سورية: حرب الناتو "الإنسانية" التالية (21)

31-01-2013

سورية: حرب الناتو "الإنسانية" التالية (21)

الجمل - جيروا أو كولما- ترجمة: د. مالك سلمان:


لعبَ القناصة المجهولون دوراً محورياً فيما يسمى "ثورات الربيع العربي". ولكن على الرغم من حضورهم في الإعلام الرسمي, من المدهش غياب أي تركيز جدي على هدفهم ودورهم.
كتب الصحفي الروسي نيكولاي ستاريكوف كتاباً يناقش دور القناصة المجهولين في زعزعة البلدان التي تستهدفها الولايات المتحدة وحلفاؤها من أجل تغيير النظام فيها. تحاول المقالة التالية عرض بعض الأمثلة التاريخية على هذه التقنية بغرض تقديم خلفية تمكننا من فهم الحرب السرية الحالية على الشعب السوري من قبل فرق الموت التي تعمل في خدمة الاستخبارات الغربية.
رومانيا 1989
في الفيلم الوثائقي الذي أعدته سوزان براندستاتر "كش ملك: إستراتيجية ثورة" الذي تم بثه على قناة "آرتي" التلفزيونية منذ عدة سنوات. بين المسؤولون الغربيون كيف تم استخدام فرق الموت لزعزعة رومانيا وتحريض شعبها ضد رئيس الدولة نيكولاي تشاوشسكو.
يجب على كل شخص أن يشاهد فيلم براندستاتر إذا كان مهتماً بمعرفة الكيفية التي تتعاون فيها وكالات الاستخبارات الغربية ومجموعات حقوق الإنسان والصحافة الرسمية في التدمير المنهجي للبلدان التي يقف قادتها في وجه مصالح رأس المال الضخم والإمبراطورية.
تحدث دومينيك فونفيل, وهو عميل سري سابق في الاستخبارات الفرنسية السرية ("الإدارة العامة للأمن الخارجي"), بصراحة حول دور عملاء الاستخبارات الغربية في زعزعة الشعب الروماني:
"كيف تنظم ثورة؟ أظن أن الخطوة الأولى هي تحديد قوى المعارضة في بلد معين. يكفي أن يكون لديك جهاز استخبارات متطور جداً لتحديد الأشخاص الذين يتمتعون بمصداقية كافية للتأثير على الناس وزعزعتهم بطريقة موجهة ضد النظام الحاكم."
تم تبرير هذا الاعتراف الصريح والنادر حول الدعم الغربي للإرهاب على أساس "المصلحة العليا" لرومانيا في استحضار رأسمالية السوق الحر. وبالنسبة إلى المخططين الإستراتيجيين ﻠ "ثورة" رومانيا, كان من الضروري أن يموت بعض الناس.
اليوم, لا تزال رومانيا واحدة من أكثر البلدان الأوروبية فقراً. وينص تقرير نشر على "يوراكتيف":
"يربط معظم الرومانيين العقدين الأخيرين بعملية مستمرة من الإفقار وتدهور المستوى المعيشي, تبعاً ﻠ ‘معهد أبحاث المستوى الحياتي, الروماني, الذي نقلت عنه صحيفة ‘فاينانسيارول’ اليومية."
كما بينَ مسؤولو الاستخبارات الغربية في هذا الوثائقي كيف لعب الإعلام الرسمي الغربي دوراً رئيساً في التضليل الإعلامي. فعلى سبيل المثال, تم تصوير ضحايا القناصة المدعومين من قبل الغرب وتقديم هذه الصور للعالم كدليل على دكتاتور مجنون "يقتل شعبَه".
إلى يومنا هذا, هناك متحف في الشوارع الخلفية في تيميسوارا/رومانيا يروج لأسطورة "الثورة الرومانية". كان وثائقي "آرتي" إحدى المناسبات النادرة تكشف فيها الصحافة الرسمية بعض الأسرار القاتمة للديمقراطية الليبرالية الغربية. وقد أثارَ هذا الوثائقي فضيحة عند بثه في فرنسا, حيث قامت "لوموند دبلوماتيك" الشهيرة بمناقشة المعضلة الأخلاقية للدعم الغربي للإرهاب في رغبته لنشر "الديمقراطية".
منذ تدمير ليبيا والحرب السرية الدائرة على سوريا, وقفت "لوموند دبلوماتيك" على هامش الواجب السياسي الأخلاقي, حيث أدانت بشار الأسد وحملته مسؤولية الجرائم التي ارتكبتها "الإدارة العامة للأمن الخارجي" الفرنسية و "وكالة الاستخبارات المركزية" الأمريكية. في نسختها الحالية, تحمل المقالة الرئيسة على الصفحة الأولى عنوان: "أين هو اليسار؟" ليس في صفحات "لوموند دبلوماتيك" بالتأكيد!

