بكائيات على أطلال زنوبيا

02-06-2015

بكائيات على أطلال زنوبيا

عذراً زنوبيا
أكثر من صرح مستباح، إن المدينة ـــ المملكة التي تُعدّ من كنوز الحضارة البشريّة، تضعنا اليوم أمام خوائنا الروحي والحضاري. «وتدْمر كإسمها لهم دمارُ» (أي للاعداء)، قال مرّة أبو الطيّب. تدمر اليوم تختصر دمار العرب، عند لحظة فظيعة من انهيارهم. من السهل طبعاً البكاء على أطلالها العريقة التي بناها «الجنّ» ـــ كما شُبّه للنابغة الذبياني ـــ بناء على أوامر الملك سليمان. من السهل البكاء على أطلال هذه الأمّة التي لم تعد تنجب إلا المسوخ، فيما أبناؤها يتفرّجون على نهايتهم، ويمضون إلى حتفهم بخطى واثقة، ونظرات مطمئنّة، وصدور منتفخة.

من السهل تدبيج مقالات الرثاء التي لن تحمي تدمر، ولن تعيد لنا سوريا، ولا العراق، ولا… لكن من الصعب، والموجع، أن نعترف أننا شركاء في هذه المهزلة الكابوسية التي نشهدها اليوم على رقعة الوطن المشلّع، المنهار، المحاصر بالأمية والجهل والخوف والتعصّب، المرتمي بخشوع عند جزمة جلاّده.
بالأمس فقط كان الناس يتجمهرون في الميادين، عُزّلاً إلا من غضبهم، يهتفون للحريّة. والآن نقف مشدوهين في حضرة السيّاف الذي سبى زنوبيا، ويتهيأ لقطع رأسها. ماذا جرى؟ كان الشعب يحلم بمجتمع مدني يتسع للجميع، ودولة قانون أكثر عدالة تساوي بين الجميع، وسلطة تحكم باسم الشعب ومن أجل سعادته ورخائه. الشعب نفسه بدده طاعون المذهبيّة، صار جماعات متناحرة، ونسي حقوقه الاجتماعية والقوميّة. كيف حدث كل ذلك بلمح البصر؟ من أين خرج هذا المسخ، رافعاً رايته السوداء، ليقول لنا إن الأرض له، والعباد، والسلطة، والمستقبل. وها نحن نرتعد كالأرانب، ونقبل صاغرين، ونغرق في لعبة المقارنات السفيهة. نقفز إلى مستنقع المذهبيّة الآسن، كما لو أنّها من بديهيّات السياسة، وقوانين التاريخ. نتجادل حول الأكثر اعتدالاً بين البرابرة الجدد. نصدّق الغرب اللئيم، الفاجر، بعدما غذّى الوحش، مباشرة أو عبر وكلائه، وزرعه في تربتنا الموبوءة. وما زال يعدنا بالاعتدال والاستقرار، كما وعدنا بالديمقراطيّة، وقبلها بالعلمانيّة! لقد نسينا. نحن ننسى دائماً. لم نعد نعرف كيف كان عليه المشهد قبل «الربيع العربي»، قبل سبي النساء، ورجم المساكين، وقطع الرؤوس، وتدمير التماثيل…
من الطبيعي، وأنتِ تساقين إلى ساحة الاعدام، أن ترمقينا بنظرات الاستغاثة والملامة. عذراً، لم نعد نستطيع أن نفعل شيئاً. لقد ساومنا مع الاستبداد، وتعاملنا مع الجلاد، ووقعنا عقوداً شيطانية مع أوثان التعصّب والانغلاق والتطرّف. هتفنا للتتار باسم «الديمقراطيّة»، وبرّرنا للمذهبيّة باسم «الثورة». شهدنا بالزور للمرتزقة، ضد العقل وضدّ الحق. تفرّجنا على الوحش وهو يكبر، وعبّرنا عن امتناننا لفاعلي الخير الذين علفوه. لقد خرج الوحش من لاوعينا الجماعي، من ضمائرنا، من عجزنا، من تنازلاتنا وعصبياتنا وجهلنا. الآن لم يعد بوسعنا شيء. عذراً زنوبيا! نحن قتلتك الفعليون، سامحينا. عزاؤنا الوحيد، أننا سنفنى معك. الشعوب تموت مع حضاراتها. سنمضي مثلك إلى العدم، كي تستريح هذه الأرض من همجيّتنا، من دعساتنا الأثيمة.
بيار أبي صعب


