أيتام السياسة في العراق

16-12-2006

أيتام السياسة في العراق

قبل أسابيع كان رئيس البرلمان العراقي محمود المشهداني يتحدث في لقاء تلفزيوني عما أسماه المراهقة السياسية لأحد الأحزاب السياسية العربية السنية قبل أن يستدرك ليشمل الجميع، على اعتبار أنهم ولدوا سياسياً بعد الاحتلال، وكانوا غائبين عن عوالم السياسة قبل ذلك، ربما باستثناء قلة منهم كانوا في الخارج واقتصرت سياستهم على حوارات هنا وهناك بدأت عملياً قبل الاحتلال بأعوام قليلة.

كلمات المشهداني كانت لافتة للانتباه بالنسبة لكاتب هذه السطور الذي سبق أن استخدم المصطلح ذاته (المراهقة السياسية) في سياق وصف السلوك السياسي للقوى السياسية العربية السنية، لاسيما تلك المنضوية فيما يعرف بجبهة التوافق العراقية.

الأمر الذي جرّ عليه الكثير من الحملات من قبل القوم من دون أن يتقدم أصحابها بخطاب مقنع، ليس لأمثالي فقط ولكن لقواعدهم التي لا تملك الكثير من القدرة على المناورة بعد أن سيطرت فئة محدودة على القرار وأخذت تدفعه في الاتجاه الذي تريد.

من الصعب وضع جميع الأخطاء التي ارتكبها أولئك القوم خلال الأعوام الثلاثة الماضية في سياق المراهقة السياسية، لأن في ذلك مبالغة في إحسان الظن، إذ إن ما يحفز الرجال حسب أرسطو هو الخوف والمصلحة.

وهناك من بين رموز العرب السنة من سار في توجهات ودعم قرارات من منطلقات شخصية وأحياناً حزبية، وليس فقط تبعاً لاجتهاد سياسي يضعه ضمن دائرة المقولة الشرعية التي تمنح المجتهد أجرين إذا أصاب وأجراً واحد إذا أخطأ.

وليس في هذا القول محاسبة للنوايا بحال، وإنما هي القراءة الموضوعية للتاريخ والأحداث، ونحن هنا لا نسمي أحداً باسمه، ولكننا نتحدث بشكل عام، داعين الله أن تنطبق على الجميع مقولة الاجتهاد ليكونوا من أصحاب الأجرين، أو الأجر الواحد على الأقل.

مؤخراً كنت أقرأ مقابلة لواحد من هؤلاء، فكانت الخلاصة العظيمة التي وصل إليها والتي قيل لي إنه يبشر بها في كل مكان هي أن جميع المصائب التي حلت بالعرب السنة قد جاءت نتاجاً مقاطعتهم للعملية السياسية (لم يقاطعوا سوى الانتخابات الأولى!!)، وهو ما يعني بمفهوم المخالفة أنهم لو شاركوا في تلك الانتخابات لكانوا اليوم في أحسن حال وأهدأ بال!!

صاحبنا هذا وهو رجل فيه سمات الإخلاص لدينه وأمته دخل العملية السياسية وهو لا يملك من أدواتها شيئاً يذكر، إذ كان يرى أن صدام حسين كان عميلاً للأميركان واليهود، وهي المعادلة ذاتها التي كان الحكام العرب يطبقونها، هكذا بكل تبسيط.

واللافت هنا أن حزب صاحبنا هو أول من دشن دخول العرب السنة في العملية السياسية، بل منحها الشرعية عندما شارك في مجلس الحكم الذي أنشأه الاحتلال بعد انطلاق المقاومة العراقية واتضاح عبثية الحديث عن انتداب عسكري على البلاد لبضع سنوات يستخدم خلالها منصة لاستهداف الدول العربية الأخرى، فضلاً عن إيران.

هكذا يتجاهل صاحبنا أن حزبه لم يقاطع العملية السياسية، بل شارك باسم العرب السنة ومنح الشرعية لمجلس الحكم لحشرهم تبعاً لذلك في نطاق 20%، أي في نطاق الأقلية، وبالطبع ضمن معادلة سياسية غدت بعد الاحتلال رهينة صفقات متوالية بين فئتين تسعيان إلى تقسيم العراق.

