إنهم ينتظرون موتك

03-08-2009

إنهم ينتظرون موتك

في البدء كان الإعلان

نشر إعلان موتي في جريدة الصباح كان والدي المتوفى منذ عشر سنوات ينعي ابنه الغالي، الذي هو أنا، عن عمر يناهز الخمسين عاماً، ويحدد يوم غد موعداً لانتقالي إلى جواره.

تنهدت بارتياح بعد أن قرأت الإعلان.

. . . . .

اليوم الأول

. . . .

- زوجتي رفعت رأسها عن الجريدة وقد ظهر الضيق على وجهها:

- ولماذا غداً؟ قالت.

- وما المشكلة؟ قلت.

- لدينا سهرة، أنسيت؟

- آه تذكرت.

- سنضطر إلى تأجيل السهرة.

- للأسف.

. . . . .


إبني دخل إلى المطبخ صائحاً كعادته:

- الإفطار جاهز؟

- جاهز اجلس، زوجتي أجابت.

- ابني جلس، زوجتي جلبت له الشاي وصبت لي أيضاً.

- سوف يموت غداً. زوجتي تحدثت.

- من؟ ابني سأل.

- أبوك.

- نظر إليّ مستفسراً، هززتُ رأسي له مؤكداً. ابني ضحك وعلق:

- هكذا أنت يا أبي لا تتغير، دائماً مستعجل.

- هم الذين حددوا التاريخ لا أنا.

- هل أنت متضايق؟

- لا.. ولكن يجب أن تساعدني في ترتيب بعض الأمور كي أكون جاهزاً في الموعد المحدد.

- متى موعد الجنازة؟

- بعد صلاة الظهر، غداً.

- الحمد لله لن يفوتني موعد الغداء مع خطيبتي.

- زوجتي علّقت بضيق:

- هذا يعني أنني سوف أتغدّى لوحدي غداً.

- أمي لا أستطيع تفويت هذه الفرصة، فالدعوة منها، والتفت إليّ.

- بماذا يمكن أن أساعدك يا أبي؟

- هناك أولاً الوظيفة يجب أن أقوم بالتسليم وإنهاء عملي، ثم هناك مكتب دفن الموتى، وأخيراً طبع أوراق النعوة وتوزيعها..

- أنا سأقوم بتوزيع هذه الأخيرة، ابني أجاب وتابع: أعطني خمسة آلاف.

زوجتي صفرت ثم علقت:

- كثير.

- يا أمي الورق غال، والطباعة مكلفة. ابني رد على زوجتي.

- هذا صحيح وافقت أنا على كلامه وتابعت: أعطه المبلغ وأعطني ما تبقى معك كي نسدد تكاليف الدفن للمكتب.

- على هذه الحالة سيذهب كل ما وفّرناه، زوجتي علقت ساخرة.

- وماذا سنفعل؟ أجبت: الموت أصبح مكلفاً هذه الأيام.

تابعنا إفطارنا.

. . . .

في الوظيفة

 

ما إن رآني زميلي في الدائرة حتى نهض من خلف مكتبه واتجه نحوي معانقاً.

- ألف مبروك.

- الله يبارك فيك.

- قرأت الخبر في الجريدة ولكن يا خبيث كيف دبرت الأمر بهذه السرعة، الناس ينتظرون أشهراً وأعواماً ولا يأتيهم الدور، واسطتك قوية على ما يظهر.

- انتفشت ثم همهمت وغمغمت مبتسماً له ومضيعاً الجواب، ثم قلت:

- والآن يجب أن أقوم بالتسليم و.. ولم يدعني أكمل كلامي:

- أعرف أن وقتك ضيق، وقد قمت بإنجاز معاملتك وهي جاهزة الآن وما عليك إلا أن تُوقِّع.

- عظيم أنا شاكر لك.

- وقد وافق رئيس الدائرة على أن أستلم مكانك.

- مبروك.

- الله يبارك فيك، أجابني وهو يعطيني الأوراق كي أوقعها.