الرايات السود فوق واحة الحضارة
في امتحان مادة التاريخ، كتبت تلميذة اسم كليوباترا بدلاً من اسم زنوبيا، في إجابتها عن سؤال: من هي ملكة تدمر؟ لم تتردّد طويلاً في الإجابة، ذلك أنّ مسلسلاً كان يُعرض على الشاشة عن حياة الأولى في الفترة نفسها، فعلق الاسم في ذهنها، وكان أن حصلت على علامة الصفر. في المقابل، بإمكاننا أن نكتب موضوع إنشاء باهراً، نفتتحه بعبارة منسوبة إلى زنوبيا «بئس تاج على رأس خانع ذليل، ونعمَ قيد في ساعدٍ حرٍّ أبيّ». وفي حالة ثالثة، ربما سيظن أحدهم أن سميرة توفيق هي الملكة زنوبيا بعد مشاهدة فيلمها «فاتنة الصحراء».

هكذا راكمنا تصورات فولكلورية وسياحية عن هذه المدينة الأثرية، بوصفها استراحة عابرة في الطريق الصحراوي، وأوكلنا أمرها إلى أدلّاء سياحيين يحفظون عن غيب معلومات تاريخية جاهزة، يرددونها بببغائية أمام الزوار. وبدلاً من استثمار سحر التاريخ في هذه المدينة الأثرية العريقة، عملنا على تأكيد بداوتها بترسيخ صورة مضادة وتصديرها بصرياً إلى العالم، فيما اكتفينا محليّاً بالتقاط صور تذكارية خاطفة خلال عبورنا الطريق الصحراوي إلى الفرات. وربما سنعرّج على «فندق زنوبيا» إلى يسار الطريق، في استراحة قصيرة، نتناول خلالها الشاي الأسود، ونتأمل بقايا أعمدة المدينة القديمة، وغابات النخيل. هناك «رالي السيارات» أيضاً، في ثنائية السرعة والبطء، إذ لن يغيب «الجمل» عن الصورة التذكارية السالفة لاكتمال المشهد الفولكلوري. لم نتمكّن ثقافياً إذاً من وضع تدمر في نسيج التراكم الحضري السوري، كما ينبغي. وحين تحضر في المشهد، سوف نستعيد ذاكرة مهتزّة عن مافيات تهريب الآثار، وإهمال المدينة، وسيهمس بعضهم بوقائع من «السجن الرهيب» الذي يقع في مكانٍ ما من المدينة، أو بالمكان السرّي لدفن النفايات السامة، وسط صحراء تدمر في مقاولة مشهورة، كانت سبباً لارتفاع عدد مرضى السرطان في المنطقة الشرقية للبلاد.
لا أحد يتذكّر اليوم أحمد مادون، التشكيلي الذي استلهم أعماله من مناخات هذه المدينة، منبّهاً إلى فرادة الفنون النحتية لأسلافه، فيما كان فاتح المدرّس يؤكد أهمية الفن التدمري في تأصيل هوية تشكيلية محليّة، وسوف يستدعي نزار صابور «أيقونات تدمر» في معرضٍ لافت، مُذكّراً بعراقة المدن الشرقية وأزمنتها الغابرة، واستثمار النقوش والكتابات على الجدران في بناء أعماله التشكيلية المشغولة بالرمل والرماد. كما سيقترح سمير ذكرى في شريطه الروائي «وقائع العام المقبل» مشهداً لأوركسترا تعزف في المدرّج الأثري للمدينة، ناسفاً بداوتها المعلنة التي راكمها «مهرجان البادية» لاحقاً، بوصفها مكاناً طارئاً لبيوت الشَعر والقهوة المرّة وفرق الدبكة السياحية، والشعر النبطي، وعازفي الربابة الجوّالين، وحفلات الشواء.