الأولى تمثلها القوى الشيعية القادمة مع الاحتلال، ويتصدرها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية (لم تعد الثورة الإسلامية تذكر في الآونة الأخيرة). أما الثانية فتمثلها القوى الكردية التي لا تريد الانفصال وحسب، بل تريد المزيد من الأرض والثروات، بصرف النظر عن طبيعة ارتباطها الشكلي مع المركز العراقي.
في معظم الحالات المشابهة للاحتلال العراقي طرح سؤال المشاركة في المسار السياسي الذي يصنعه المحتلون منذ اللحظة الأولى، فكان أن شارك بعض القوى بينما ذهب آخرون في اتجاه المقاومة، لكن العرب السنة لم يقاطعوا العملية السياسية في واقع الحال، ولو فعلوا لأفقدوها الشرعية، إذ كانت مشاركة الحزب الإسلامي في مجلس الحكم، وفي الحكومة الانتقالية لهم بالمرصاد.

بعد وضع مقاطعة الانتخابات الأولى كسبب مباشر لمصائب العرب السنة، يميل أصحاب هذا الطرح إلى تحميل هيئة علماء المسلمين مسؤولية ما جرى (هنا يعترفون بأهميتها، في حين يؤكدون هامشيتها في سياقات أخرى)، لكنهم يتجاهلون ماهية المسار الآخر في حال وقعت المشاركة في ظل رفض شعبي لها بعد اجتياح مدينة الفلوجة، واستعداد وافر لدى الطرف الآخر للتزوير، وحيث لم يكن يتوقع حصول العرب السنة على ما هو أكثر من 20% (سيكون الرقم أقل من ذلك)، مما يعني تأكيد حشرها في دائرة الأقلية والاستخفاف بهم بدل المقاطعة التي كرست مسار المقاومة ومنحته ومعه حاضنته الشعبية الفيتو الدائم على العملية السياسية اليوم وغداً وبعد غد، مع رفض منطق الأقلية والأكثرية في بلد متنوع الطوائف والأعراق ولم يخضع لإحصاء على أساس طائفي وعرقي.

قد يكون من المناسب الإشارة هنا إلى أن هؤلاء الذين كرسوا معادلة الـ20% سياسياً، أي الأقلية هم أنفسهم الذين طالما أصروا على أن العرب السنة في العراق هم نصف السكان أو أقل من ذلك بقليل، والنتيجة أنهم يدينون أنفسهم أكثر من أي شيء آخر، مع العلم أن ظاهر الموقف لا يقول بذلك، فيما يسفه من جهة أخرى تلك النسب التي تصر عليها القوى الشيعة القادمة على ظهر دبابة الاحتلال، والتي تقول إن الشيعة يشكلون 65% من السكان!!

ما ينبغي أن يتذكره سياسيو العرب السنة إياهم هو أن ما نزع عن المقاطعة الأولى قدرتها على الفعل والتأثير هو اندلاق أولئك السياسيين على المحتل والمتعاونين معه، ليس فقط بالمشاركة في مجلس الحكم والحكومة الانتقالية، وإنما من خلال مختلف أشكال التعاون السياسي الذي كان يأتي في سياق الزعم بتحقيق المكاسب للعرب السنة في مواجهة إرادة الإقصاء.

لقد تعامل هؤلاء مع سياسات الاحتلال كأنها مشيئة إلهية لا راد لها، مع العلم أن المقاومة كانت أقدر على التأثير لو شفعت بإرادة سياسية قوية وعمل شعبي سلمي واسع النطاق، لكنهم تعاملوا مع المحتل والقوى المتعاونة معه من منطلق الضعف، والسبب هو ابتعادهم عن المقاومة وعجزهم عن التعبير عنها وإقناع قواها بجدوى مشاركتهم السياسية، ولذلك جاءت حصيلة مشاركتهم بائسة إلى حد كبير.

لقد شارك هؤلاء بقوة في الانتخابات التالية، وحصلوا على دعم المحتل الذي أراد الموازنة مع النفوذ الإيراني الداعم لبعض القوى الشيعية، كما أقبل العرب السنة على المشاركة بقوة هذه المرة على أمل تحقيق بعض المكاسب السياسية، لكن النتيجة كانت بائسة أيضاً، قياساً بالأهداف التي طرحت لتبرير المشاركة، وهي أولاً مواجهة عمليات القتل والتعذيب والاعتقال، وثانياً مواجهة عمليات التهميش في الدولة ومؤسساتها.

على الصعيدين لم يحقق هؤلاء شيئاً مذكوراً حتى لو عددوا مكاسب هامشية لا بد أن تمنح لهم من قبل المحتل والمتعاونين معه كي يقتنعوا باستمرار المشاركة، وبالتالي تشريع اللعبة القائمة، بدليل عمليات القتل والاختطاف التي ازدادت حدة (واقعة وزارة التعليم العالي التي يتزعمها وزير من التوافق خير دليل)، ويدرك المراقبون أنها أكثر بشاعة من المفخخات العشوائية في بعض مناطق الشيعة، نظراً لأن الأولى تركز على نخبة العرب السنة.
أما واقع التهميش فتفضحه الوزارات التي شاركوا فيها وصار وزراؤها ودورهم موضع تندر في أوساط العرب السنة، فضلاً عن المناصب الشكلية الأخرى كحال النائب الأول لرئيس الوزراء، أو نائب الرئيس الذي فقد ثلاثة من إخوته شهداءَ تقبلهم الله.

