حنا مينه: ختام حكايتي مع دمشق القديمة

29-01-2011

حنا مينه: ختام حكايتي مع دمشق القديمة

حين تكون الحبيبة وهماً، ينقلب الوهم إلى عزاء، شقي أنا وقد أقدس في جملة الأشقياء وهم كثر في هذه الدنيا، والسؤال نفسه يتكرر: «لماذا لم تكتب رواية عن دمشق؟».

والجواب محرج حيناً، مراوغ حيناً آخر والخليون يؤمنون بيديهم، وبطرف اللواحظ العشاق وفي تطوافي عبر أحياء دمشق القديمة، لم أكن خلياً ولم أكن عاشقاً، كنت واهماً، أنتظر حبيبتي التي تأتي مع الوهم، لتكون بطلة حكايتي الوهمية، وهذه الحبيبة لا تأتي، حتى في خيالي الجانح إلى الجنون، في بلد ناسه عقلاء، والمصيبة أنهم عقلاء، وأنا وحدي بينهم المجنون، أسعى وراء السراب، لأفديه وأغليه، والفداء والإغلاء، لا يبلغان مبلغ اقناع هذا السراب، بأن يتعطف، على نحو ما، فيخرج لي من التماعه الخادع، حبيبة التماعية، أدنو منها فتبتعد، وأبتعد عنها فتدنو، في لعبة الظن الذي يسكنني، ويغريني بيقين الوصول إليها. ‏

خمسون سنة مضت، والبحث جار لا يزال، فالحكاية، بغير بطلة، لا حكاية، وفي هذا جواب للسائلين، المنتظرين حكايتي دون طائل، وهذه الخمسون، من السنوات، تقطرت عبر كتلة الزمن السائل، قطرات خمسين، شارات للخريف خمسين، علامات للاصفرار خمسين، والورق المبرقع بالشحوب، لما يتساقط بعد، مع أنني كصاحب الأناشيد، أقوم في الليل وأطوف باحثاً عن حبيبتي، وعلى رجاء لقائها، يتمهل خريفي، تتماسك أوراقي والحراس الذين أسأل، يقولون مرت من هنا، وهنا، وأمشي، ثم أمشي، وأدخل شارعاً، وأخرج من شارع، وأعاود السؤال ويعاودون الجواب، والطيف السرابي، لا يتجسد امرأة، والمرأة السرابية ما كانت طيفاً لكنني حتى عن الطيف أبحث، وأسأله استعطفه أن يلم بي، ولو في رقاد، وأنصب له، قولة شاعر شركاً في الرقاد لكنه ينفر يقظة ومناماً ودروب دمشق أزقتها المحددة بالسور المجللة بوشاح التاريخ المعرشة على جدرانها وعلى بيوتها الطينية، أغصان الياسمين، ذات الأزهار البيضاء كالثلج، المزدانة في صحونها بالفل وبرك الماء ذات النوافير، ومصاطب الراحة، يسلمني واحدها للآخر، وآخرها لما بعده، وحبيبتي لا تبين لا تدرك فكأنها حقيقة الوهم وكأنها الظن في مدى الوهم، وكأنني، في الظل اللاحق، بي هنيهة بعد أخرى السابق لي أرتمي قتيل فياف ولا رمل، وأتوسل سراباً ولا صحراء، وأنقب عن أثر ما تكشف عن مثله أرض، ولا عرف صنوه سليمان، في مجد أمجاده. ‏

خمسون سنة انتظار، خمسون سنة أمل، وأعرف مذاق الانتظار، ولهفة تحقق الأمل، والخيبة توقعاً، والخل مكافأة واليدين المصلوبتين، والخشبة على الظهر، والتاج الشوكي، والنكران عند صياح الديك وجرار الماء التي تنتظر الأعجوبة لتصير خمراً، وعرس قانا الذي انفرط عقده، ومجزرة قانا الرهيبة على يد الاسرائيليين السفاحين. ‏

ان الكلام على الماضي قد صار حاضراً، تداخل الزمن، قطعت شجرة التين المصابة بالعقم، آلاف النيازك تساقطت، كفي التهبت، أصابعي بترت، والأمس، عندما كنت أبحث عن حبيبتي في أزقة دمشق القديمة صار اليوم أنه الجنون عاقل ومجنون أنا الحكاية التي يسألونني عنها لما تكتمل وقد لا تكتمل أبداً لأنني لا أعرف دمشق فهل تعرف أنت يا سيدي دمشق التي أرغب في حكاية حكايتها!؟ ‏