الآن، لحظة اقتحام البرابرة الجدّد لأوابد المدينة، و»طريق الحرير»، وممرّ القوافل، وموت الغزاة، ستحضر صورة الإمبراطور الروماني أوريليوس لحظة أسر الملكة زنوبيا، بعدما استولى على المدينة سنة 282 م، واقتاد الملكة المتمرّدة مقيّدة بسلاسل الذهب إلى روما، لتموت هناك بعد فترة قصيرة كمداً، فيما سيعبر المدينة خالد بن الوليد بجيشه آتياً من العراق إلى اليرموك. لن يحطّم التماثيل، أو يستبيح المدينة. توجّه إلى معبد «بل» وبنى محراباً صغيراً جهة القِبلَة، وصلّى هناك ثم أكمل طريقه جنوباً. بالطبع، لن يستعيد الغزاة الجدد مثل هذه الأمثولة، إنما سينجزون نسخةً أخرى مما فعلوه في مدينة الموصل، وسيحطّمون «الأصنام» ويعلنون إمارتهم بحدّ السيف، ومحو الذاكرة الحضرية لهذه المدينة المعجزة، استكمالاً للتمرينات على ترسيخ ماكيت «مدن الملح» الجديدة، بدلاً من المراكز القديمة من بغداد إلى دمشق وحتى صنعاء. ولن يلتفتوا إلى تحذيرات إيرينا بوكوفا، المديرة العامة للأونيسكو من أنّ تدمير مدينة تدمر الأثرية السورية «جريمة حرب، وخسارة هائلة للبشرية لأهم موقع تراث عالمي فريد في الصحراء»، أو لنداء مأمون عبد الكريم، المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا، من أجل إنقاذ المدينة الأثرية المدرجة ضمن قائمة التراث العالمي منذ عام 1980. لن يكون السيناريو الجديد لهؤلاء البرابرة مختلفاً عمّا شاهدناه في متحف نينوى، لكن حفلة تحطيم الأصنام ستكون هذه المرّة أكثر تأثيراً، نظراً لأننا إزاء متحف أثري في الهواء الطلق. ولكن كيف واجه المثقفون السوريون هذه المحنة؟ اكتفى معارضو ما وراء البحار باستدعاء ذاكرة «سجن تدمر الرهيب»، وهلّل بعضهم لـ «تحرير تدمر»، واستعاد آخرون نصوصاً لمعتقلين سابقين كتبوها عن تجربتهم الرهيبة في هذا المعتقل الصحراوي، فيما خيّم الأسى على آخرين عبر صفحاتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي. يقول الشاعر محمد فؤاد: «داعش أنهتْ الثنائية المقيتة التي ضلّلتْ أجيالاً بكاملها: التراث أو المعاصرة، فدمّرتْ التراث، وأعدمتْ المعاصرة»، فيما دعت الإعلامية ديانا جبّور إلى تنكيس الأعلام حداداً، كي لا تضيع لاحقاً، أوغاريت، وكنيسة حنانيا، والجامع الأموي، وبقية الآثار. أما الشاعر صقر عليشي، فاكتفى بالقول: «على أعمدة تدمر يتكسّر ظهر التاريخ»، واقترحت لينا بطل حصان طروادة من نوعٍ جديد «فلنصنع حورية عارية وعملاقة، في داخلها جنود، وندخلها إلى تدمر، فهي الوسيلة الأفضل للقضاء على داعش». هل سنكتفي بالمراثي من المتنبي إلى سليمان العيسى، ونغرق في الرمال، وبقايا طعم التمر وحليب النوق؟ وهل ستنطفئ مدينة الشمس تحت خفق الرايات السود، لمصلحة الخرائط الجديدة لإمارة الصحراء، أم سيستيقظ «زبداي» آخر ليخاطب الملكة «إنّي لأشهّر سيفي حتى في وجه النسيم الذي يعبث بخصلات شعرك يا مولاتي»؟

