الخيام من التفاني إلى بحث عن عالم الحلم

29-06-2011

الخيام من التفاني إلى بحث عن عالم الحلم

حين ينتشي الصوفي من حب أو خمرة أو عبادة يخرج من عباءة الدروشة ليتجاوز حدود الزمان والمكان، ويسقي نخب نشوته التي أمضى عمراً غير مقدر في استخلاص قمته وسلافته.. يباهي بنخبه، لكنه يؤثر البخل لتبقى أولى الأنخاب له جزاء حرمانه وتصوفه ودروشته.. ولكن عبثاً يحاول تجذب يد القوة منه النخب الأول وربما الثاني والثالث، وقد لا يبقى للمتصوف سوى مذقة من نبيذ ملون بالدم، لكن صوفيته تجعل هذه البقية صالحة للعشق والهيام والخروج إلى عوالم غير محدودة..!
 
يسخرون من الصوفي وفعله..!
يفرحون وقد سلبوه أول شربة من تصوفه..!
لا يدركون أن الصوفي ثملٌ بصوفيته، فرح بما سكن روحه من ذوب العرفان وألم الاكتواء بالعشق.. يترك لهم كل شيء ويهيم بحثاً عن حب يناجيه لعله يكون طريق العرفان إلى الله..

الحاشية والحشاشة والكأس
يا لهذا القلب البئيس المعنّى
لم يُفق من هوى الحبيب القاسي
مذ أداروا سلافة الحب قدماً
ملؤوا من دم الحشاشة كاسي
يا خمرُ ما أحلاك وسط زجاجة
تالله أنت عِقال عقل الحاسي
لا تمهلين من احتساك هنيهة
حتى تبيني كنهه للناسِ
هكذا يحلّق عمر الخيام 517 هـ في عوالم خمرة الروح والجسد، الشراب والإحساس بحثاً عن وصال حبيب قسا، لعلّ دم حشاشته يعود إليه، ولا تخلو رحلة بحثه هذه التي صاغها شعراً وعقلاً أحمد الصافي النجفي، وحرص فيها على العقل أيما حرص، لا تخلو من وصف مزدوج لكنهِ الخمرة وكنه الشارب، سواء كانت الخمرة شراباً أم وصالاً عرفانياً، فالخمرة داخل زجاجة تبين وتظهر للرائي، فلا يبقى منها داخل الزجاجة ما يستر خفاياها.. وكذا الخمرة العارية داخل الزجاجة تتحول ذات لحظة إلى كاشف حقيقي لدواخل الإنسان وحقيقته، وما بين نيل المنى وبقاء الهدف حلماً ومستحيلاً تعشش خمرة التصوف ولذته وسلافته في جوارج الخيام فيقول:
يا قلب هب أنك نِلتَ الأمَلا
وروض أفراحك بالنبّت حلا
فلستَ في روض الهنا سوى ندى
هوى لدى الليل وفي الصبح علا
بادر زمانك واحسُ الراح صافيةً
فالعمر يومان لن تلقاه إن كَمُلا
تدري بدنياك نحو العُدم سائرةً
فكن نهاراً وليلاً بالطلا ثمِلا

النفس والنفيس والكدر
ومن عقلية النجفي ومحاكمته المنطقية إلى غنائية أحمد رامي وتحليقه في عالم اللحون العذب يبقى الخيام عالماً من النفس بعيدة الغور، والنفيس من الحب والشراب وطريق الوصول
يا نفس ما هذا الأسى والكدر
قد وقع الإثم وضاع الحذر
هل ذاق حلو العفو إلا الذي
أذنب والله غفا واغتفر
نلبس بين الناس ثوب الرياء
ونحن في قبضة كفّ القضاء
وكم سعينا نرتجي مهربا
فكان مسعانا جميعاً هباء
بين النجفي ورامي يبقى عمر الخيام ذلك الباحث عن لذة الخطأ، ولذة التسول أمام باب القادر للحصول على الغفران، ومن الخيام سمعنا من أخذ، أو الخيام وصاحبنا القائل:
إن كان لا يرجوك إلا تائب فيمن يلوذ المجرم
كلاهما أخذ من بصدر واحد هو المنهل الذي أراد للعبد أن يكون عاصياً في حمى خالقه أو المتحكم بأمره ليمتعه ويشعره بالقدرة والمغفرة!!
أيهما يكون الأساس؟
منطق الحياة والحكمة والعلم عند الخيام؟
أم منطق التماهي بين المحب ومن يحب؟
إحساسان ينتابان المتصوف المتفاني في ذات أخرى، أو في ذوات أخرى متعددة، لكنهما طريقان للوصول إلى نشوة الشعور بالذنب وإعلانه للمتحكم لعله يمنح المذنب عفوه ويخلّص النفس من شوائبها وكدرها، ويعيدها نفيسة بانتظار اقتناص الذنب مرة أخرى، وعندها يتحول الذنب إلى طريق للوصول إلى الرضا والمغفرة والنشوة.
الألم بانتظار الأمل

