نحن نعيش بالدين .. السوري يستدين كل شيء من البسطة حتى الدواء

15-03-2006

نحن نعيش بالدين .. السوري يستدين كل شيء من البسطة حتى الدواء

كعادته يفتح (أبو سليمان) دكانه قائلاً (يا فتّاح... يارزّاق)، ولكنه لا يكاد ينتهي دعائه إلا و(أسماء) ابنة الأستاذ (حسان) مدرس الرياضيات: عمو يسلم عليك... يقاطعها أبو سليمان كالعارف بما تريد نعن نعم.. سطل لبن + 3 بيضات... تحمل (أسماء) كيس الحاجيات قائلة: عمو... سجل على الدفتر.


دفتر السمّان (أبو سليمان) يحوي أسرار حارته المادية، وطريقة عيشهم، وهو يحرص على عدم إفشائها، علاقته جيدة مع الكل، ومع المراس عقد اتفاقيات ترضي جميع الأطراف باستثناء بعض المنغصات وهي الوحيدة التي تفاجئه حين ترتيب ما يدخله أول الشهر من ديون، وما سوف يضيفه إلى دكانه  من بضاعة جديدة بعد طول عناء و وعود رضي أبو سليمان أن يسلمنا دفتر( الديون) ولكن بشروط, أن لا نذكر أسماء الزبائن ولا نذكر عملهم فهم زبائنه و مصدر رزقه و أخلاقه تأبى فضح أسرارهم.
- دفتر( أبو سليمان) يشبه إلى حد كبير دفاتر موظفي الحكومة من حيث حجمه وخطه السري, فأبو سليمان حاصل على الابتدائية كما قال لي عندما كانت تساوي( الجامعة), وهذا ما احتاج إلى سؤاله ليفك لنا الخط أولاً ويفصل لنا ألغازه, يقول أبو سليمان: يجب أن تميز بين ديون الرجال و ديون النساء, ديون أول الشهر ومنتصفه, ديون (الأعزب ) وديون (العائلة), ديون المواسم (المدارس,الصيف, الشتاء, الأعياد), وديون ( الأولاد).
- مع أول اسم في الدفتر ( ف.ش) تتفاجئ (100 ل.س) قرضة عشاء, هذا دين ناشف كما يصفه أبو سليمان هذا جاري منذ زمن طويل أحياناً يمر مستدين نقوداً و يقول لي: سجلّها, تاريخ الدين \15\ الشهر, ثمن عشاء لأولاده فما يحتاجه ليس متوفراً عندي....
- الاسم الثاني( أبو أحمد): \10\ ليرات شعيرية, \10\ ل.س طحينة فرط, \10\ ليرات بسطة؟؟
- أبو عماد: \20\ بيض, \30\ ل.س مرتديلا, \10\ لبن,\35\ بن مهايني.
يقول( أبو سليمان): ديون الأولاد تجمع, أي أنها ديون غير مرئية وليست في الحسبان ولكن على مدار الشهر تصل إلى مبلغ ليس سهلاً, خصوصاً من لديه أولاد كثر, فالبسطة هي (بسكوت, ديربي,علكة, مصاص) كل ما يشتريه الولد و بعض مع كل مشوار إلى الدكان يأخذ قطعة من البسطة.
ديون النساء
يضع( أبو سليمان) إصبعه على حقل في الدفتر: ديون النساء تختلف عن ديون الرجال فمثلاً أم أحمد: فوط نسائية, فوط أطفال لأبنتها(عدد2)- معجون أسنان- منظفات نورس(علبة كبيرة)+ سائل جلي نورا- موالح- قهوة + كولا- عطر ماركة ( بلاي بوي)- ظرف نسكافه- مجموع هذه الحاجيات حوالي \800\ ل.س هذا بالإضافة إلى الأولاد وأبو أحمد مجموع ما يستدينه أبو أحمد  و زوجته يصل إلى \3500\ ل.س كل شهر.


ديون الشباب
(ع.د) مجموع ما استدانه من (أبو سليمان) \1500\ ل.س وهي (علبة دخان على مدار الشهر)- 4 كيلو سكر- 4 علب متة- قهوة ظرف (60) ل.س- شاي علبتين(50) ل.س – محارم(2 علبة 80 ل.س- معجون و فرشاة أسنان- مع بعض المتفرقات(قداحة- بسطة).


