تأملات في المجتمع وحكاية (ذات النحيين)

24-08-2023

تأملات في المجتمع وحكاية (ذات النحيين)

الجمل ـ ريم حبيب:
خوفنا من أن تصبح مجتمعاتنا  اليوم  مجتمع ذات النحيين  تنشغل الناس فيه بلقمة عيشها فتنتهك حرماتها  حيث  يهيمن فكر الحاجة على  فكر القيمة هيمنة تامة  .
ذات النحيين : امرأة كانت  قد دخلت سوق عكاظ لتبيع السمن والعسل في النحيين . فأتى عليها خوات بن جبير الأنصاري في الجاهلية، فساومها في السمن وحل رباط أحد النحيين، فنظر إلى ما فيه ودفعه، فأمسكته بيدها لينظر إلى ما في الآخر، فلما فتح الآخر دفعه إليها، فأخذته بيدها الأخرى، ثم فجر بها، ويداها مشغولتان بالنحيين، مخافة أن يندلق السمن منهما ، فضرب بها المثل في الشغل، فقيل: أشغل من ذات النحيين.
ولأن ما يحدث اليوم ، يجعلنا نجتر من موروثنا عسى أن نجد عظة ، أو قاعدة سلوك ، وإذا تأملنا  الحكاية   وجدنا كم تشبهنا تلك المرأة التي فرضت عليها  الظروف والجوع والعوز  أن تهتم ببضاعتها وتنشغل عن حرمتها ، حرصها كان  على  أن تبيع العسل أو السمن  حتى باتت تظن أنهما هما  القيمة التي يجب أن تحافظ عليها لتبقى على قيد الحياة ، دون أن تدرك خسائر أخرى ، دون أن تكون أمينة لقيم أخرى ، ربما قد يصبح الجوع والعوز هما  البديهية الأولى التي يستجيب لها الإنسان ، لكن هذه البديهية تنتفي وتتلاشى حين تتعرض القيمة الحقيقية  فينا للانتهاك . فثقافة السوق فرضت على المرأة مصلحة مضللة ، ثم لم يجد المجتمع  في حرصها أية قيمة ترجى ، على العكس كرسها كآثمة ، حيث لا يوجد في ثقافة الناس  صورة من صور الغفران لمن  فرطت بجسدها لتطعم أولادها ، لأن في يقينهم أن الجوع ليس مبرراً لهدر العفة . وماينطبق على ذات النحيين ينطبق علينا جميعاً .
إن الحاجات لا تزيح الأحكام القيمية ، الحياة حكم قيمي  لكن ثقافة السوق  تقوم على تساهلات مقبولة فيه مرفوضة خارجه ، بكل مايفرغ فيه ويعبأ ، بكل عوالمه المحتشدة والمكتظة بالغث والسمين ، بكل أفعاله  الآلية ،  بكل مواهبه التفاوضية  حيث يبتكر وسائله التي تعيد تشكيل بيئته بما يكفل إشباع حاجاتها ،  على  مبدأ الربح أو الخسارة بالرغم مايشوب هذه البيئة من قصور ونقص في الكثير من المفاهيم .
يؤكد فويرباخ : بأن الإنسان ليس سوى ما يأكل . فهل يعني هذا أن الأرض  خاضعة للقوة المجردة من المبادئ كما يقول ألبير كامي ؟
منذ غابر الزمان ، منذ أن تشكلت البشرية ، وتناسلت المجتمعات منذ أسطورة الخلق الأولى، وحتى اللحظة  مازال الألم يتجدد ، والمجاعة تتجدد والعوز والقهر لكن بقي تفكير الإنسان متعلقاً بقيمه الأخلاقية ، وبناء الشخصية الإنسانية كان استناداً إلى ماتتحمله ، إلى ما تنتجه وليس بمقدار ماتستهلك .   لذا لايمكن لأي حكم نطلقه أن يكون جلياً ، قبل أن نرجع إلى أصل الأشياء . يقول ألبير كامي : مادمنا في دوامة الجنون ، ليس لنا من مخرج سوى أن نجد قيمة ، وإذا كنا لا نستطيع تأكيد أية قيمة ،أصبح كل شيء ممكناً ، ولا أهمية لأي شيء .