يعيش الصوفي كما كل البشر، يسعد، يبكي، يتألم، يفرح، وعندما يخلو إلى ذاته، لا يخلد إلى نوم، بل يبحث عن أمل البقاء في لحظة النشوة، وعندها يطرح أسئلة الوجود والبقاء والنقاء، ويجلس باحثاً عن الفاعل الذي يمنحه فرصة حقيقية ليبقى في إطار المذنب والمغفور له.. وتنداح أسئلة الوجود من الخيام الذي مزج ببراعة بين ما هو داخل النفس والروح، وما هو سلوك للذات يأبى الحكيم الوصول إليه.. الخيام الذي استمتع بخمرة الوصول إلى الذات الأخرى أو الذات الإلهية، وسواء كان النجفي ناقلاً أم رامي، فإن الروح التائقة إلى معرفة الخواتيم والنتائج في ذاتها، وها هو النجفي يصوغ قدر الخيام وكدره:
لم يبق مني في الدنيا سوى رمق
وليس في اليد من صحبتي سوى الكدر
لم يبق لي من طلا أمسي سوى قدح
ولست أعلم ما الباقي من العمر
العمر والبقاء، الباقي والقادم، المستهلك والمكنوز، أمور يقف عندها الخيام في رباعياته، فيراه أحدهم خمرياً، ويراه أحدهم دهرياً ويراه أحدهم صوفياً، ولكن البحث عن كل هؤلاء هو حقيقة الخيام العالم الرياضي، والذي عرف لذة الحياة والتصوف والعرفان، وبدأت الجدلية عنده من المنطلق إلى المآل، وهذه الأسئلة التي أطلقها، وإن كانت شعراً في رباعياته، إلا أنها تعطيك القدرة على فهم مفعول الصهباء والطلا الذي لا يتجاوز حدود العرفان، ولا يصل إلى حد السكر والهذيان، وإن كان لهذا الحد عند الخيام ما يسوغه من التماهي واللوعة والخيبة، وها هو رامي ينشد بغنائيته، ولكن لا يخرج عن عالم الخيام:
إذا انطوى عيشي وحان الأجل
وسدّ في وجهي باب الأمل
قرّ حباب العمر في كأسه
فصبها للموت ساقي الأزل
أفنيت عمري في ارتقاب المنى
ولم أذق في العيش طعم الهنا
وإنني أشفق أن ينقصني
عمري وما فارقت هذا العنا
باب الأمل، حباب الكأس والعمر، ساقي الأزل، الأمنيات، السعادة، العمر، الموت، التعب والعناء.. مفردات رباعيتين للخيام يلخص فيهما الرحلة الخيامية بين الرجاء والانتظار، والارتقاب والخوف، السعادة والكأس والخشية، وهذا ما جعل الخيام يعطي وصفته الخمرية:
الخمر توليك نعيم الخلود
ولذة الدنيا وأنس الوجود
تحرق مثل النار لكنها
تجعل نار الحزن ماء برود

