حنا مينة: السياسة والاقتصاد والدهاء!..

30-10-2008

حنا مينة: السياسة والاقتصاد والدهاء!..

الدنيا مصالحٍ، هذا قانون عام، والمصالح متنوعة، متداخلة، متشابكة، لكنها جميعاً، حلقات متصلة، وقد أولت الفلسفة المادية هذا الاتصال، الذي هو ضد التراكم، اهتماماً خاصاً، تفي الطبيعة، وهي أمنا جميعاً، كل شيء متوازن، إلا أنه متصل في توازنه، والمبدأ الفيزيائي «لا حدوث ولا فناء» في جنف كامل مع أي جدال، وحتى مع أي سفسطة، إلا اذا كانت ثمة مكابرة متهتكة، من مكابر متهتك، وغبي، قليل عديده، بل نادر، إلا انه موجود، مادامت المماحكة، في غرور المكابرين، لم تندثر تماماً، لأن أمثال هؤلاء الأدعياء، المخبصين، يأبون أن يبقوا في العاطلين عن العمل، رغم أنهم، وهذا مرجح، يعرفون الآية الكريمة: «أما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».

إن مبدأ لا حدوث ولا فناء الفيزيائي، بسيط جداً، وكي نزيده تبسيطاً عليناً أن نذكّر «والذكرى تنفع المؤمنين» بأنه يعني «لا زيادة ولا نقصان» وان قيلة «التاريخ يعيد نفسه» أكذوبة، يرغب بعضهم، عن قصد أو دونه، أن يصنعوا منها «برشامة» لتبليعنا إياها، مباشرة أو مداورة، لإقناعنا، وهذا باطل الأباطيل، ألا نتعب في سبيل التغيير والتحديث؟ لأنه ما من شيء يتغير، وهنا الخطر، هنا الضلال، لكونه نفياً لقانون الحركة التي هي ضد السكون، والحياة في استمرارها، هي برهان على هذه الحركة، ونفي لهذا السكون الذي هو جمود، ثبات ومعزى في المآل! ‏

لذلك أعيذ القراء، وأعيذ نفسي، من سوء الفهم هذا، مؤكداً ـ وهل بقيت من حاجة للتأكيد البغيض هذا! ـ في زمن ثورة المعلوماتية التي نعيشها، أن التاريخ لا يعيد نفسه!؟ وان المياه تحت الجسر، ليست هي ذاتها دائماً؟ وان التغيير والتحديث، في التطبيق الفعلي لا اللفظي، هو الذي يأخذ بنا الى أمام، وإلا سقطنا في مستنقع الرجعى الى وراء؟ ‏

إن السياسة، في مطلول أيكتها، هي فن فهم الاقتصاد، وفي ظلال هذه الأيكة، صعوداً الى سدرة المنتهى في مجدها والتقوى، وفي الكفاح المبارك براً وبحراً، في كل هذه الأمور، لابد من أن نعلم، أو نتعلم، ان السياسية في القيادة، وفي الوثوق الراسخ عبر التجربة، أن هذا الاقتصاد يحتاج الى هذه السياسة كي تديره إدارة ناجحة، وأن علينا، كي نكون اقتصاديين ناجحين، أن نكون سياسيين ناجحين، وأن نأخذ في حسابنا، وبشكل جيد ودائم، أن موضوعة الخط المستقيم، الذي هو أقصر مسافة بين نقطتين، ليست بالصالحة في السياسة، وتالياً في الاقتصاد الذي ترتكز عليه هذه السياسة، لأن الخط المستقيم فيه نفي للتعرج، ودون تعرج أي دون تقدم وتراجع، أو تراجع نقلة الى وراء، في سبيل تقدم نقلتين الى أمام، لا يمكن أن نحسن العمل في السياسة، وفي الاقتصاد الذي تقوده هذه السياسة، أو في المرونة التي يسبقها الاستشفاف، أو ما يسمونه بعد النظر في ادراك الخطر قبل وقوعه، لدرء وقوعه، أو تجنب وقوعه، او الاقلال من مخاطر وقوعه اذا كان قد وقع وانتهى الأمر! ‏

