غسان الرفاعي: هذه الهوة بين شاطئي البحر الأبيض المتوسط

25-08-2011

غسان الرفاعي: هذه الهوة بين شاطئي البحر الأبيض المتوسط

-1- بعد سحب القومية العربية من التداول وتوصيفها (بالطوبائية والغوغائية, والتسلطية الطفولية), وبعد تفتت التضامن العربي واتهام الداعين إليه (بالانتهازية, وفقدان الحس الواقعي), وبعد أن فشلت المصالحة العربية بسبب تجاهلها للحساسيات وإغراقها في التفاؤل الساذج يأتي وزير فرنسي سابق ممن مازالوا يحبون العالم العربي, بشيء من النزاهة ليذكرنا نحن المهزومين والمتسكعين على بوابة النظام العالمي الجديد, بأن القومية العربية, على الرغم من إخفاقاتها وأخطائها ومعاركها الخاسرة لاتزال هي (المخرج الحضاري) الوحيد من المأزق الدموي الذي نعيشه ببلادة واكتئاب. الكتاب الجديد الذي أصدره جان بيير شوفنمان بعنوان «الأخضر والأسود» ويدور حول (الأصولية والنفط والدولار) إطلالة نزيهة ودسمة على إشكاليات العالم العربي المعاصرة, ودعوة صارخة للقيام بثورة في الفهم الغربي (المضلل والخبيث) للعلاقة بين شاطئي البحر الأبيض المتوسط شبيهة بالثورة الكوبرنيقية التي أثبتت أن الأرض والأجرام السماوية الأخرى تدور حول الشمس, لا العكس كما كان سائداً من قبل.

طالب الجنرال «ديغول» ذات يوم, بالذهاب إلى الشرق العربي الغامض والمعقد بأفكار بسيطة واضحة يبدو أن شوفنمان وهو من أكثر الديغوليين صدقاً مع نفسه ومع الآخرين قد حمل معه مثل هذه الأفكار حينما قام بجولته الأخيرة في الشرق الأوسط وهو في كتابه يطرح وجهة نظر جديدة تضع حداً للمغالطات والأكاذيب والتناقضات التي دأب الغرب الأوروبي على تسويقها عن العرب وإشكالاتهم ومأزقهم. ‏

-2- ‏
الخطأ الفادح الذي وقع فيه الغرب, في تعامله مع العرب وهم يخوضون معركة من أجل استرداد هويتهم هو إصراره على تقييم كل ما يبدر عنهم من منطلق غربي بحت دون احتساب لخصوصيتهم التاريخية ويستشهد شوفنمان بالمستشرق الفرنسي جاك بيرك إذ يقول: (هوية أي شعب من الشعوب لا يمكن أن تكون إلا تاريخية حينما نعرف بأنفسنا فلا بد لنا من مرجعية ثابتة وهذه لا يجوز أن تقتصر على الأرض أو العرق أو اللغة وإنما على التجذر التاريخي) والمأساة -كما يراها شوفنمان- هي أن الغرب فسر التاريخ العربي من منظوره ولم يسع قط إلى فهمه من الداخل وإذن لابد من إحداث ثورة كوبرنيقية تقوم على ضرورة دوران الغرب حول الشرق بدل المطالبة بأن يدور الشرق حول الغرب وتترتب على هذه الثورة ثلاث نتائج على غاية من الخطورة أولها: أنه لا يكفي نقل وصفات الديمقراطية الليبرالية الجاهزة إلى العالم العربي, لأنها تفاقم من الأزمة وقد تولد حروباً أهلية, وإنما ينبغي العمل على إنفاذ هذه الوصفات في صميم النسيج التاريخي للأمة العربية يقول شوفنمان: (من السذاجة أن نتصور أن الازدهار الاقتصادي في اليابان أو دول التنين الأربع في الشرق الأقصى هو تطبيق لوصفة سحرية أفرزها اقتصاد السوق, إنه تراكم تاريخي اعتمد على عادات وطقوس قديمة), ثانيها: أن الحداثة والقومية العربية قد توصلتا إلى ميثاق تعاقدي كان من الممكن أن يحقق الطفرة النهضوية المنتظرة, غير أن الغرب سعى دوماً إلى اختراق هذا الميثاق وإفشاله بسبب إصراره على اعتبار الانبعاث القومي خطراً عليه وعلى مصالحه يكتب شوفنمان: (إذا كانت التجربة القومية في أوروبا قد انتهت بالفاشية أو النازية, فليس من الضروري أن تنتهي التجربة القومية العربية إلى ذات المصير, الأولى كانت حركة هيمنة وتوسع في حين بقيت الثانية حركة تحرر وطني)... وثالثها أن دولة القانون في أوروبا لم تنشأ بين عشية وضحاها, وإنما هي تتويج لنضالات دامية ومستمرة شاركت فيها الجماهير والقيادات السياسية والثقافية ولهذا لا يجوز أن يقال إن نموذج الدولة المملوكية هو النموذج السائد في الشرق العربي وإنه من العبث إسقاط الاستبداد الشرقي أو سرايا السلطان الحاكم وبلاطه, ومن المكابرة الحلم بأن نظاماً ديمقراطياً حقيقياً يمكن أن ينجح في أي مكان من الشرق العربي, وفي رأي شوفنمان أن العودة إلى ميثاق الحداثة والقومية أمر كثير الاحتمال بل لعله الاحتمال الوحيد للتخلص من الأزمة أو الكارثة وهذا الميثاق إن حسنت النية وتغلب المنطق الوطني يمكن أن يقضي على التناقض الدموي بين الأصولية والعلمانية بين الخليفة الذي يحكم بأمر الله والرئيس الذي يحكم بموجب الدستور. ‏

-3- ‏
ولئن كان الشرق العربي قد شهد مولد حضارات عريقة, كالفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية, وكان من المتوقع أن يستمد هويته منها, على هذا النحو أو ذاك فإن معركة الهوية اليوم تدور بين ثلاثة نماذج ضاغطة لابد من التوصل إلى تسوية تاريخية منها: الهوية الإسلامية والهوية الغربية, والهوية العربية النهضوية, هناك مجابهة دموية اليوم بين الصاروخ والخنجر على امتداد الشرق الأوسط, إنها معركة غير متكافئة ولكن الصاروخ لن يستطيع أن ينتصر على الخنجر. ‏

في نهاية الكتاب هذا الاعتراف الصادق: ‏

هناك هوة كبيرة من سوء التفاهم والأحقاد لاتزال تتسع بين شاطئي البحر الأبيض المتوسط, ويجب على فرنسا أن تردمها.. لقد غابت فرنسا عن الموعد الذي حدده التاريخ لكي تلعب دوراً كبيراً عام 1990 قبل حرب الخليج فأضاعت فرصة قد لا تسنح لها ثانية, هناك ليل أسود يغلف الغرب والشرق, ولابد من الخروج منه بالحوار والثقة المتبادلة والتعاون وأمام تصاعد البربرية في كل مكان هناك متسع للتكامل والحب والاحترام...) ‏

-4- ‏
اليوم, والسلطات (المستغربة) في الشرق الأوسط تفاخر بأنها قد انتصرت على الإرهاب, وصفت كل قواعده وجماهير العودة إلى (الجذور الشرقية) مستمرة في رفضها وتقديمها الضحايا المؤمنة والغرب المتغطرس يقذف الكرامة العربية بالإهانة تلو الأخرى تبدو صرخة شوفنمان الحارة وكأنها النفير الذي يهيب بالجميع إلى العودة إلى أصل الأشياء والتحلي بالشجاعة والنزاهة. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...