باولو كويلو: لا أرى سوى الوردة

06-01-2009

باولو كويلو: لا أرى سوى الوردة

تناولت عشائي للتوّ وأنا أحتسي الآن القهوة وأتأمل اللوحة أمامي: لقد وُضعت في النهر وتُركت هناك لعامٍ كامل في انتظار أن تضع الطبيعة لمستها الأخيرة على عمل الرسام. حتّ نصف اللوحة تقريباً بفعل المياه والطقس الرديء، ففقدت أطرافها توازيها، وعلى الرغم من ذلك لا يزال في امكاني رؤية جزء من تلك الوردة الجميلة المرسومة على خلفية ذهبية. أنا أعرف الفنانة التي رسمتها. أتذكّر يوم ذهبنا معاً في عام 2003 الى احدى غابات البيرينيه واكتشفنا ذلك الخليج الصغير الذي كان جافاً آنذاك فعمدنا الى اخفاء قماشة الرسم تحت الحجارة التي كانت تغمر ضفاف النهر.
أعرف الرسامة شخصياً، انها كريستينا واتيسيكا. في هذه اللحظة بالذات تبعد كريستينا عني ثمانية آلاف كيلومتر لكنها في الآن عينه موجودة في كل مكان حولي وهذا ما يشعرني بالسعادة: فبعد مضي 29 عاماً على زواجنا، ازداد الحب الذي يجمعنا، صار أقوى من أي وقت مضى. لم أتصوّر قط أن في امكان هذا أن يحصل: خضت سابقاً ثلاث علاقات حبّ لم تنجح أيٌّ منها. كنت مقتنعاً أن الحب الأبدي مستحيل، الى أن أتتني عشية ذلك الميلاد كما لو أنها هدية أرسلها اليَّ ملاك. اصطحبتها الى السينما، مارسنا الحب في اليوم نفسه. قلت لنفسي انها علاقة عابرة. خلال سنتين بقيت أتوقّع باستمرار أن يبادر أحدنا الى التخلّي عن الآخر. بعدها بخمس سنوات دمت أفكّر في أننا نعيش حالة حبّ لن تستمر وسيذهب كلٌّ منا في اتجاه. كنت مقتنعاً كلياً بأن أيّ التزام بعلاقة جدية سوف يجرّدني من حرّيتي وسيمنعني ذلك من اختبار ما أرغب في خوضه.
مرّت تسعة وعشرون عاماً ولا أزال أملك حريتي، ذلك أنني اكتشفت أن الحب لا يأسرنا أبداً. أنا حرّ بأن أدير رأسي ليلاً نحوها وأتأملها وهي نائمة الى جواري، تماماً كما تبدو في الصورة التي وضعتها لها على هاتفي الخليوي. أنا حرّ في الخروج والاستمتاع بجولة ما وحرّ في أن أناقش وأحياناً في أن أجادل بحدة. أنا حرّ في أن أحبّ كما لم أفعل من قبل، وهو ما يشكّل في حياتي فارقاً عظيماً.
لنعد الى اللوحة والنهر: ذاك كان صيف 2002، كنت آنذاك كاتباً مشهوراً وميسوراً مادياً ويغمرني الشعور بأن قيمي الانسانية ثابتة ولم تتغيّر، انما كيف كان عليّ أن أتيقّن؟ بالتجربة. استأجرنا غرفة صغيرة في فندق باريسي بنجمتين، ثم دأبنا كل عام على تمضية خمسة أشهر متواصلة في الفندق نفسه. ولأن خزانة الثياب لا يمكن أن تنمو وتكبر، اضطررنا الى الاكتفاء بالحد الأدنى من ثيابنا. كنا نتيه في الغابات ونتناول العشاء في الخارج ونصرف ساعات بأكملها في المحادثة ونقصد السينما يومياً. بساطة كل هذه الأمور أكّدت لنا أن أكثر الأشياء المصطنعة في العالم هي تحديداً تلك التي في وسع الجميع تحقيقها. الكومبيوتر المحمول كان كل ما أحتاج اليه في عملي، لكن صودف أن زوجتي رسامة، والرسامون يحتاجون الى محترفات فسيحة ليعملوا ويودعوا فيها أعمالهم. لم أشأ لزوجتي أن تضحّي بعملها من أجلي، لذا اقترحت عليها أن نستأجر مكاناً أوسع. لكنها تطلّعت حولها متأملةً الجبال والوديان والأنهار والبحيرات والغابات وقالت: لِمَ لا أرسم هنا؟ لِمَ لا أشرك الطبيعة في عملي؟ من هنا ولدت فكرة "تخزين" أقمشة الرسوم في الهواء الطلق. حملت كومبيوتري وبدأت الكتابة، ركعت هي على العشب وشرعت ترسم. بعد مضيّ عام، حين رفعت الرسوم الأولى كانت النتيجة رائعة واستثنائية.
عشنا في ذاك الفندق الصغير طوال عامين يستحيل عليّ نسيانهما. بقيت زوجتي تدفن لوحاتها تحت الحجارة، ليس بداعي الحاجة انما لأنها اكتشفت تقنية جديدة. الأمازون، مومباي، الطريق الى سانتياغو، لوبيجانا، ميامي. هي اليوم بعيدة عني لكنها غداً أو بعد أسبوع سوف تصبح قريبة مني مجدداً، ولسوف ترقد بجانبي سعيدة لأن رسوماتها باتت مشهورة في العالم.
في هذه اللحظة بالذات لا أرى سوى الوردة. وأشكر الملاك الذي أهدى اليَّ عشية ميلاد 1979 أمرين: القدرة على أن يتّسع صدري، والشخص المناسب ليملك قلبي.
سنة سعيدة للجميع 2009.

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...