خليل صويلح


دُفنت ست مرات... لكنها مدينة الأبد
ما زالت أشهر عبارة تدمريّة متداولة حتى اليوم هي عبارة «يا حبالتيه» التي تعني: وا أسفاه. ورغم أن دلالات العبارة تُحيل على التحسّر، لكنّ تدمر ما زالت موجودة. ربّما تبدو هذه المقدّمة محاولة للبحث عن عزاء، أو استشراف أمل ما. غيرَ أنّ في ما يتداوله أبناء المنطقة عن «طمر المدينة عبر التاريخ ستّ مرات طمراً كاملاً، ونجاحها كل مرة في العودة»، ما ينسجمُ مع عدم وجود معلومة دقيقة حول النشأة الأولى للمدينة التي يعود أقدم ذكر لها باسمها الحالي إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، مع أدلّة على أنّها أقدم بكثير من ذلك التاريخ. تبدو تدمر لائقةً بالأبد أكثر من كثيرٍ من الرموز التي أُلصقت به.

عراقة تدمر لا تقتصر على الأوابد العمرانيّة (بدَت لعظمتها أكبرَ من قدرات البشر، فنُسبَ بناؤها إلى الجن)، بل تجاوزت ذلك إلى التشريعات والقوانين. تشير بعض الدراسات إلى أن تدمر كانت مهداً لأوّل قانون ضرائب في العالم، ويُعرف باسم «التعرفة الجمركية التدمرية»، وقد تمّ إقراره في «جلسة عادية لمجلس الشيوخ» وفقاً لما ورد في النقش الذي يشي بنظام حكم ديمقراطي. القانون المذكورُ نقش على حجر يبلغ طوله 80.4 متر وارتفاعه 75.2 متر باللغتين اليونانية والتدمرية. هذا النقش التاريخي موجود في متحف الأرميتاج (روسيا) منذ عام 1901، حيث حصل الأمير الروسي لازاريف على إذن من العثمانيين لنقله، بعد تجزئته إلى قطع عدة من أجل سهولة حمله. المفارقة أنّ وجود تحفة من هذا النوع خارج البلاد بات اليوم خبراً سارّاً، لأن ذلك يعني أنّها في مأمن. لكن ماذا عن كنوز تدمر التي بقيت فيها في ظل اجتياح «تنظيم الدولة الإسلاميّة» لها أخيراً؟ يؤكد مأمون عبد الكريم، المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا أن «المئات من القطع الهامّة نُقلت قبل المستجدّات الأخيرة إلى مناطق آمنة»، لكنّه يوضح في الوقت نفسه أنّ «تلك الإجراءات الاحترازيّة لا تعني أن كل شيء على ما يُرام». يقول عبد الكريم لـ «الأخبار» إن «الأحداث في تدمر كانت متسارعة على نحو لم يُتح الفرصة لتحريك القِطع الكبيرة من المتحف. ما زالت التماثيل الضخمة، والأسرّة الجنائزية، والتوابيت موجودة هناك». يبدو الرّجل مواكباً لكل الأنباء المتعلقة بتدمر، يقول: «هم نشروا ما يثبت أن المدينة الأثرية بخير حتى الآن. ونحن لدينا مصادر محليّة أكدت ذلك، لكن المشكلة أنهم غير مضمونين مع الوقت. في أي لحظة، يمكن لهم أن يقوموا بأفعال تدميرية». يشير إلى «تصريحات صوتيّة نُقلت أخيراً عن أحد أمراء داعش، واسمه أبو الليث يؤكد فيها العزم على تدمير التماثيل، أو الأصنام وفقاً للتسمية التي يعتمدونها»، ويضيف: «هناك مخاطر كبيرة على بقايا المتحف. وعلاوة على ذلك، ثمّة مخاطر كبيرة تتعلّق بالمدينة الأثريّة بأكملها».
بدوره؛ يؤكد الباحث ملاتينوس جغنون أنّ المخاطر المحدقة كبيرة نظراً للغنى الاستثنائي لتدمر. يقول جغنون لـ «الأخبار» إنّ «تدمر متحف مفتوح، كل ما فيها قيم، كل عمود وكل تاج وكل نتوء فيها له قيمة عالية». ويضيف: «تتميز تدمر عن كل حواضر العالم القديم بمسألة النقوش الأثرية باللغتين اليونانية والآرامية التدمرية. هذا إرث عظيم جداً. كلّ الأعمدة متوجة بنقوش، والنقوش عبارة عن وثائق تؤرخ أحداثاً ووقائع وتواريخ». ثمّة أنواعٌ خمسة للنقوش التاريخيّة: «تكريميّة، تكريسيّة، رسميّة، دينيّة، وجنائزيّة. كل هذه الأنواع موجودة في تدمر، على الأعمدة وأبدان الأعمدة، والنتوءات التي يظن بعضهم أنها موجودة لوضع مشاعل، لكن وظيفتها الفعلية حمل التماثيل التكريمية»، وفقاً لجغنون. يشير أيضاً إلى «المكانة الاستثنائيّة والفريدة للمدافن التدمرية، لا سيّما المدافن البرجية، التي تحتوي على تماثيل يمكن أن تتعرض للتخريب».
تصريحات صوتيّة نُقلت عن أحد أمراء داعش يؤكد فيها العزم على تدمير التماثيل