روسيا 1993
خلال الثورة المضادة التي قام بها بوريس يلتسين في روسيا سنة 1993, عندما تم قصف البرلمان الروسي مما أودى بحياة آلاف الناس, اعتمد "ثوار" يلتسين بشكل كبير على القناصة. فتبعاً لعدد كبير من شهود العيان, شوهد القناصة وهم يطلقون النار على المدنيين من المبنى المقابل للسفارة الأمريكية في موسكو. وقد زعم الإعلام العالمي يومها أن القناصة تابعون للحكومة السوفييتية.

ڤنزويلا 2002
في سنة 2002, حاولت "سي آي إيه" الإطاحة بالرئيس الفنزويلي هوغو شافيز في انقلاب عسكري. في 11 نيسان/إبريل 2002, تم تنظيم مظاهرة معارضة باتجاه القصر الرئاسي من قبل المعارضة الفنزويلية المدعومة من الولايات المتحدة. وقد قام القناصة المختبئون في الأبنية المجاورة للقصر بإطلاق النار على المحتجين وقتلوا 18 منهم. زعمت الصحافة الفنزويلية والإعلام العالمي أن شافيز "يقتل شعبَه", مما يبرر الانقلاب العسكري الذي تم تقديمه بصفته تدخلاً إنسانياً. تم التأكد لاحقاً أن "سي آي إيه" هي التي قامت بتنظيم الانقلاب, لكن لم يتم الكشف عن هوية القناصة.

تايلاندا - نيسان/إبريل 2010
في 12 نيسان/إبريل 2010, نشرت "كريستيان ساينس مونيتور" تقريراً عن أحداث الشغب في تايلاندا بين نشطاء "القمصان الحمر" والحكومة التايلاندية. كان عنوان المقالة: "احتجاجات القمصان الحمر تصبح مظلمة بوجود قناصة مجهولين, رتل من الأكفان."
على غرار زملائهم في تونس, كان أعضاء القمصان الحمر في تايلاندا يطالبون باستقالة رئيس الوزراء التايلاندي. بينما أشار التقرير إلى الرد القوي لقوات الأمن التايلاندية على المحتجين, قدمت الحكومة أيضاً نسختها عن الأحداث:
"سردَ السيد أبيسيت القصة في خطابات متلفزة. وقد ألقى اللومَ على مسلحين مارقين, أو ‘إرهابيين’, في تأجيج العنف (قتل 21 على الأقل وجرح حوالي 800) وقد أكد على الحاجة إلى تحقيق كامل في قتل الجنود والمحتجين. وعرض التلفزيون الحكومي صوراً متكررة للجنود وهم يتعرضون لإطلاق النار والمتفجرات."
وتابع تقرير الصحيفة ليقتبسَ المسؤولين العسكريين التايلانديين وبعض الدبلوماسيين الغربيين الذين لم تذكر أسماؤهم:
"يقول المراقبون العسكريون إن القوات التايلاندية وقعت في فخ نصبه لها عملاء محرضون ذوو خبرة عسكرية. فمن خلال قنص الجنود في الظلام وإشعال معاركَ فوضوية مع المحتجين العزل, ضمنَ القناصة المجهولون تحقيق إصابات في الجانبين.
تم التقاط البعض منهم على الكاميرا وشاهدهم الصحفيون, بما في ذلك هذا القناص. استهدف القناصة القادة العسكريين على الأرض, مما يشير إلى درجة عالية من التخطيط ومعرفة تحركات الجيش, كما قال الدبلوماسيون الغربيون الذين تلقوا معلومات من المسؤولين التايلانديين. بينما أنكر قادة المظاهرات أي استخدام للسلاح وقالوا إن نضالهم سلمي, من غير الواضح إن كان المتطرفون في الحركة على علم بالفخ.
لا يمكنك أن تدعي بأنك حركة سياسية سلمية وتمتلك احتياطياً من الأسلحة في حالة احتجت إليها. لا يمكن الجمع بين الاثنين," كما يقول دبلوماسي غربي على اتصال دائم مع قادة الاحتجاجات."
كما يستكشف تقرير الصحيفة احتمالَ أن يكون القناصة عناصرَ مارقة في الجيش التايلاندي, أي عملاء محرضين تم استخدامهم لتبرير قمع المعارضة الديمقراطية. " تتعرض النخبة الحاكمة التايلاندية في الوقت الحالي لضغوط من مجموعة تدعى ‘القمصان الحمر’".