البحث عن بقاء مرتجى
لهيب الخمرة وحرقها له ما يسوّغه عند الخيام والخمار، وهي تحويل النار إلى برودة، وما من عبث قوبلت النار بالبرد والسلام من إبراهيم إلى زماننا، فنحن كما يرى الخيام عند لذة الكشف نمشي إلى أقدار مصنوعة لنا، مفروضة علينا، من عالم مدرك أو عالم غير مدرك، فأنت أمام لحظة لا تدري مرسلها، لكنك تعيش حالتها:
أولى بهذا القلب أن يخفقا وفي ضرام الحب أن يحرقا
ما أضيع اليوم الذي مرّ بي من غير أن أهوى وأن أعشقا
سارع إلى اللذات قبل المنون فالعمر يطويه مرور السنين
ولستُ كالأشجار إن قلّمت فروعها عادت وطاب الغصون
لهيب الأيام واحتراق العمر في حال الحركة والسكون، في الفعل أو الانفعال هو ما يؤرق الخيام الذي دخل الذات فصار متحركاً فيها يعرف حقيقتها، فالحياة بحاجة إلى خمرة للروح أكثر من حاجتها إلى شراب لا يُبقي على الذات لذا يدعو إلى خفقان وعشق، ويندب اليوم المتصرّم دون أن يحظى بلذة العشق والتماهي مع الآخر، وهذا لم يأت عند الخيام من فراغ، بل من قراءة منطقية للحياة، فهي إلى انتهاء واحتراق يخترقها سهم المنية ليحولها إلى لحظة من الفجيعة عندما نقف فوق رأس من نحب نندب أنفسنا من خلاله أكثر من بكائنا عليه بالفعل.. فعالم الحياة الذي يحرق أيامنا غريب كما يرى الخيام، وكل يوم يحترق لا يكتفي بنفسه بقدر ما يحرق منا، وربط الشبه والمقارنة بالأغصان غاية الحكمة، فتقليم الشجر يجعله أكثر فوراناً وحياة.. وتقليم الإنسان يقربه من المنون ويحرمه من اللذات، والأقسى عند الخيام أن تمرّ اللحظات دون أن يقتنص المرء لذاته.

مبارزة مع القدر والذات
الرضا هو المشكلة عند الخيام، ولا يقتصر الأمر عنده على الخاتمة والمنون، بل يصل إلى رثاء الحال، فتقليم الأغصان يحييها، وتقليم أيامنا يقصف الأعمار وإن كنا موجودين، لذا استعار فعل الأمر (سارع) وكأن الأمر مبارزة وهو كذلك فقد تكون أيها المخلوق اليوم قادراً، لكنك غداً غير قادر، وقد تكون أيها المعشوق اليوم مرغوباً، لكنك غداً قد لا تكون مرغوباً، وتصبح إن كنت غير قادر أو غير مرغوب مجرد نادب ليوم مضى ولذة مفتقدة، ولكن عندما تقلّم أيامك بنفسك تغالب النفس ولا ترتجي تغيير شيء.. وهو هنا يرفض تصرف الحمق لدى الإنسان في التسويف، لأن شروق الشمس وغروبها يحرق الذات، بل يحرق الجميل من الإنسان، فهل تنتظر أيها المعشوق الغد والقادم؟ هنا أفهم قول المتصوف: أحترق الأمس واليوم لا يغني عنه والسرّ ضاع فيه، سارع أيها الإنسان إلى الاقتناص ولا تخرم حياتك بتسويف، فالغد أقل.. والغد عجز فلا تنتظره.. كذلك يقول الخيام، وربما كان هذا وراء وصفه بالخروج والمروق، وانظر إليه حين يرجو أن يكون قادراً.
لو كان لي قدرة رب مجيد
خلقت هذا الكون خلقاً جديد
يكون فيه غير دنيا الأسى
دنيا يعيش الحر فيها سعيد
أدرك الخيام ما لا يمكن إنكاره، قاله وقرأناه وحكمنا عليه، هو زنديق معلن، ونحن مقبولون، لكن الخيام تمنى لنا حياة أخرى والمعشوق يدلف إلى ذاته تاركاً للغد لذة لا يدري أنها تموت وتذوي.. ويرى أن اليوم والأسبوع والشهر قدر قليل في الحياة، ولا يدري أن الحياة انتهاء.. ولن تتبدل الأحوال بالأمنيات عندما تقلّم الأيام أعمارنا ونجلس نستجدي نظرة عشق، ولكن.. تحترق الأعمار ونعزي أنفسنا بلحظة أبوة أو أمومة، وربما ببكاء حارق في لحظة فارقة على جسد مسجى ليس فيه سوى أمنياتنا التي أضعناها..!

اسماعيل مروة

المصدر: الوطن

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...