لكن ماذا إذا وقع الفأس بالرأس؟ تُعتبر إعادة بناء المواقع الأثريّة اعتماداً على بقاياها ممارسةً حفاظيّة معروفة، سبق مثلاً أن طُبقت في بناء مدينة دريسدن الألمانيّة عقب الحرب العالميّة الثانية، ويتطلّب ذلك ألّا تتحرّك الأنقاضُ من مكانها، كما يتطلّب بطبيعة الحال أن يكون المعلمُ المُدمّر موثّقاً. يؤكد مأمون عبد الكريم أنّ «كلّ شيء في تدمر موثق بدقّة متناهية. المباني والقطع، جميع المخططات والتفاصيل المعمارية التنقيبيّة». لكنه يشرح: «أن إعادة الإعمار لن تقدم لنا شيئاً أصيلاً، بل مجرّد نسخ لا يمكن لها أن تحظى بالقيمة نفسها. كما أن ذلكَ قد يُفيد في الأعمدة والمباني الضخمة فقط، وليس في التفاصيل الدقيقة». كلامٌ ينسجم مع كلام الباحث جغنون الذي يرى أن «أخطر ما في الأمر هو التخريب المتعمّد، وتشويه النقوش. إذا حصل شيءٌ من هذا، فلن يكون التعويضُ ممكناً. أما أنّ عموداً سقط وما إلى ذلك، فهذا أهون الشرور. من الممكن إعادة البناء كما حصل في أفاميا مثلاً، فشارع الأعمدة هناك أعيد بناؤه في ثمانينيات القرن الماضي».
ما الذي يمكن فعله؟ لا تقتصر المخاوف على مخاطر التدمير والتشويه، بل تتعدّاها إلى مخاطر التنقيب المافيوزي، تمهيداً للسرقة والتهريب، وفقاً لما يؤكده مأمون عبد الكريم لـ«الأخبار». ويوضح: «نحن نتخوف من المرحلة التالية. إذ يُتوقع أنه حال استتباب سيطرة داعش ستتحول إلى منطقة رخوة، وتغدو وجهةً لعصابات ومافيات محلية ودولية، تدفعُ أمولاً لداعش مقابل السماح لها بالتنقيب على نحو مماثل لما حدث في موقع مملكة ماري، وموقع دورا أوربوس. هناك، استُخدموا البلدوزرات وقاموا بحفريات عشوائيّة». وكيلا يبقى الحديث محصوراً في مدار الندب والاستغاثة، لا بدّ من التساؤل عمّا يمكن فعله، لتأتي الإجابة متشائمة وواقعيّة: «منذ عام 2012 ونحن نخاطب المؤسسات والمنظمات الدولية، والرأي العام الدولي. للأسف، كانت هناك مشاعر أولية فحسب، إضافة إلى بعض التحركات على مستوى المؤتمرات، ومراقبة الأسواق. لكن لا أحد يتحرّك بشكل رادع». نسأل عبد الكريم: هل من إجراء يمكن للحكومة السورية كالمطالبة بوضع الأوابد تحت اتفاقية لاهاي مثلاً (راجع البرواز)؟ يجيب «في الأزمة السورية، لم تحترم أي اتفاقية دولية. خذ مثلاً قرار مجلس الأمن 2199 الصادر في شباط (فبراير) 2015، الذي نطالب بتطبيق عملي له. وهو يفرض على دول الجوار ضبط حدودها والتصدي لحركة المافيا ولصوص الآثار». ويضيف عبد الكريم خصوصاً إلى تركيا، حيث «تلعب الحدود التركية دوراً أساسياً في سرقة وتهريب كنوز سوريا». وإزاء هذا الواقع، يكرّر عبد الكريم تعويله على «المجتمع المحلي، وعلى النخب الاجتماعية الموجودة هناك. نتمنى أن تستطيع لعب دور فاعل على أرض الواقع، كما حصل في بصرى والمعرة، وألا يفشل كما في ماري ودورا أوروبوس».

اتفاقيّة لاهاي

اعتُمدت اتفاقية حماية التراث الثقافي في حالة نزاع مسلح في لاهاي (هولندا) عام 1954 إثر الدمار الهائل الذي أصاب التراث الثقافي في الحرب العالمية الثانية. أدى الدمار الذي لحق بالممتلكات الثقافية إبان النزاعات المندلعة في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي إلى تسليط الأضواء على ضرورة إدخال بعض التحسينات على تطبيق الاتفاقية التي خضعت لعملية مراجعة بدأت في عام 1991 وأسفرت عن اعتماد بروتوكول ثان لاتفاقية لاهاي في آذار (مارس) 1999. لا تتمتع الاتفاقيّة بصفة إلزامية، بل تعتمد على «احترام الأطراف المتعاقدة السامية للاتفاقية». ورغم التباين في توصيف ما يحصل في سوريا، غير أن الاتفاقية تنطبق على الحالة السورية. وفقاً لتوصيف الحكومة السورية التي تعتبر نفسها تخوضُ حرباً مع أطراف مدعومة من جهاتٍ خارجيّة، تنطبق المادة 18 من اتفاقية لاهاي التي تنص على أنه «تطبق هذه الاتفاقية في حالة إعلان حرب أو عند نشوب أي نزاع مسلح بين طرفين أو أكثر من الأطراف السامية المتعاقدة وإن لم تعترف دولة أو أكثر بوجود حالة الحرب». ووفقاً للتوصيف الأممي الذي يعتبر النزاع في سوريا نزاعاً محليّاً غير ذي صفة دولية، تنطبق المادة 19 من بروتوكول 1999 التي تنص على أنّه: «في حالة وقوع نزاع مسلح غير ذي صفة دولية في أرض طرف من الأطراف السامين المتعاقدين، يلتزم كل طرف من أطراف النزاع بأن تطبق - كحد أدنى - أحكام الاتفاقية الحالية المتصلة باحترام الممتلكات الثقافية، ويجوز لهيئة الأونيسكو أن تقدم خدماتها لأطراف النزاع».

