حنا مينه: بين الكتابة والتنظير

30-10-2010

حنا مينه: بين الكتابة والتنظير

الأديب، على أي جنس أدبي اشتغل، يبقى أديباً لا ناقداً، يبقى مبدعاً لا منظراً، إلا أن الخلط، في الوطن العربي، لايزال قائماً بين الإبداع والتنظير، فالصحفيون،.

والقراء، يريدون من الأديب أن يتكلم على هواجسه الأدبية، على تجربته الشعرية أو القصصية أو الروائية، أن ينظر لهذه الأجناس، وأن يصادر دور النقاد والدارسين، وهذا خطأ، ولطالما أعلنت أنه خطأ، إلا أن أحداً لا يقتنع بما أقول، فأضطر، في المقابلات، في اللقاءات، في الرد على رسائل القراء, على أسئلة أصحاب الرسائل الجامعية، على الدارسين، أن أتكلم على هواجسي الأدبية وتجاربي الروائية، مساهماً مضطراً في تعميم هذا الخطأ! ‏

حسناً! سأتكلم على تجربتي الروائية مرغماً، وسأجتهد، ما أمكن في قول الأشياء من وجهة نظر شخصية، لا علاقة لها بالتنظير، وإن قاربته أحياناً، وسأحاول تبسيط الأمور، كيلا أفقد وسيلة التواصل بيني وبين القراء، هذه الوسيلة التي أحرص عليها، وأمارسها، دون خشية من الاتهام بأنني تقليدي، فإذا كان الموضوع تقليدياً، فإني مع الوضوح، ولست مغرماً بما ورائيات الحداثة، وما بعد الحداثة، والكتابة السرية غير المفهومة، لكنها دارجة دون أن يفقه كتابها دلالاتها تماماً. ‏

إن الرواية، بالنسبة لي، تجربة حياتية، مفروضة وليست مقصودة، ومصدر هذه التجربة ما عشته ورأيته، بل أكثر من ذلك، ما عانيته معاناة قاسية وأليمة، دون أن تكون هذه المعاناة، على قسوتها، خالية من الفرح، مادامت تقترن بالكفاح، ففي كل كفاح جانب مفرح يتبدى لي، ويمتلك علي نفسي، حين تترسب الأشياء في قاع الذاكرة، وهناك تروق، تتصفى، فما كان منها كدراً أو نافلاً إلى نسيان، أو ما يشبه ذلك، وما كان منها مهماً، مبهجاً، ضرورياً، لصيقاً بحيوات الناس، يستيقظ بعد هجوع يطول أو يقصر.. وحين يحدث ذلك، لا أستشعر المرارة، فالحسرة، ههنا، تنتفي، تتحول لدي إلى حاسة، ويغدو ما عانيته كفاحاً، أسر به وأعتز، لأنه الجزء المهم في حياتي، لذلك قلت يوماً: «أنا كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين، ففي الكفاح الذي هو قانون البحر والبر، حسب تعبير الريس الطروسي، بطل روايتي «الشراع والعاصفة» ما هو سلبي وما هو إيجابي، ما هو موجع وما هو مريح، وتأتي البهجة حتى في الشقاء، ارتفاعاً عليه، ثم تأتي البسمة، في قلب الشدة، ارتقاءً على الشدة نفسها، وهذا ينتسب إلى نوع من الانتصار على المصاعب والشدائد جميعاً، لأنني، في أعماقي، ودون فلسفة، موقن أن لدى الإنسان مادة للاحتجاج، لكن ليس لديه، أو يجب ألا تكون لديه مادة لليأس، حتى في الزمن الرديء الذي يحياه الإنسان العربي حالياً. ‏

هكذا يأتي التفاؤل مجانباً الحماقة، ففي الحياة، وفي الحياة العربية خصوصاً، ما يستدعي، أو ما يفرض، الإحباط لكنني، أنا، غير محبط، وهذا عائد إلى إيماني، المرتكز على مفهوم مادي للعالم، ان الخير إلى بقاء، وأن الشر إلى زوال، في الصراع الناشب من حولنا، وعلى كل الجبهات، وفي كل الأمور دون استثناء. ‏