يكفي أن تتابع  ما ينتج حولك من محتوى  جنسي فاحش ، من تفاهة لا تنتهي ، من عرض ثراء فاحش ، وجهل فاحش ، لتدرك أنك لن تجد قيمة واحدة توجهك للعمل ، أو للتفكير ، أو للارتقاء  أو للحرية والتحرر .
فالعالم اليوم لم يعد ينقسم إلى فئة عادلة وفئة باغية ، أو إلى سادة وعبيد  فحسب وإنما الجهل والعبث  فرز آلية جديدة  في الإنكار المطلق  ، بنفينا  على صعيد الوجود  إلى كائنات  فاقدة الأهمية ،عدمية ، وهمية ، ليس لها من يؤيدها أو يتعاطف معها ، وليس لها أية حقوق على الآخرين . إنه زمن التناقضات وخلل الدمار التام .
وإذا مااستعدنا حكاية ( الدب والفلاح والذبابة  )  للمفكر الكبير ميخائيل نعيمة ، وهو يسمو بنا بالأفكار يؤكد لنا  أن البشرية رغم كل ماتعانيه من أمراض وجوع ، وعطش ، وعري ، وظلام لكنها مافتئت  تقاوم كل ما يهدد بقاءها بالفناء ، وضد ما ينذرها بالردى ، فالمطلوب من كبار الدببة التي تحكم العالم أن يموت الفلاح وأن تبقى الذبابة .
إنها الحياة في اصطفاء دائم ، ، وتستمر المحاكمة  بنفس الصورة ، لمن البقاء ؟
يقول هيجو فيما معناه : مادام على هذه الأرض جهل وبؤس ، ومادامت مشكلات العصر الثلاث – الحط من قدر الرجل  بالفقر ، وتحطيم كرامة المرأة بالجوع ، وتقزيم الطفولة بالجهل فإننا سنبقى بؤساء .
لا أدري كم من دراسة وثقت ضحايا الجوع في العالم  ، لكن  ما أعرفه أنّ سياسة التجهيل والتقزيم  أكثر فتكاً أيضاً ، لكننا  دائماً مشغولين بحاجة ومنشغلين عن حق، منذ أن تكاثف غمام أسود وحجب كل شمس ساطعة ، منذ  أن انعدم المنطق و فرض علينا الحرمان من كل علم ، منذ أن بتنا مكرهين على أن نقتل أو نوافق على القتل  ، بات مألوفاً لنا  كل مايقال اليوم في المجتمع ، عن آثار تفسخ المجتمع  ، عن تشتت الأسر ، عن الفواجع  التي نراها  بأم العين، عن الفواحش ، عن الجرائم .  لقد غالينا في كل الأمور ، وتخطينا كل الحدود إنه العالم الجديد  حيث ألسن كثيرة تتكلم ورؤوس  قليلة تفكر ولا مخرج لنا إلا بتبني  القيم تبنياً كلياً  .
كي لايقتل الفلاح فينا وتبقى الذبابة ، كي لا نتحول إلى مجتمعات سوق  تنشغل ببضاعتها وتنسى مقدساتها ، فلقمة العيش تشغلنا ، ورغيف الخبز يشغلنا ،  ومامن شقاء يحل بالإنسان أقسى من التضور جوعاً ، لكن عبقرية الحكاية لا ينضب معينها وتعرف دائماً أن تعطينا أنموذجاً  عن الحياة ، فمن مات في سبيل حاجاته مات سدى ً ، ومن مات في سبيل مبادئه ومقدساته خلق قيمة جديدة تفيض على الأجيال القادمة .

ـ شرح النحيين: تثنية بكسر النون، زق السمن، ويكون له وكاء يربط به لحفظ مابداخله من الإنسكاب

*كاتبة وروائية سورية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...