هذه المسألة التي أثرتها، والتي من الجائز ألا أكون قد احسنت إثارتها، أرغب مجتهداً في النفاذ منها الى غيرها، وغيرها هو الدهاء بالمعنى الطيب والمفيد للدهاء، فسياسة بغير دهاء تنطوي على كثير أو قليل من طيبة القلب، وطيبة القلب هذه لها وجهان: الأول نافع اذا ما كان سعياً لما فيه خير وطننا وشعبنا، «وليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سيرى» فطوبى للحاكم الذي يسعى لإسعاد شعبه، ولو أن هذا الاسعاد لم يكن تاماً، أو على المستوى المرتجى منه، والوجه الآخر لطيبة القلب هو الغفلة، أو قلة الانتباه، او عدم التمرس الكافي في شؤون إدارة الحكم، أو الظن ان كل شيء على ما يرام، أو إننا ختمنا اطروحتنا في المعرفة، فالحديث الشريف يقول: «كن عالماً أو متعلماً ولا تكن الثالثة فتجهل، والجهل هنا أن تعلّم غيرك الذي قد يكون أعلم منك، ثم التمييز الدقيق، الذي يأتي مع الممارسة الطويلة، بين النقد البناء والنقد غير البناء، بين من يكتب صادقاً ولو شابت كتابته قسوة ما، وبين من يكتب مداجياً، مرائياً، منافقاً، غايته التكسّب، أو الانتفاع، أو الادعاء بأنه قريب من هذا المسؤول أو ذاك، أو طلب الوجاهة ولو ببذل ماء الوجه! ‏

ثم ان الدهاء هو الانتقال من الغفلة الى اليقظة، أي أن يكون لنا من نثق به بعد التجربة، مرة ومرة ومرات، فإذا كان الأمر شورى بينكم، فلا بد من المشاورة، فالرأيان أفضل من رأي واحد، والآراء الثلاثة أفضل من الرأيين، ودراسة العدو جيداً، ومن كل النواحي، هو من اليقظة التي أشرت إليها آنفاً، فقد مضى زمن، يعود الى النصف الأول من القرن العشرين، كنا نحارب فيه عدواً لا نعرف عنه ما يكفي، بينما هو يعرف عنا كل شيء، لذلك كنا نخسر، وكان هذا العدو يربح، وكنا لا نهتم بالرأي العالمي، بما يكفي، فنأتي، أو نقوم بما يضرنا عالمياً، دون انتباه! ووعي واقرب مثل هو الاقتتال بين الإخوة الفلسطينيين، من جانب حماس أو فتح، ودون أية كلمة حول من هو على حق، بين الطرفين لأن ذلك خارج عن موضوعية هذه المقالة، لكنه، وهنا بيت الداء، لا يمكن أن نغفله، بزعم التقيد بهذه الموضوعية.. ‏

كلمة أخيرة، لا سياسة بغير فهم دور الاقتصاد، ولا إدارة ناجحة للاقتصاد بغير تمرس بالسياسة، ولا سياسة إذا لم نعرف عدونا، أو لا نقدّر قوته كما يجب، أو لا توازن بين قوتنا وقوته بدقة وأناة، وبعيداً عن «الاعتزاز بالإثم». ‏

هذا أو بعضه على الأقل، لا يجانب، أو ينأى عن الدهاء الذي أومأت إليه، فالدهاء أحياناً، أو في بعض الأحيان، ضروري جداً، وآمل أن ندرك ذلك، إذا كنا لم ندركه بعد، فإذا كنا ندركه، ونطبقه، تصبح كلماتي في النوافل، وعندئذ لابد من الجرأة في الاعتذار، وهذا من شمائل الكاتب الذي يضع قلمه في خدمة وطنه وشعبه، لا خدمة منافعه الخسيسة! ‏

هل تريدون مثلا ً على ما قلته؟ خذوا حرب تشرين وما انطوت عليه من دهاء، فقد فاقت قدرتنا على إنامة يقظة العدو الاسرائيلي، رغم كل أجهزة مخابراته المدربة صهيونياً وأميركياً واستطعنا بدهاء ذكي صار تاريخاً أن نخفي ما عندما من قوة عسكرية كبيرة، عتاداً وتدريباً، بينما نعرف، بوسائلنا السرية جداً، ما عند عدونا من قوة، والأكثر دهاء، في هذا السياق، أن نحسن قراءة الواقع النفسي لهذا العدو، ومقدار ما ليوم الغفران عنده من اعتبار فائق الحد، فأعلنا الحرب عليه في هذا اليوم، الأمر الذي أذهله، ضعضعة، صعقه صعقاً، كما هو مبين، ثابت، في كتاب «المدحال» الشهير. ‏

نعم! حرب تشرين، الذي أضاع نصرها أنور السادات، قد انطوت على قدر من الدهاء، فائق الروعة، بالغ الأثر والخطر على عدونا، علينا أن نفاخر به ونعتز، وان نذكر، ونترحم، على الرئيس الكبير الراحل حافظ الأسد، الذي يعرف القاصي والداني، أنه في الدهاء السياسي، قد فتح لنا باب مدرسة علينا أن نتعلم منها الكثير. ‏

إنني كاتب من نبت أرض سورية، التي كرمتني ولما تزل، ولم أبرح أكرمها، في كل كلمة أخطها، وفي كل محفل يكون لي شرف الكلام فيه، شرقاً وغرباً. ‏

حنا مينة


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...