قرغيزستان - حزيران/يونيو 2010
اندلع العنف الإثني في جمهورية قرغزستان في آسيا الوسطى في شهر حزيران/يونيو 2010. وقد نُقلَ على نطاق واسع أن قناصة مجهولين فتحوا النار على أعضاء الأقلية الأوزبكية في قرغزستان. وقد نقل موقع "يوريشا":
"في عدد من المحلات الأوزبكية, يقدم السكان شهادة مقنعة على مسلحين يستهدفون أحياءَهم من أماكن مطلة على هذه الأحياء. فقد شهد رجال متمترسون في حي أريغالي نيازوف, على سبيل المثال, أنهم شاهدوا مسلحينَ في الطوابق العليا من فندق معهد طبي مجاور التي تطل على الشوارع الضيقة في الحي. وقالوا إنه في ذروة أحداث العنف, كان هؤلاء المسلحون يغطون المهاجمين وناهبي المحلات, حيث كانوا يمطرون المنطقة بنيران قناصاتهم. وقد سرد رجال في أحياء أوزبكية أخرى قصصاً مشابهة.
"من بين الشائعات والتقارير غير المؤكدة التي انتشرت في قرغزستان بعد الأحداث العنيفة في سنة 2010 وجود خطة لتسميم مصادر المياه التي تزود المناطق الأوزبكية. وقد تم الترويج لشائعات مماثلة ضد نظام تشاوشسكو في رومانيا أثناء الانقلاب المدعوم من "سي آي إيه" في سنة 1989." ويتابع الموقع:
"الكثير من الناس مقتنعون أنهم شاهدوا مرتزقة أجانب يعملون كقناصة. ويتميز هؤلاء المقاتلون الأجانب بمظهرهم؛ إذ قال السكان إنهم رؤوا قناصة سود, وقناصة نساء طويلات وشقراوات من دول البلطيق. كما شاعت فكرة القناصة الإنكليز الذين كانوا يجوبون شوارع أوشو ويطلقون النار على الأوزبكيين. ولكن لم تحصل أية تأكيدات مستقلة لهذه المشاهدات من قبل الصحفيين الأجانب أو الممثلين عن المنظمات الدولية."
لم يتم التحقيق في أي من هذه التقارير بشكل مستقل. ولذلك من المستحيل بناء أية نتائج على هذه القصص.
اندلع العنف الإثني ضد المواطنين الأوزبكيين بالتساوق مع انتفاضة شعبية ضد النظام المدعوم من الولايات المتحدة, والتي عزاها العديد من المحللين لمخططات موسكو.
جاء نظام باكييف إلى السلطة في انقلاب شعبي مدعوم من "سي آي إيه" عرفه العالم باسم "ثورة التوليب" في 2005.
تستضيف قرغزستان, الكائنة إلى الغرب من الصين وعلى حدود أفغانستان, واحدة من أهم القواعد العسكرية الأمريكية في آسيا الوسطى, "قاعدة ماناس الجوية", وهي حيوية لاحتلال الناتو لأفغانستان المجاورة.
على الرغم من القلق القائم, إلا أن العلاقات الأمريكية – القرغزستانية بقيت جيدة في ظل نظام روزا أوتونباييفا. وليس هذا مفاجئاً لأن أوتونباييفا شاركت في "ثورة التوليب" التي أطلقتها الولايات المتحدة في سنة 2004, حيث احتلت منصب وزيرة الخارجية.
لم يتم إجراء أي تحقيق حتى الآن في أسباب العنف الإثني الذي انتشر في أرجاء جنوب قرغزستان في سنة 2010, كما لم يتم تحديد هوية عصابات القناصة المجهولين أو اعتقالهم.
إذا أخذنا بالاعتبار الأهمية الجيو – إستراتيجية والجيو – سياسية لقرغزستان بالنسبة إلى الولايات المتحدة وروسيا, وتاريخ الولايات المتحدة في استخدام فرق الموت لتقسيم وإضعاف الدول بهدف ترسيخ الهيمنة الأمريكية, لا يمكننا استبعاد التورط الأمريكي في نشر الإرهاب في قرغزستان. إذ إن إحدى الطرق الفعالة في استمرار الهيمنة على بلدان آسيا الوسطى تتمثل في إذكاء التوترات الإثنية.