صهيب عنجريني



سرديات الحرب تبتلع رمز التعددية والوحدة والازدهار: بل ويرحبول وعجليبول يسألونكم الرأفة
كان من عادات الملوك المنتصرين في العالم القديم أن يقوموا إما بمسح ذكر أولئك المهزومين، أو بتخليد هزيمتهم وإذلالهم إلى الأبد ليكتبوا بدورهم تاريخهم ويخلدوا إنجازاتهم عبر العصور. مع بروز عصر القوميات والنشاط الاستعماري وحركات الاستشراق وتوافد المستكشفين والمغامرين الأوروبيين، نشطت حركة البحث عن المدن القديمة التي كان يُعتقد أنها أسطورية كتلك الواردة في العهد القديم والملاحم الكلاسيكية كالإلياذة والأوديسة قبل أن تتكشف حقيقة وجود هذه المدن والممالك القديمة لتبدأ معها رحلة تهريب الآثار إلى المتاحف الأوروبية.

بدأت الدول القومية الحديثة الولادة وتلك المستقلة حديثاً بالتأكيد تدريجاً ــ ولاحقاً بسنّ القوانين وتطوير المناهج المدرسية ــ على أهمية التراث المادي كجزء أساسي من مكونات الهوية المتخيلة وكتعبير عن التراث والذاكرة والتاريخ المشترك الذي يجمع السكان الذي وجدوا أنفسهم ضمن حدود إدارية جديدة فرضتها القوى المنتصرة والواقع الدولي الجديد.
في إصداراتهم الدعائية المقروءة والمرئية (كإصدار ولاية نينوى المعنون: «الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر»)، يزعم دعاة ومنظّرو تنظيم «داعش» أنّ تحطيمهم للتماثيل والآثار هو استجابة لأمر إلهي واقتداءٌ بفعل النبيين ابراهيم ومحمد وصحابته من بعده «لأنها أصنام وأوثان لأقوامٍ في القرون السابقة كانت تُعبد من دون الله». تتجسد المفارقة الزمنية في سياق الدعاية الإيديولوجية للتنظيم بتصدّر مسلحين إسلاميين في القرن الحادي والعشرين لمشهد الصراع الدامي في سوريا والعراق وإضافة بُعدٍ آخر للحرب يتجاوز الصراع السياسي والطائفي المتصاعد، ويتمثّل في شنّ حربٍ عدمية على التاريخ والثقافات والتعددية ومخلفاتها التراثية والحضارية المادية التي شكلت إحدى أسس بناء الهويات الوطنية الحداثية في الماضي.
في سياق هذه الحرب، يعمل دعاة التنظيم على استيراد نصوص دينية وردت ضمن سياق القرن السابع الميلادي لمحاكمة الحضارات والأديان والثقافات السابقة للإسلام كافة، مستشهدين بالآية 25 من سورة الأنبياء: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ] وأحاديث منسوبة للنبي محمد والصحابة لمحاكمة الأكاديين والآشوريين لعباداتهم آلهة عدة، بزعم أنّ رسلاً مفترضين وفق التفسير الحرفي للآية، قد دعوا هذه الشعوب إلى عبادة الله الواحد، في مشهدٍ عبثي أشبه بتداخل الأزمنة في ثقب أسود.
على رغم مزاعم التنظيم والرسالة الدعوية الظاهرية التي تهدف لاستقطاب جهاديين محتملين، بخاصة في صفوف المراهقين والشباب للمشاركة في «المعركة المقدسة» على خطى الأنبياء السابقين، إلا أنّ الهدف الأبعد أثراً يتجاوز المعنى الرمزي الكامن في قيام أولئك الأنبياء بتحطيم تماثيل الآلهة الرئيسية إعلاناً للقطيعة مع نظام العبادة القديم السائد آنذاك بوصفه السلطة الهرمية العليا التي تتمحور حولها مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واحتكار السلطة من قبل الديانة الجديدة التي تعمد إلى إعادة هيكلة النظام القديم. تنظيم «داعش» يحاكي إلى حدٍّ ما ممارسات بعض ملوك العالم القديم بإزالة كل أثر للملوك والشعوب التي هزموها لتنهال مطارقه وبلدوزراته على التماثيل والأضرحة والنقوش، وتفجر قنابله ومفخخاته صروحاً بكاملها في إعلانٍ لحرب لا هوادة فيها ليس على الماضي غير الإسلامي، بل على المستقبل. يمارس التنظيم عملية تدمير منهجية ومدروسة على ذاكرة وهوية أجيال ما بعد الحرب وتفتيت كل عناصر النظام القديم بالمعنى الأوسع الذي يتجاوز المؤسسات التي بُنيت في فترة الصعود القومي والنظامين الحاكمين في سوريا والعراق ليشمل عالم ما قبل الإسلام تاريخياً ومخلفات ما لا يعتبره التنظيم إسلامياً كمساجد الشيعة ومقامات الصوفيين والأضرحة والشواهد البارزة فوق سطح الأرض. وهنا يكمن أحد أخطر الإرهاصات المحتملة في أعقاب سيطرة التنظيم على مدينة تدمر التاريخية.

