الشرطة وإما مع الضحايا، وفي الحالتين نحن الخاسرون. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...