في 6 آب/أغسطس 2008, أشارت الصحيفة الروسية "كومرسات" إلى اكتشاف مخبأ أسلحة في منزل في العاصمة القرغيزية بيشكيك كان يستأجره مواطنان أمريكيان. وقد ادعت السفارة الأمريكية أن الأسلحة كانت تستخدم في تدريبات "مكافحة الإرهاب". لكن السلطات القرغيزية لم تؤكد ذلك.
أثبت الدعم العسكري الأمريكي السري للمجموعات الإرهابية في جمهورية يوغوسلافيا الفدرالية السابقة أنه إستراتيجية فعالة في خلق شروط القصف "الإنساني" في سنة 1999. إذ إن إحدى الوسائل الفعالة التي تساعد في الحفاظ على تعاون الحكومة في بيشكيك مع أمريكا تتمثل في الإصرار على التواجد الأوروبي و الأمريكي في البلاد للمساعدة في "حماية" الأقلية الأوزبكية.
دعت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى تدخل عسكري شبيه بالتدخل الذي حصل في يوغوسلافيا السابقة من قبل "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا", حيث حملت مقالتها المضللة حول أعمال الشغب في 24 حزيران/يونيو 2010 حملت العنوان التالي: "قرغزستان تطلب ‘فرقاً بوليسية’ من ‘المنظمة الأمنية الأوروبية’". المقالة مضللة لأن العنوان يناقض التقرير الفعلي الذي يقتبس القولَ التالي لأحد المسؤولين القرغيزيين:
"قال متحدث باسم الحكومة إن المسؤولين ناقشوا وجود قوات بوليس خارجية مع ‘منظمة الأمن والتعاون في أوروبا’, لكنه قال إنه لا يستطيع تأكيد التقدم بطلب لنشر هذه القوات."
ليس هناك أي دليل في المقالة على أي طلب تقدمت به الحكومة القرغيزية للتدخل العسكري. وفي الحقيقة, تقدم المقالة دلائلَ كثيرة على النقيض من ذلك. ومع ذلك, قبل أن يتمكن القارىء من قراءة توضيح الحكومة القرغيزية, يقدم كاتب ‘نيويورك تايمز’ ذلك السرد المرعب المألوف الآن حول الناس المقهورين الذين يستجدون الغرب ليأتي وقصفَ بلدهم أو يحتلها:
"تداعى الأوزبكيون في الجنوب مطالبين بالتدخل الدولي. وقال العديد من الأوزبكيين إنهم تعرضوا للهجوم في أحيائهم ليس فقط من قبل الرعاع المدنيين بل أيضاً من قبل الجيش القرغيزي وضباط الأمن."
في نهاية المقالة فقط نكتشف أن السلطات القرغيزية ألقت اللومَ على الدكتاتور المدعوم من الولايات المتحدة في إذكاء العنف الإثني في البلاد, وذلك من خلال استخدام الجهاديين الإسلاميين في أوزبكستان. إن سياسة استخدام التوتر الإثني لخلق بيئة من الخوف بهدف دعم دكتاتورية مرفوضة شعبياً, سياسة استخدام الجهاديين الإسلامويين كأداة سياسية لخلق ما أسماه مستشار الأمن الأمريكي السابق زبجنيو بريجنسكي "منحنى الأزمة", تتقاطع مع تاريخ التورط الأمريكي في آسيا الوسطى منذ إنشاء القاعدة في أفغانستان وحتى يومنا هذا.
ومرة أخرى يبقى السؤال: من هم أولئك "القناصة المجهولون" الذين زرعوا الرعب في قلوب السكان الأوزبكيين, ومن أين جاءت أسلحتهم, ومن هو المستفيد من العنف الإثني في هذه المنطقة الجيوسياسية الساخنة في آسيا الوسطى؟

