سيف الرقابة ... ما بديله؟

29-04-2007

سيف الرقابة ... ما بديله؟

في بلاد الله الواسعة، حيث التلفزة متقدمة والقوانين متقدمة والشعوب تعرف مصلحتها، من الصعب على المرء أن يعثر على أثر للرقابة، ليس لأنها غير موجودة، بل لأن لها ضوابط تجعل المهم فيها فاعليتها وليس صخبها. وتجعلها في خدمة الناس، من دون أن يشعر الناس أنهم في خدمتها أو عبء عليها.

وهذه الرقابة لها هناك، في شكل عام، اسم لافت: ميثاق شرف. فهي بقدر ما يتطور المجتمع، ويتطور وعي الناس بمصالحهم، (ولا نتحدث هنا طبعاً عن وعي الأنظمة بمصالحها، ما يحول الرقابة دائماً الى رقابة سياسية، فحواها منع كل من يشتبه بعدائه للنظام، أو انتقاده له، من امكانية التعبير عن نفسه عبر صورة الشاشة الصغيرة)، اذاً بقدر ما يحدث من تطور في هذا السياق، يحل ميثاق الشرف محل الرقابة، ومن هنا نجد بلداناً كثيرة تمنع، مثلاً، الاعلان عن السجائر على التلفزيون، ونجد بلداناً تسري فيها أعراف تتعلق بمشاهدة الصغار والمراهقين لمشاهد العنف... وقس على هذين المثلين علماً بأن المنع لا يكون رقابياً، بل ضمن اطار مواثيق الشرف التي يضعها الاعلاميون أنفسهم، بصفتهم جزءاً من الشعب، ويطبقونها. ومن قواعد مواثيق الشرف هذه انه يمكن للشاشة أن تعرض أشياء كثيرة، أن تكون بديلاً للحياة، ولكن من دون أن تعرض سلامة المجتمع الجسدية والذهنية والذوقية حتى للخطر. ومن هنا لا يمكن للشاشة الصغيرة، مثلاً ان تتحول الى عيادة للاستشارات الطبية، لأن هذا التحول يحمل من الأخطار ما لا يمكن تصوره.

ومن هنا لا يحتاج المرء عندنا، الى أن يكون ناطقاً باسم نقابات الأطباء أو الصيادلة أو أصحاب مستودعات الأدوية، حتى يقف وبكل قوة في وجه هذا الداء الجديد – القديم، الذي ينخر في جسم تلفزيوناتنا، اللبنانية وبعض العربية، حيث تقدم – ومن دون أدنى خجل أو رقيب أو أخلاق، برامج تزعم لنفسها شفاء الناس ومعالجتهم، حيناً من طريق الاعشاب وحيناً من طريق وسائط أخرى. وهذه المعالجة قد تصل الى حد «الشفاء من السرطان» وربما من «الايدز»، اذا صدقنا أصحاب البرامج وضيوفهم.

أمام هذا الوضع المستشري والخطير، والذي يجد حتى من يدافع عنه، حيناً بتبريرات اعلانية وحيناً بتبريرات تتعلق بـ «حرية التعبير» ثمة أصوات بدأت ترتفع. صحيح أن بعض هذه الأصوات يعبر عن مصالح خاصة، وبعضها عن خلفيات سياسية، حتى – ولا سيما في لبنان – لكن وجود المصالح والخلفيات السياسية، لا ينبغي أن يجعلنا غافلين عن أن القضية، في نهاية الأمر، قضية حق.. لا يمكن أن يراد به باطل هذه المرة. فكل شيء يمكن أن يلعب على الشاشة الصغيرة، ولكن ليس صحة الناس ومصائرهم. وليس صحيحاً أن للأمر هنا علاقة بحرية التعبير. وبالتالي، من دون أن نصل الى المطالبة بفرض رقابات، لا بد من أن نطالب الاعلاميين – ولا سيما اعلاميي التلفزة – بالعودة الى الحس السليم، وبابتكار مواثيق شرف اخلاقية ومهنية، قد يكون من فوائدها الجانبية انها تجعلنا في غنى عن رقابات السلطات، التي هي قد تستخدم هذا الكلام الحق لتريد به باطلاً، فتكون النتيجة أن تمعن في فرض قواعد ينتهي بها الأمر الى منع كل شيء.. باستثناء الدجالين الذين يشفون الناس على الشاشة.

إبراهيم العريس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...