وقعت وانصرفت.


. . . . .

مسـاء

 

وأنا عائد إلى البيت بعد أن أنجزت كل المعاملات المتعلقة بموتي. توقفت أمام الأوراق الملصقة على الحائط وقرأت:

إنا لله وإنا إليه راجعون

ابن المرحوم

زوجة المرحوم

أقرباء المرحوم

زملاء المرحوم

ينعون إليكم بمزيد من الأسى واللوعة وفاة فقيدهم الغالي..

الفقيد الغالي.. تعبير مؤثر.

. . . . . .

ليلاً.. في غرفة النوم

 

لزوجتي قلت: ماذا ستفعلين بعد موتي؟

- لا أدري بعد. زوجتي أجابت.

- ألم تفكري في هذا الموضوع؟

- بلى فكرت..

زوجتي صمتت بعدها، انتظرتُ أن تكمل، بقيتْ صامتة سألتها:

- ألا تفكرين في الزواج؟

- وهل تريدني أن أبقى وحيدة؟

- لا.. من؟

زوجتي نظرت إليّ مستفهمة، فأجبت:

- من ستتزوجين؟

- لا أدري.. ولكنني سأبحث..

- رجل مثلي؟

- لا.

- لا؟

- أريد حياة أخرى أقل شقاء.

صمت، فكرت، سألت:

- ألم نكن سعيدين؟

زوجتي نظرتْ إليّ، حدَّقتْ بي، غاصت في عيوني عميقاً، ثم سألتني:

- هل كنا كذلك؟

شعرت بملوحة في فمي..

. . . . . .

اليوم الثاني

. . . . .

صباحاً

 

زوجتي سألتني: هل تريد أن تفطر اليوم؟

لم أفكر بالجواب، ولكنني فكرت بالسؤال طويلاً.

ابني تناول إفطاره، زوجتي أيضاً.

. . . .

 

جيراني توافدوا على البيت، ألقوا نظرة علي ثم خرجوا.

. . . . .

قبل الظهر


- ابني نظر إلى ساعته وعلّق:

- لقد تأخروا.

- زوجتي أيضاً نظرت إلى ساعتها ثم رفعت رأسها نحوي:

- اتصل بهم يا رجل واسألهم لماذا تأخروا.

رفعتُ سماعة الهاتف واتصلتُ بمكتب دفن الموتى، سألتهم، اعتذروا،

أغلقت السماعة ووقفت:

- يجب أن أذهب إليهم فلديهم مشكلة كما قالوا.

- نظر إليَّ الاثنان باستغراب ولم يُعلّقا، خرجت من البيت.

. . . . . .

في مكتب دفن الموتى

 

- يجب أن تؤجل موتك: قال لي رئيس المكتب.

- لماذا؟ سألت.

- نحكي بصراحة؟

- نعم.

- هناك شخص آخر سوف يدفن اليوم بدلاً منك.

- لماذا؟ قلت بدهشة واستغراب، لقد أعلنت الجريدة عن اسمي أنا.

- أعرف ذلك ولكن الشخص الآخر أتى إلى هنا ورجانا أن ندفنه اليوم بدلاً منك وقد دفع لنا مبلغاً من المال لم نستطع أن نقاوم إغراءه، وقد طلب منا أن ندفع لك جزءاً منه.

- ولماذا هو مستعجل إلى هذه الدرجة؟

- قال إنه يريد أن يموت دون إعلان عن موته.

. . . . .

خارج مكتب دفن الموتى


خرجت من المكتب.. توقفت، إلى أين أسير؟ لا أعرف..

فكرت لا أحد يحتاجني. وقفت أنتظر..

 

علاء الدين كوكش

 علاء الدين كوكش: مخرج تلفزيوني ومسرحي سوري، يكتب المسرحية والقصة والقصيرة، له مجموعة مسرحيات مطبوعة، ومجموعة قصصية بعنوان: (إنهم ينتظرون موتك)

إقرأ أيضاً:

الثقــب

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...