تونس – كانون الثاني/يناير 2011
في 16 كانون الثاني/يناير 2011, ذكرت "سي إن إن" أن "عصابات مسلحة" كانت تقاتل قوات الأمن التونسية. لقد تم ارتكاب معظم الجرائم خلال الانتفاضة التونسية من قبل "قناصة مجهولين". كما كانت هناك أشرطة فيديو نشرت على "الإنترنت" يظهر فيها أشخاص سويديون تم اعتقالهم من قبل قوات الأمن التونسية. وكان واضحاً أن الرجال مسلحون بقناصات. وقد عرضت قناة "روسيا اليوم" هذه الصور الدرامية.
على الرغم من المقالات التي نشرها البروفسور ميشيل تشوسودوفسكي ووليام إنغدال وآخرون, والتي يبينون فيها كيف أن الانتفاضات في شمال أفريقيا تتمثل نموذجَ الانقلابات ذات الطابع الشعبي المدعومة من قبل الولايات المتحدة وليس الثورات الشعبية الحقيقية, استمرت الأحزاب والمنظمات اليسارية في تصديق نسخة الأحداث التي تقدمها لهم قناة الجزيرة والصحافة الرسمية. فلو أن اليسار تركوا كتابَ العجوز لينين, لكانوا حولوا تعليقاته حول ثورة كانون الثاني (يناير)/شباط (فبراير) التونسية إلى ما يلي:
"تبين مسيرة الأحداث في ثورة يناير/فبراير بوضوح أن السفارات البريطانية والفرنسية والأمريكية, مع عملائها و ‘ارتباطاتها’ ... قامت بحبك مؤامرة مباشرة ... بالتعاون مع قسم من الجنرالات والجيش وضباط الوحدات العسكرية, بهدف الإطاحة ببن علي."
ما لم يفهمه اليسار هو أنه من الضروري للإمبريالية أن تطيحَ ببعض زبائنها. إذ يمكن أيجاد خليفة مناسب لبن علي من بين إقطاعيي الإخوان المسلمين الذين يشارفون على القبض على السلطة الآن.
من خلال شعاراتهم الثورجية وإصرارهم المتعجرف على أن الأحداث في تونس ومصر كانت "انتفاضات عفوية شعبية", ارتكبوا ما أسماه لينين الخطيئة الأكثر خطراً في الثورة, أي استبدال المحسوس بالمجرد. بكلمات أخرى, لقد تم استغباء المجموعات اليسارية ببساطة عن طريق تعقيد أحداث "الربيع العربي" المدعوم من الغرب.
لهذا السبب لم يفكروا أبداً, في سياق الانتفاضة التونسية, في عنف المتظاهرين وانتشار استخدام القناصة بشكل خاص والمرتبطين, ربما, بأجهزة الاستخبارات الغربية. وسوف يتم استخدام التقنيات نفسها في ليبيا بعد ذلك بعدة أسابيع, مما أجبر اليسار على مراجعة وتعديل موقفهم الأولي الحماسي من "الربيع العربي" المدعوم من "سي آي إيه".
عندما نتحدث عن "اليسار" هنا, فإننا نشير إلى الأحزاب اليسارية الحقيقية, أي الأحزاب التي دعمت الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية الشعبية العظمى في نضالها الطويل الشجاع ضد الإمبريالية الغربية, وليس إلى أولئك المعاتيه البرجوازيين الصغار الذين أيدوا إرهابيي بنغازي التابعين للناتو. إذ يجب أن يكون الغباء المطلق لهذا الموقف واضحاً لأي شخص يفهم السياسات الكونية والصراع الطبقي.