قال جورج لوكاتش: الرواية- باعتبارها حكاية ضخمة- باعتبارها المحكي بالنسبة للكلية الاجتماعية، تمثل الشكل الموازي للملحمة وقال م، خرابتشنكو «الفكر الغني دون خيال، عقيم بمقدار ما الخيال عقيم دون الواقع. ‏

أنا لدي الخيال، لدي الواقع، وحكايتي ضخمة، انما المحكي عنها غائبة، وهذا هو السبب في أنني لم أستطع حتى الآن أن أنجز الحكاية التي يسألونني: متى تنجزها؟ ‏

«الصمت موت، والقول موت، قلها ومت» هذا كلام يعطي المشروعية للشجاعة، شرط أن يكون هناك ما يقال، ما يحكى، ما يتوازى والتضحية، اذا كانت هذه التضحية تنتج عملاً ابداعياً، والمبدع أساساً منذور لمثل هذا المصير، في سبيل الجهر بالحقيقة ومن أجل قضية شريفة، وقد قالت أسماء بنت أبي بكر لولدها عبد الله بن الزبير، وقد دخل عليها، في اليوم الذي قتل فيه، يشكو إليها خذلان الناس إياه في مواجهة الحجاج: ان كنت على حق إليه تدعو فامض لما أنت ماض إليه فقد قتل أصحابك عليه، وان كنت رأيت أصحابك وهنوا، فضعفت نيتك، فليس هذا فعل الأحرار كم خلودك في الدنيا والله لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بسوط في ذل. ‏

لكن المسألة في مصير المبدع، إذا هو جهر بالمسكوت عنه، لا تتحدد بالموت وحده، وإنما في أن يجد الطريقة الكفيلة بمعالجة هذا المسكوت عنه، في عمل إبداعي تتوفر له عوامل المكان والزمان والحدث، أي أن يعرف الأشياء في مظانها، ويملك بعد ذلك القدرة على هذه المعالجة الابداعية، ليكون للمحكي عنه، مقومات الحكاية في شموليتها، وفي المقدمة عناصر البطولة، ومقدمة المقدمة الحبيبة المفقودة، لأنها لم تأت، وقد لا تأتي رغم البحث الطويل عنها. ‏

وحيداً، إذاً أمشي في أحياء دمشق القديمة وأدور في أزقتها على أمل اللقاء بالتي ستكون تاج الحكاية فالمطلوب مني أن أروي قصتها، وجواباً على السؤال الدائم: لماذا لم تكتب رواية عن دمشق؟ ومتى تكتبها؟ أفكر ثم أقول: أنني سأكتب رواية عن دمشق، عندما أعرف دمشق جيداً، ولهذا باكراً أو متأخراً، أبحث عما فاتني، ساعياً في الدروب والأزقة، بحثاً عن هذا الانسان، عن هذه البيئة، عن الذين في القاع من هذه البيئة، عن العالم السفلي الذي يعيشون فيه، وفي شروره يتخبطون! ‏

ماذا أفعل؟ كيف أشرح نفسي؟ وهل يقتنع أحد، إذا قلت أنني أعرف جيداً شارع أبو رمانة، وبعده شارع المالكي، إلا أن قلمي لا يؤاتي، للكتابة عنهما، إنه منذور للبحر، للغابة، للجبل، للثلج، للمناطق غير المكتشفة بعد، للعيش على حافة الخطر، لمواجهة الموت في الخطر، لإنفاذ وصية أسماء بنت أبي بكر، قبل أن أعرف هذه الوصية لابنها عبد الله بن الزبير، للقول عما لا يقال، مخافة أن أصمت، وفي الصمت انطفاء للشعلة المتوهجة داخلي، وفيه أيضاً، انزياح عما يرضي الله، ويرضيني. ‏

آه يا دمشق، يا مدينتي التي في مركز دائرتها سر التاريخ، يا مليكتي التي أضعت أمام عرشها الجليل قدرتي على النطق، أنني أحبك، وبسبب من حبك، لا أتكلم عليه كيلا أسلمه إلى برودة الكلمات، ووحشة الليل إذا ليّل، وفأس الحطاب في جذع شجرة مزهرة، احتفالاً بقدوم الربيع.

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...