نموذج فريد لتلاقح الحضارت

جاءت سيطرة «داعش» على مدينة تدمر (20 أيار/ مايو الماضي) بعد أيام فقط من السيطرة على مدينة الرمادي، عاصمة محافظة الأنبار العراقية على رغم الحملات الجوية التي تشنها قوات التحالف الدولي بين الحين والآخر على مواقع للتنظيم. إلا أنّ سقوط تدمر المفاجئ شكّل صدمة كبيرة للمتابعين لتطورات الصراع السوري مع تزايد المخاوف من قيام «داعش» بارتكاب مجزرة ثقافية جديدة إلى جانب التقارير اليومية حول ارتكاب مجازر بحق سكان المدينة والإعدامات الميدانية للمجندين والضباط الأسرى والموظفين في القطاعات الحكومية غير العسكرية.
يعتبر معبد «بل» من أهم المعابد في سوريا، كان مكرّساً للثالوث الإلهي الذي يضمّ الرب بل ويرحبول رب الشمس وعجليبول رب القمر

وكان التنظيم قد شنّ سابقاً هجمات عدة على مواقع ذات أهمية اقتصادية كحقل الشاعر كما سيطر قبل أيام من سقوط المدينة على حقلي الهيل والارك لإنتاج الغاز الواقعين بين تدمر وبلدة السخنة. إلا أنّ السيطرة الحالية على تدمر ذات الموقع الاستراتيجي، يفتح الطريق باتجاه شن هجمات باتجاه حمص وحماة والسلمية ودير الزور في حال تمكن التنظيم من تثبيت وجوده، خصوصاً بعد سقوط معبر التنف (الوليد من الجهة العراقية) وهو آخر معبر حدودي يربط بين سوريا والعراق. كما تشكل المدينة التي صنَّفتها الأونيسكو كموقع للتراث العالمي عام 1980، مصدراً اقتصادياً لا ينضب بالنسبة إلى التنظيم ولصوص الآثار والمافيات الدولية.
موقع المدينة في واحة وسط البادية السورية على تقاطع طرق التجارة القديمة، ومهارة التجار التدمريين في إعداد نظام للقوافل عبر الصحراء يربط مدينتهم بالمراكز الكبرى في بلاد ما بين النهرين عن طريق حوض الفرات من جهة، وحوض المتوسط من جهة ثانية... كلها عوامل لعبت دوراً بارزاً في تكريسها كأحد أهم المراكز الاقتصادية والثقافية في العالم القديم. شكلت المدينة نموذجاً فريداً لتلاقح الحضارت التي تمثلت في خصوصية طرازها المعماري، وفنّ النحت الجنائزي الذي ازدهر بين القرنين الأول والثالث للميلاد، حاملاً بصمات تمازج التقاليد الكلاسيكية اليونانية والرومانية والآرامية المحلية.
يعتبر معبد «بل» من أهم المعابد في تدمر، وفي سوريا عامة. كان مكرّساً للإله «بل» بشكلٍ رئيس، وللثالوث الإلهي الذي يضمّ الرب بل، ويرحبول رب الشمس، وعجليبول رب القمر. دُشن المعبد في السادس من نيسان (أبريل) عام 32م، وتم الانتهاء من بنائه في القرن الثاني الميلادي. لكن الموقع الذي شُيّد فوقه المعبد، كان قد استخدم لأغراض دينية سابقاً منذ فترة البرونز الوسيط (2200 ـــ1500 ق.م) ولاحقاً في الفترة الهلنستية (القرن الرابع حتى القرن الأول ق.م). يتألف هذا المعبد الفخم من الهيكل الرئيسي أو الحرم الذي يقع في وسط باحة مربعة واسعة محاطة بسور تسمى «التمنوس». كما زوّد السور بأروقة محمولة على أعمدة ذات تيجان كورنثية. يبلغ عدد الأعمدة 375 عموداً يبلغ طول الواحد منها أكثر من 18 متراً. تعكس هندسة هذا المعبد تأثيرات العمارة الكلاسيكية (الإغريقية، الرومانية) المتمثلة في التيجان الكورنثية والأيونية والجبهات المثلثية الشكل والبنية العامة للهيكل. أما التأثيرات المحلية، فتتمثّل في الأبراج فوق الهيكل، وكذلك وجود المحراب داخل الهيكل. كما أنّ بوابة الهيكل شبيهة ببوابات المعابد المصرية. أما بالنسبة إلى الزخارف الموجودة في هذا المعبد، فهي غنية ووفيرة تحمل سماتٍ شرقية وكلاسيكية.