إنما حذار من الوقوع في السذاجة، أو في الغفلة، أو النوم على الثقة، أو التبسيط، وحذار مرة أخرى، من الاكتفاء باجترار مفاخر الأجداد وبطولات الأسلاف، أو ترداد عبارة «كنّا وكنا!» نعم! كنّا في الماضي، في الأمس، ولكن ماذا بشأن اليوم؟ وماذا بشأن الغد؟ وماذا أعددنا للمستقبل؟ وبأي زاد من المعلوماتية ندخل الألفية الثالثة؟ وأين نحن من ثورة الالكترونيات، في وسيلتيها الرئيستين: الكومبيوتر والانترنت؟ ‏

إن جدلية الخير والشر باقية ما بقي الصراع, ما بقي التناقض في قلب الوحدة، ما بقي عالم الشمال الصناعي، الغني, المهيمن، المسيطر على مقدرات الأمم، وما بقي الجنوب الآخذ بالتنمية على استحياء، الراسف في الفقر والجهل والتخلف، المشكوك حتى في نجاح تنميته الحيية، بسبب من العولمة، واقتصاد السوق، وزحف الشركات متعددة الجنسيات، والمنتشر بمصارفه وأمواله واستثماراته القائمة على عدم التكافؤ، وعلى تحطيم الحواجز الجمركية، هذه التي تحمي أي اقتصاد وطني لأي بلد في الجنوب، والذي يطالب، أقصد الشمال وأميركا خصوصاً، بفتح أبوابه للتجارة العالمية، بحيث يجعل بلداننا مستهلكة لما تنتجه بلدانه، وجعل النهب مشرعاً قانوناً وحسب الأصول، بموجب اتفاقية الغات، وأمثالها من اتفاقات أشد نهماً وسوءاً وتدميراً للبنى الاقتصادية الناشئة في دول العالم الثالث. ‏

وإذا كان الصراع، بين الطرفين النقيضين، أزلياً أبدياً، وكان البقاء للخير نسبياً، والزوال للشر نسبياً أيضاً، فإن علينا أن ندرك أن الحقيقة ذاتها نسبية، ومن أولويات الفهم أن نعي هذه البدهيات، وأن ندع لاطلاق المعطل للجدلية، والنافي للحركة التي هي نفي للسكون، ومع هذه الحركة، إذا ما كانت معتمدة كتأسيس للانطلاق، تتم السيرورة، وترتقي الحقيقة، فلا تبقى هي ذاتها في كل المراحل، مادامت الأنظمة تتعاقب، وتجتاز السياق التاريخي مرحلة بعد أخرى، في الصيرورة التي تمضي بنا على غير إرادة منا، ونمضي نحن معها دون توقف، إنما ليس بتأثير الماوراء فحسب، بل بتأثير من البشر جماعات وأفراداً. ‏

أخلص من هذا إلى شيء ألفتكم إليه، هو التجربة في الثقافة، فالتجربة الثقافية مقترنة أبداً بالتجربة السلوكية، ومن لا يفهم عصره، بعد أن يفهم تاريخه وتراثه، ليس في وسعه أن يفهم العالم من حوله، وليس في وسعه، بقدر أكبر، أن يفهم بيئته نفسها، وعندئذ لا يكون في مقدوره أن يبدع، فالإبداع له شروط، أولها وأهمها أن يعي المبدع شرطه الإنساني، وشرطه التاريخي، وأن يتماهى هذا الوعي مع ذاته الإبداعية، أن يصير هو إياها، وأن يلاحظ، بدقة شديدة، كيف ينعكس كل ذلك في الدوافع التي تحرك الشعوب والأمم، وتالياً الناس الذين منهم أبطاله، وهذا الانعكاس يستخفي في سياق العمل الأدبي والفني، يأتي بدلالة الحدث، لا بالصراخ أو الافتعال، أو التلقين، أو تقويل الإبداع ما يريد أن يقوله هو المؤلف، أدبياً وفنياً! ‏

هل هذا من التنظير؟ ربما لكنه يأتي في السياق، حين الكلام على التجربة الروائية، وهذا السياق سيخلص إلى التجربة وحدها، لذلك للحديث تتمة.

حنا مينه

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...