هكذا تبدو حصيلة المشاركة بائسة، وقد جاء تشريع الدستور، دستور التقسيم، ومن بعده الفيدرالية ليؤكد فشل مشاركة ضعيفة قامت على الخوف من المحتل وعدم التواصل مع المقاومة، أما محاولة تدارك الموقف فيما يتعلق بالفيدرالية من قبل جبهة التوافق فكانت فاشلة أيضاً، لاسيما إثر تمريرها المشروع في قراءته الأولى بناء على تفاهمات مع عبد العزيز الحكيم والأكراد.

وبذلك يتواصل العبث الذي تمارسه القوى العربية السنية خاصة جبهة التوافق، وإذا لم تعد هذه الجبهة النظر في مسار عملها كله فستكون الحصيلة سيئة على المدى القريب والمتوسط، وتعدلها على المدى الأبعد سوى قوى المقاومة وهيئة علماء المسلمين التي تتعامل مع الموقف بمنطق القوة والثقة وليس الضعف والخوف.

صحيح أن الوضع العربي المتراجع لا يزال يلقي بظلاله على هزال القوى العربية السنية، وهو جانب لا يمكن إنكاره بحال من الأحوال، لكن ضعف مواقف قادة تلك الفئة لا يزال عنصراً أساسياً فيما يجري، ولو تداركوا أمرهم وتركوا حكومة المالكي (دعونا إلى ذلك قبل صدور مذكرة توقيف الشيخ الضاري التي تشكل استخفافاً بجميع العرب السنة، بصرف النظر عن الاستدراكات التالية)، لو تداركوا ذلك وعملوا من داخل البرلمان وفي الشارع وأصروا على شطب الفيدرالية والاعتراف بالمقاومة، لكان بوسعهم تحقيق ما هو أفضل للفئة التي يزعمون تمثيلها.

ومن العبث أن يرضى هؤلاء لأنفسهم أن يكونوا شهود زور على تقسيم العراق أو وضعه رهن الحرب الأهلية من أجل إرضاء زلماي خليل زاد أو إيماناً بوعوده التي لن تنجز، أو من أجل مكاسب هامشية يمنحها المحتل لأي متعاون معه، وقد آن لهم أن يشكلوا مع آخرين جبهة عريضة لرفض الطائفية والاحتلال.

لقد آن لهم أن يتجاوزوا لعبة التعويل على المحتل كعنصر توازن على اعتبار أنه حريص على مواجهة النفوذ الإيراني، فقد ثبت أن جميع إستراتيجيات المحافظين الجدد -وزلماي خليل زاد واحد منهم- فاشلة، وستواصل الفشل بدليل أن إيران لا تزال تربح من تلك السياسات.

ولكي نكون منصفين فقد سمعنا خلال الأسابيع الأخيرة ما يشير إلى صحوة في أوساط هذه الفئة، وهو ما يدفعنا إلى التشبث بأمل أن تكون صحوة حقيقية وليست مجرد سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، أو مثل سائر المرات السابقة مجرد تهديدات بالاستقالة أو ترك الحكومة أو العملية السياسية تنتهي إلى لا شيء.

العرب السنة هم عنصر التوازن في العراق، وينبغي أن يرتقي سياسيوهم إلى مستوى حضورهم ودورهم، وإلا فإن المقاومة ومعها هيئة علماء المسلمين ستبقى العنوان الوحيد، ويدرك العقلاء أن تكامل الطرفين في سياق تأكيد وحدة البلد وهويته العربية الإسلامية هو المسار الأفضل.

مرة أخرى نقول إننا نتمنى أن يعاود أصحابنا هؤلاء النظر في سياساتهم، ويستمعوا إلى نصح إخوانهم الحريصين عليهم. والله إننا لا نتمنى لهم إلا كل خير، وللعراق أيضاً ومن ورائه الأمة كذلك.

وإذا كان المشروع الإيراني يشكل خطراً على العراق والأمة مع توفر إمكانية التفاهم معه، فإن المشروع الأميركي الصهيوني أكثر خطورة، ولا يواجه المشروعين سوى المقاومة المدعومة من شعبها وجماهير أمتها، لاسيما حين يدعمها مسار سياسي قوي لا يركن إلى الذين ظلموا من المحافظين الجدد التابعين للأحلام الصهيونية.

ياسر الزعاترة

المصدر: الجزيرة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...