فاتح المدرس... والتفكير باللون

04-08-2008

فاتح المدرس... والتفكير باللون

الفنان يُفكِّر باللون، بالكتل اللونية، بالجمل اللونية.. لكن ما يثيرني في تجربة فاتح أنَّه لم يرسم جملاً لونية إنشائية- بعكس غيره؛ أعمالهم كانت مجرَّد مواضيع تعبير مليئة بالجمل والصور الإنشائية.. فاتح صاحب مشروع فكري، لذلك كان جدياً، صارماً، عنيفاً، عنيداً، قوياً.. ألوانه، كتله اللونية كانت تخدم أفكاره، كانت الحصان الذي امتطته وتمتطيه أفكاره.. فاتح لم يكن مهرجاً، لذلك كان الجمال سلوكاً يَسِمُ لوحاته، يسم الوجوه التي رسمها، صحيحٌ أنَّ أكثر الوجوه التي رسمها حزينة، غاضبة، لكنها دائماً في حالة تأمُّل، في حالة تفكير، والتأمل والتفكير هما (لبُّ) الجمال.. هو يشترك مع لؤي كيالي في هذا، لكن مع ذلك فإنّهَ رغم رسمه مئات اللوحات ومن مدارس مختلفة، إلا إنَّه لم يرسم برأيي أكثر من لوحةٍ واحدة.. رسم لوحةً واحدة هي فاتح المدرس.

فاتح ينشرُ ألوانه كما السفن في عرض البحر، ثمَّ يرفع الأفكار التي هي بمثابة الأشرعة.. يريد أن يشغِّل العقل لا أن يغويه، هو يعرف أنَّه إذا مات الملك فخليفته سيحكم، لكنَّه لا ينشغل كثيراً بهذا الحدث، هو لا يفكِّر فيه، إنَّه يفكِّر في المعارك التي يخترع فيها، ينجز فيها الإنسان حريَّته.. فاتح عندما يرسم، إنَّما يدعونا للمشاركة في جنازةٍ، الميِّتُ فيها(العقل) وليس الأفكار، فلوحاته لا (فوازير) فيها.. لماذا وإلى الآن مايزال تمثال(أفروديت) يتكلَّم، وكذلك(أبوالهول)، وينتزع كل واحدٍ منهما إعجابنا واحترامنا ويتركنا مصابين بالدهشة؟! كذلك سقراط وأفلاطون وابن رشد والفارابي وماركس ونيتشه لايزالون يعيشون معنا؛ ويدفعوننا إلى الحوار وإلى العراك.. بل إنَّ أفكارهم دفعت السلاطين لإقامة السجون لنا.. السجن تحوَّل إلى حصنٍ يقي الحكَّام سطوة أفكارهم. كذلك ثيران بيكاسو هي ليست أقوى من ثيران التاميرا، وحتى أنَّها ليست أهم منها؛ لكنَّ بيكاسو رسمها لأنَّ ثيران التاميرا لم تعد تكفي استهلاكنا، حاجتنا، أو تقضيها.. فكان لابدَّ منها ثيرانُ بيكاسو، هذه الثيران التي كلَّما نظرنا إليها ازدادت ثقتنا بالحياة، كلَّما أحببنا الحياة وتعلَّقنا بها، تعلَّقنا بوجوه فاتح المدرس، هذه الوجوه التي تعيش حالة استنفار دائم، لكن بدل أن تتزيَّن بالريش والخوذ والألبسة الزاهية والسيف والخنجر، تراها متزيِّنة بالنصر.. إحساسها بالنصر الذي ستحققه وهو ماتفكِّر به.. هي ترى أنَّ زينة المحارب ليست لباسه وعتاده، بل النصر الذي في عقله وقلبه، بل وفي قبضة يده، كأنَّ فاتح المدرس يكمل لأرسطو ما قاله: (إنَّ العلم إذ يبدأ بالدهشة)، فإنَّ الفنَّ يبدأ بالقبض على الدهشة التي هي يد المحارب.. إنَّ النبي موسى، بحسب القرآن الكريم، تخلَّت أمُّه عنه، وأوديب بحسب الأسطورة تخلى عنه أبوه، وكلاهما أُلقيا: واحدٌ في النهر وآخر في العراء. لكنَّ فاتح يقول لنا: قوَّة الإرادة من قوَّة الفكرة، حتى لو كانت (قدرية) يسوقها القدر، ووراءها (الله) في حالة موسى خاصة.. فاتح، وفي التدقيق بلوحاته، كأنَّه مع نيتشه: بأنَّ أقصر سِلْمٍ أكثر من طوله، والحرب يجب أن تكون ضاريةً وخالية من الشفقة، وهي المحنة الجيدة والمسابقة النزيهة العادلة.

إنَّ أعمال فاتح المدرس لايمكن قراءتها بالحواس الخمس لأنَّنا لانرى فاجعة.. فعلا درامياً في لوحاته، فاتح المدرس مشكلته أنَّه يكتبُ، ينشر أفكاره، ينشر أفكاراً في اللوحة.. الرسم عند المدرس هو تفكيرٌ في اللون، معنى ذلك أنَّ النقد الذي نمارسه على تجربته الفنية يجب أن ينطلق من مبدأ الحوار الذي لا يسمح لغير العقل- والعقل الإله في قراءتها.. المدرس يعتبر أنَّ الإنسان صورة عن الربِ، الخالقِ المصوَّر، لذا فهو يرسم مئات؛ آلاف الصور- الوجوه دون أن تتشابه، لأنَّه يرسم أفكاراً ولا يريد أن تتكرر أكثر من مرةٍ في لوحاته.. فاتح المدرس يباغتنا في تحويل الفكرة من مشروعٍ مادي، هو يطرحها- يطرح الأفكار لكي نمسكها بأعيننا ثمَّ نحيلها إلى مخبرنا العقلي، إلى العقل فنكتشف جمالها أو بشاعتها.. هل نحن بحاجة إلى زهرة الياسمين أو القرنفل أو اللوتس..؟ نحن يمكن أن نرسمها، لكن لا يمكن أبداً أن نبثَّ، نبعث روائحها- طيبها، إذن ما الحاجة إلى رسمها؟ هل هي الحاجة إلى الجمال..؟ لو كان كذلك، هل نرسمها؛ نرسمُ الوردة في لحظة تفتُّحها أم في لحظة ذبولها؟! فاتح المدرس يثير مثل هذه الأسئلة في أعماله، لأنَّه يرسم مواضيع، يرسم أفكاراً يشتغل بها العقل البشري.. فالوردة متى تكون أجمل، هل في لحظة تفتُّحها أم في لحظة ذبولها؟ وهل جرعةُ الجمال التي نأخذها من الوردة، وهي مرسومة في اللوحة، أكثر قدرة على علاجنا وشفائنا؛ أم وهي على غصنها تتمايل مع الريح؟!

أنور محمد

المصدر: أوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...