مصر 2011
في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2011, نشرت صحيفة "تلغراف" مقالة بعنوان "مات أخونا من أجل مصر أفضل". وتبعاً ﻠ "تلغراف", تعرض مينا دانييل, وهو ناشط معارض للحكومة في القاهرة, "لطلق ناري من قناص مجهول أصابه بجرح مميت في الصدر."
الغريب في الأمر أن المقالة لم تعد موجودة على موقع "تلغراف" الإلكتروني. لكن بحثاً جيداً عن "مصر, قناص مجهول, تلغراف" يظهر بوضوح التوضيح المقتبس أعلاه لموت مينا دانييل. إذاً, ترى من يكون هؤلاء "القناصة المجهولون"؟
في 6 شباط/فبراير, نقلت الجزيرة أن الصحفي المصري أحمد محمود أصيب بطلق ناري من قبل قناص وهو يحاول تصوير الاشتباكات بين قوات الأمن المصرية والمحتجين. وفي إشارتها إلى تصريحات أدلت بها زوجة محمود, إيناس عبد العليم, توحي قناة الجزيرة باحتمال قتل محمود على يد قوات الأمن المصرية:
"قالت عبد العليم إن عدداً من شهود العيان قالوا لها إن ضابط شرطة بزي رسمي ينتمي إلى قوات ‘الأمن المركزي’ سيئة السمعة كان يصرخ على زوجها للتوقف عن التصوير.
"و قالت : قبل أن يتمكن محمود من الرد أطلق قناص النارَ عليه."
بينما تروج الجزيرة للنظرية التي تقول إن القناصة كانوا من عملاء نظام مبارك, إلا أن دورهم في الانتفاضة يبقى لغزاً. لعبت الجزيرة, المحطات التلفزيونية القطرية التي يملكها الأمير حمد بن خليفة آل ثاني, دوراً رئيسياً في التحريض على الاحتجاجات في تونس ومصر قبل إطلاق حملة إعلامية ضخمة من الدعاية والأكاذيب مؤيدة لحرب الناتو أثناء عملية تدمير ليبيا.
إن القناة القطرية شريك رئيسي في الحرب السرية الحالية التي تقودها وكالات الناتو وزبانيتها ضد الجمهورية السورية. وقد أدى التضليل الإعلامي المستمر للجزيرة ضد ليبيا وسوريا إلى استقالة مجموعة من الصحفيين البارزين من بينهم مدير مكتب بيروت غسان بن جدو ومدير الجزيرة التنفيذي السابق وضاح خنفر الذي أرغمَ على الاستقالة بعد أن بينت برقية مسربة عبر "ويكيليكس" أنه متعاون مع "سي آي إيه".
قتلَ الكثير من الناس خلال ثورة الألوان المدعومة من الولايات المتحدة في مصر. وعلى الرغم من أن المسؤولية عن أعمال القتل هذه ألقيت على عاتق شبه الزبون الأمريكي السابق حسني مبارك, لا يمكننا استبعاد تورط الاستخبارات الغربية. ولكن تجب الإشارة إلى أن دورَ القناصة المجهولين في المظاهرات الشعبية الحاشدة يبقى معقداً وحمالَ أوجه, لذلك على المرء ألا يقفز إلى استنتاجات متسرعة. فمثلاً, بعد مجزرة "الأحد الدامي" في ديري/إيرلندا 1972, حيث تم قتل المتظاهرين السلمينن بالرصاص من قبل الجيش البريطاني, ادعى مسؤولون بريطانيون أنهم تعرضوا لإطلاق نار من قبل قناصة. لكن التحقيق الذي دام 30 عاماً في أحداث "الأحد الدموي" أثبت زيفَ هذا الادعاء. لكن السؤال يبقى مرة أخرى: من كان أولئك القناصة في مصر ولصالح من كانوا يعملون؟