ديون المدارس:
إحدى الصفحات في دفتر أبو سليمان مشطوب عليها و مكتوب في نهايتها كلمة واصل, قال أبو سليمان هذه الصفحة للسيد(أبو خضر) لديه\4\أولاد في المدرسة, يأخذ كل قرطاسية الأولاد بالدين خصوصاً أن المدرسة لا تأتي في أول الشهر بل في منتصفه, انظر (دفاتر رسم , أقلام رصاص, دفتر انكليزي, دفاتر عربي, أقلام (بيك) أزرق و أحمر, تجليد, مسطر,..) ولو كان عندي ملابس المدرسة لاستدانها.
أفضل الزبائن
أفضل زبائن أبو سليمان كما يقول هم من يستدينون و يسكّرون حسابهم على دفعات خلال الشهر, فهؤلاء تأتيهم دفعات خلال الشهر و يحسبون حساب أبو سليمان, ومن الزبائن المفضلين عند أبو سليمان الشباب الذين يستهلكون كثيراً المعلبات والدخان والبطاريات, وهذه تنفق بسرعة وتربح ربحاً قليلاً وإنما تستهلك بسرعة وهؤلاء ليسوا قلائل, أما بقية الزبائن فهم أصحاب عائلات كبيرة, يستهلكون المواد الأساسية ( سمنة- سكر- رز-منظفات), فأغلب الشرائح التي تستدين هي شريحة الموظفين وهم الغالبية من الزبائن, وهم من ذوي الدخل المحدود, يأكلون ديناً ويشربون ديناً, راتبهم الشهري له دور واحد هو سداد الدين, ليعيدوا الكرة كل أول شهر, قلما تجد في قائمة ديون أحدهم الفواكه, يتعاطون معها كما يتعاطون مع الكماليات, وهؤلاء هم الحارة والمدينة والبلد كلها.


الدائن مديون
(أبو سليمان ) يغلق دفتره ضاحكاً, المفارقة الحقيقية يا أخي أنني أنا مديون أيضاً, فأنا آخذ بضاعتي من تجار الجملة أو من الموزعين, أدفع لهم بالجمعية أي كل أسبوع, آخذ ديوني من الزبائن لأسدد ديون تجار الجملة كما يقول المثل (من هالك لمالك لقابض الأرواح), نحن يا بني إما دائن أو مستدين نعيش ضمن هذه الدائرة ولكن بعض الزبائن الغير محترمين يجبرونني على تصرف لا أحبه, انظر إلى اللائحة خلفك, لائحة كتب عليها (إلى أصحاب الذمم يرجى تسديد ما عليكم) اللائحة تضم حوالي \6\ أسماء بجانب كل اسم مبلغ من المال, و(مطنش) كما يصفهم أبو سليمان ,كما يشكو بعض الزبائن من أصحاب بعض المحلات بأنهم يستغلون حاجاتهم و قلة حيلتهم, بعضهم يضيف مادة لم يستدينها الزبون أو يضيف مبلغاً على السلعة, أو يزيد سعر السلعة إما أن تأخذها بهذا السعر أو لا مجال للدين... خصوصاً لمن يستدين الخضار وهي دين يومي أو حاجة يومية, ولكن أجمالاً الكل  في ورطة الدائن والمدين.
قبل أن نخرج من عند ( أبو سليمان) حدثنا عن شكل آخر من الديون,هي دين (الدواء), فالصيدلي لا يختلف عن(الدكان) الناس أيضاً تستدين(الدواء).

أبو خالد مريض(كلية): زرعت كلية منذ \3\ سنوات, تقوم وزارة الصحة بإعطائنا أدوية  زرع الكلية مجاناً ولكن  هذه الأدوية تنقطع في بعض الأشهر فنضطر لإستدانتها لأن  أسعارها غالية جداً فمثلاً دواء (nerol) سعره في الصيدليات وهو تهريب حوالي \100\ دولار, ودواء (cllcept) حوالي \200\ دولار ويباع لنا بالليرة السورية. بمبلغ \8700\ ل.س.

أبو حسام مريض( قلب): أجريت عملية قلب مفتوح منذ سنة, أستدين دوائي من  الصيدلية بواقع \1200- 1400\ ل.س, عندي عشرة أولاد  و يصل ديني عند السمان حوالي \4000\ آلاف ليرة سورية, وبين حاجيات البيت من السمان و دوائي أدفع أكثر من نصف راتبي الشهري..


 أشكال أخرى لدين مقنّع عند السوريون, فأغلبهم يُصلح أسنانه بالتقسيط, وأطباء الأسنان تضامنوا مع مرضاهم أو تآمروا معهم, فهم يدركون أوضاع معيشتهم فاتفقوا على سداد أجرة تصليح الأسنان على دفعات  هذه الدفعة للمواد وهذه الدفعة أجرة تركيبها, حتى(خلع السن أو الضرس) ينتظر لنهاية الشهر, هذا الشكل من التبادل الاقتصادي هو نتاج الأوضاع الاقتصادية السيئة التي أفرزت أشكالاً مختلفة للتعامل, ولكن السلسلة تبدو متصلة ومتفقة على هذا الشكل فالطيب يأخذ مواده بالتقسيط, يقدمها لمريضه بالتقسيط و يدفعها المريض بالتقسيط, مثل(أبو سليمان) يبدأ من تاجر الجملة إلى المفرق إلى المواطن ثم العكس, هكذا يعيش السوري دائناً وفي الوقت ذاته مديوناً.

 

     عبد الرزاق دياب

عن مجلة المال

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...