أبعد من الطائفيّة على «الجزيرة» و«العربيّة»

23-06-2014

أبعد من الطائفيّة على «الجزيرة» و«العربيّة»

مع سيطرة تنظيم «الدولة الإسلاميّة في العراق والشام» (داعش) على الموصل، أعلنت كل من «العربية» و«الجزيرة» دخولهما حقبةً «ما بعد طائفيّة»، تصبغ كل مفاصل التغطية الإعلاميّة عبرهما للحدث. يأتي ذلك بعدما كانت القناتان تكتفيان في السابق بتمرير إشارة طائفيّة من هنا، وكلمة مذهبيّة من هناك.مقاتلون من "داعش" (عن الانترنت)
مع بروز «داعش» كنجم إعلاميّ على القنوات العربيّة والعالميّة، شكلت اللغة الطائفية الكتلة الأساس في النشرات الإخبارية، وكلام ضيوف البرامج الحواريّة. وكل ما تبقى، مجرّد حروف جرٍ تجمع بين ذلك الجبل الكبير من التأجيج الطائفي، والتخويف بشبح حرب، يتمّ إلحاقه بعبارة «لا سمح الله».
أبرز تجليات النهج الطائفي العلني ظهر في الموقف المستجدّ من «داعش» في العراق، والمختلف بكليته عن صورة التنظيم في سوريا، حيث يعتبر خصماً عسكرياً وسياسياً متطرفاً للدولة السورية، وللمعارضة من جيش حرّ وغيره من تشكيلات مقاتلة. في الحالة العراقيّة، تركز «الجزيرة» على اعتبار التنظيم ممثلاً لطائفة محدّدة، في مواجهة سياسات المالكي «الإقصائيّة» و«الطائفيّة». كما تفرد مساحة واسعة للتنديد بما أسمته «الفتاوى الشيعية للجهاد ضدّ الإرهاب وحماية المقدّسات»، مرفقةً ذلك بعرض مسيرات لملثمين بزيّ عسكري، يرفعون شعارات تدين بالولاء لمقتدى الصدر والمهدي.
تحمل إحدى حلقات «حديث الثورة» على القناة القطريّة عنوان: «العراق على المفترق.. حرب طائفية أم خارطة طريق؟». يكفي استعراض الأسئلة التي طرحها عبد القادر عيّاض خلال الحلقة، حتى يعلم المشاهد المدى الذي وصلت إليه «الجزيرة» في إذكاء التحليل الطائفي للوقائع. يسأل المذيع ضيفه ناجح الميزان القيادي في «كتلة كرامة»، «ما الذي بقي حتى يكتمل مشهد الحرب الطائفية بدخول المراجع الدينية على الخط، والدعوة إلى ما يفضي إلى حرب أهلية؟». يردّ الميزان قائلاً إنّ الحرب الطائفيّة صعبة الحدوث في العراق، فبرغم أنّ تاريخ البلاد شهد عدّة صدامات طائفيّة، إلا أنّ الكمّ الأكبر من الشعب العراقي لن يذهب إلى حرب طائفية. إجابة يبدو أنّها لم تثلج صدر المذيع فسأل ملحّاً: «لكن ما الذي يمنع؟ على سبيل المثال أي تطوّر في المرقدين في سامراء قد يؤدّي إلى ذلك. التهديدات بأن بغداد والنجف سوف تكونان المحطات القادمة قد يؤدّي إلى ذلك، دعوة وكيل السيستاني إلى التعبئة لأجل التصدي لمن يصفهم بالإرهابيين قد يؤدي إلى ذلك، وبالتالي ما الذي يمنع؟».
تتضح محاولات إذكاء البعد الطائفي أيضاً من خلال اختيار ضيوف يتبنون خطاباً واضحاً في مذهبيّته. على سبيل المثال يقول ضيف «الجزيرة» محمد العكيلي إنّ «كلام السيد علي السيستاني كمرجعية في النجف الأشرف واجب شرعي، مثل الصوم والصلاة والحج والزكاة».
ولم تكن الحال أفضل على شاشة «العربية» التي انشغلت بالتخويف من عودة «زرقاوي الشيعة»، واصفةً إيّاه بأحد «أعمدة المباهاة والاستعراض الدموي». وبعد أن تقدم المحطة وصفاً لطول قامته ولون شعره تضيف: «أنصاره يفضلون لقب «أبو درع»، ومصدر التسمية عائد إلى أنه كان يخترق رؤوس ضحاياه بمثقب كهربائي». كما أنّ القناة السعوديّة بنت معجمها الخاص من المصطلحات، مع وصف مقاتلي «داعش» بـ«الثوّار»، والتركيز على دورهم بردّ الاعتبار للطائفة السنيّة، في خطاب مباشر لا يحتمل التأويل.
قد يقول قائل بأنّ القنوات الإعلاميّة «تسمي الأشياء بمسمياتها»، وتنقل واقع صراع القوى الدينية والطائفية في العراق. لكنّ ذلك تجاهل ساذج لدورها الخطير في دعم الدور السياسي لـ«داعش» في المنطقة، من خلال أخذ الشحن الطائفي إلى أعلى مستوياته. يتناسى أصحاب هذا الرأي أيضاً مسؤولية الإعلام في تضخيم بعض التناقضات الثانوية الواهية، على حساب المفاصل التاريخية الحساسة. هكذا، يحثّ المشاهدين على الانشغال بالبعد الطائفي لما يحدث اليوم، وتناسي دور الاحتلال الأميركي للعراق، وسياسات الفوضى الخلاقة التي تظهر تجلياتها في كل نشرة أخبار، وتناسي أهميّة الصراع على ثورة العراق النفطيّة، وعلى موقعه الاستراتيجي، وتدمير متاحفه، ومحاولة جعله ممراً لتكريس تقسيم جديد للمنطقة.
تتجاوز الطائفيّة الإعلاميّة بعمقها اللغة، لتكرس آلية تفكير متكاملة. إذ إنّ النمط المكثف من الشحن الطائفي، يستهدف إحداث انزياح في المعايير لما هو مقبول، وترسيخ ثقافة طائفية مقبولة ومتداولة. من الصعب في هذه الحالة، التعويل على صحوة ما في ضمير الجهات المالكة لتلك الآلات الإعلامية، قد تردعهم عن إثم المساهمة في إشعال المنطقة بحروب دمويّة. التعويل على ما بقي من قدرة لدى المشاهدين على محاكمة ذلك الخطاب، ورفض تجهيل الصراع الأساسي في المنطقة، وهو ليس صراعاً طائفياً، كما تصوّره (تريده) «العربية» و«الجزيرة».

نور أبو فرّاج

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...