ليبيا 2011
أثناء زعزعة ليبيا, بثت قناة الجزيرة شريط فيديو مصمماً ليظهرَ المتظاهرين "المطالبين للديمقراطية" وهم يتعرضون لإطلاق النار من قبل "ضباط القذافي". تم إعداد شريط الفيديو لإقناع المشاهد أن قوات الأمن تطلق النار على المتظاهرين المناوئين للقذافي. ولكن النسخة الأصلية (غير المُمَنتجة) من هذا الشريط متوفرة على "يوتيوب". وتبين هذه النسخة الأصلية متظاهرينَ مؤيدين للقذافي يحملون أعلاماً خضراءَ وهم يتعرضون لنيران قناصة مجهولين. كان تحميل قوات الأمن الليبية مسؤولية الجرائم المرتكبة من قوات تابعة للناتو أحد الملامح الرئيسية الدائمة للحرب الإعلامية الوحشية الموجهة ضد الشعب الليبي.

سوريا 2011
عانى الشعب السوري من فرق الموت والقناصة منذ اندلاع العنف هناك في شهر آذار/مارس. قتلَ المئات من الجنود السوريين وعناصر الأمن, وتم تعذيبهم وتقطيعهم على يد المسلحين السلفيين ومسلحي الإخوان المسلمين. ومع ذلك تستمر شركات الإعلام الدولية في نشر الكذبة التافهة القائلة إن عمليات القتل هذه هي نتيجة لدكتاتورية بشار الأسد.
عندما زرت سوريا في نيسان/إبريل من هذه السنة, قابلت شخصياً تجاراً ومواطنينَ في حماة أخبروني أنهم شاهدوا إرهابيين مسلحين يجوبون شوارع تلك المدينة التي كانت تنعم بالأمان ويروعون الأهالي والحارات. أذكر حديثي مع بائع فاكهة في مدينة حماة روى لي عن الرعب الذي شهده في ذلك اليوم. وبينما كان يصف لي مشاهد العنف, لفت انتباهي عنوان باللغة الإنكليزية من "واشنطن بوست" على شاشة التلفزيون السوري: "‘سي آي إيه’ تدعم المعارضة السورية". تقدم "وكالة الاستخبارات المركزية" التدريب والتمويل للمجموعات التي تخدم المصالح الإمبريالية الأمريكية. ويبين تاريخ "سي آي إيه" أن دعم قوات المعارضة يعني تزويدها بالسلاح والمال, وهي أعمال غير قانونية تبعاً للقانون الدولي
بعد ذلك بعدة أيام, وبينما كنت في فندق صغير في مدينة حلب القديمة التي تعبق بالثقافة, تحدثت إلى رجل أعمال سوري وعائلته. كان الرجل يدير العديد من الفنادق في المدينة وكان مؤيداً للأسد. قال لي إنه كان يشاهد قناة الجزيرة, لكن لديه شكوك الآن حول نزاهتها وصدقها. وبينما كنا نتحدث, كانت الجزيرة – في الخلفية - تعرض مشاهدَ لجنود سوريين يضربون المحتجين ويعذبونهم. قال: "إذا كان ذلك صحيحاً فهو غير مقبول." أحياناً يكون من المستحيل التأكد من مصداقية الصور المعروضة على التلفزيون. فالعديد من الجرائم التي نُسبت إلى الجيش السوري تم ارتكابُها من قبل العصابات المسلحة, مثل إلقاء الجثث المشوهة في النهر في حماة, والذي تم تقديمه إلى العالم كدليل آخر على جرائم نظام الأسد.
هناك أقلية من معارضي نظام الأسد يصدقون كل شيء يرونه ويسمعونه على قناة الجزيرة والمحطات الفضائية الموالية للغرب. هؤلاء, ببساطة, لا يفهمون تعقيدات السياسات الدولية.
لكن الحقائق على الأرض تبين أن معظم الناس في سوريا يؤيدون الحكومة. يتمتع السوريون بحرية الوصول إلى مواقع الإنترنت والأقنية التلفزيونية الفضائية الدولية. فبمقدورهم مشاهدة "بي بي سي" و "سي إن إن" و "الجزيرة", وقراءة "نيويورك تايمز" أو "لوموند" على الإنترنت, قبل أن يتحولوا إلى وسائل الإعلام الحكومية. وفي هذا السياق, يعرف السوريون عن السياسة العالمية أكثر مما يعرف المواطن الأوروبي أو الأمريكي العادي. إذ إن معظم الأوروبيين والأمريكيين يصدقون إعلامَهم الرسمي. والقليل منهم قادر على قراءة الصحافة السورية بالعربية أو مشاهدة التلفزيون السوري. القوى الغربية هي سيدة الخطاب, حيث تملك وسائل الاتصالات. وقد كان ‘الربيع العربي’ المثالَ الأكثرَ فظاعة على إساءة استخدام هذه السلطة.
التضليل الإعلامي يؤثر من حيث نثر بذور الشك في صفوف المعرضين لإغواءات الدعاية الغربية. لكن الإعلامَ السوري الحكومي كشفَ زيفَ مئات الأكاذيب التي روجت لها "الجزيرة" منذ بدء النزاع. ومع ذلك, رفض الإعلام الغربي نقلَ موقف الحكومة السورية كيلا تحرضَ تغطية الطرف الآخر للأحداث على تطوير نوع من التفكير النقدي عند الجماهير.

خاتمة
لقد تم توثيق استخدام المرتزقة وفرق الموت والقناصة من قبل الاستخبارات الغربية بشكل لا يدع مجالاً للشك. فليس هناك حكومة عقلانية تسعى إلى البقاء في السلطة تلجأ إلى استخدام القناصة بهدف تخويف خصومها. إذ إن إطلاق النار على المحتجين البريئين سيعطي نتيجة عكسية أمام الضغط المستمر من الحكومات الغربية المصممة على تنصيب نظام تابع لها في دمشق. إن إطلاق النار على المحتجين العزَل مقبول فقط الأنظمة الدكتاتورية التي تتمتع بدعم غير مشروط من الحكومات الغربية مثل البحرين, أو هندوراس, أو كولومبيا.
إن حكومة مدعومة على نطاق شعبي واسع من الشعب السوري لن تغامر ببقائها من خلال استخدام قناصة ضد احتجاجات أقلية صغيرة.
إن المعارضة المناوئة للنظام السوري لا تشكل, في الحقيقة, إلا أقلية صغيرة. لذلك, فإن استخدام الغاز المسيل للدموع, والاعتقالات الجماعية, وطرقاً أخرى غير مميتة ستكون كافية تمتماً بالنسبة إلى حكومة ترغب في السيطرة على المتظاهرين العزَل.
يتم استخدام القناصة بهدف خلق الرعب والدعاية ضد النظام. وهم يشكلون جزأ لا يتجزأ من عملية تغيير النظام التي يتبناها الغرب.
إذا كان على المرء توجيه انتقاد جدي إلى الحكومة السورية في الأشهر القليلة الأخيرة, يمكن القول إنها فشلت في تطبيق إجراءات مكافحة الإرهاب بشكل فعال في البلاد.
الشعب السوري يريد الجيش في الشوارع وعلى أسطحة المباني العامة. في الأسابيع والأشهر القادمة, ربما تعتمد القوات المسلحة السورية أكثر فأكثر على الخبراء العسكريين الروس لتعزيز دفاعات البلاد مع انتقال الحملة الصليبية, التي بدأت في ليبيا, إلى المشرق العربي.
ليس هناك دليل قطعي على أن القناصة الذين يقتلون الرجالَ والنساءَ والأطفالَ في سوريا هم عملاء الإمبريالية الغربية. ولكن هناك دليل قوي على أن الإمبريالية الغربية تسعى جاهدة إلى تدمير الدولة السورية. فكما في ليبيا, لم يأتوا مرة واحدة على ذكر إمكانية المفاوضات بين ما يسمى بالمعارضة والحكومة السورية. الغرب يريد تغيير النظام وهو مصمم على تكرار الفظائع التي حصلت في ليبيا لتحقيق هذا الهدف الجيوسياسي.
يبدو من المرجح الآن أن مهدَ الحضارة والعلم سيتعرض للتدمير من قبل برابرة أشباه أميين مع تهافت الانحطاط الغربي وانحلاله على رمال صحارى الشرق.

تُرجم عن ("غلوبل ريسيرتش", 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2011)

الجمل: قسم الترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...