أما الهيكل، فقد شيِّد على مصطبة مرتفعة، يحيط به رواق محمول على أعمدة، وتيجان ذات زخارف كورنثية نقشت عليها مشاهد دينية وأسطورية وزخارف حيوانية ونباتية وهندسية. ويوجد داخل الهيكل محرابان كانا مخصّصين لوضع تماثيل الآلهة على الطريقة الشرقية، إذ توضع التماثيل داخل المحاريب على عكس اليونانيين والرومان الذين يضعون تماثيلهم في الهيكل فوق قواعد حجرية. وكان المحراب الشمالي مكرساً للثالوث التدمري (بل، يرحبول، وعجليبول) في حين كان المحراب الجنوبي مخصصاً للرب «بل» الذي كان يُحمل تمثاله خلال طقوس الطواف. كما زيِّن سقف المحرابين بزخارف متنوعة. تحول الهيكل إلى كنيسة خلال العهد البيزنطي (من القرن الرابع وحتى مطلع القرن السابع الميلاديين)، وتمكن مشاهدة بقايا صور القديسين الملونة على الجدار الغربي. وفي القرن الثاني عشر الميلادي، تحول المعبد إلى قرية محصنة في عهد صلاح الدين، وأصبح الهيكل مسجداً حتى عام 1929 ما أسهم في حفظه من التعديات. كما توجد في المدينة الأثرية معابد عدة أخرى كمعبد بلحمون ومناة الذي بني في جبل المنطار عام 88 م وكان يشرف على المدينة بكاملها، وقد تحول في العصر الأيوبي إلى مزار. وكذلك، هناك معبد نبو الواقع غرب قوس النصر وبدأ بناؤه خلال الربع الأخير من القرن الأول الميلادي وحتى القرن الثالث الميلادي. وأيضاً معبد بعل شمين الواقع في الحي الشكالي وبني عام 129م على أنقاض معبد أقدم منه وتحول في العصر البيزنطي إلى كنيسة. وهناك معبد اللات الواقع في الحي الغربي من المدينة ويعود زمن بنائه إلى القرن الثاني الميلادي وتحول أيضاً إلى كنيسة في العصر البيزنطي، وكذلك هيكل الحوريات وهو بحيرة ماء نصف دائرية تقع في الرواق الشمالي من الطريق المستقيم.
تضم المدينة صروحاً معمارية بارزة كقوس النصر والشارع المستقيم المصمم وفق المخطط الهندسي الروماني حيث بني في عهد الامبراطور سبتيموس سيفيروس (193--211 م) زوج الإمبراطورة الحمصية جوليا دومنا. يتميز القوس بجمال تصميمه ومداخله الثلاثة، أوسعها الأوسط الذي كان مخصصاً للحيوانات والعربات، ويعلوها قوس مزين بنقوش نباتية وهندسية. المسرح نصف الدائري ذو منصة بثلاثة أبواب مبلّطة بالحجارة وقد بني خلال القرنين الثاني والثالث الميلاديين. والأغورا هي عنصر أساسي في عمارة المدينة الكلاسيكية، كانت تشكل عصب الحياة اليومية. هنا كانت تعقد المبادلات والصفقات التجارية والاجتماعات العامة أيام الحرب والسلم. وهي ساحة عامة مسورة ومحاطة بأروقة ذات أعمدة كورنثية الطراز، ويعود زمن بنائها إلى القرن الثاني الميلادي. أما الحمامات المؤرخة بالقرن الثالث الميلادي، فتتألف من الأقسام المعمارية الرئيسية (البارد والدافئ والحار) كما تتميز بوجود مدخل ذي أربعة أعمدة غرانيتية مستوردة من مصر. وكانت تضم قاعة مثمنة حيث كانت الملكة زنوبيا تستقبل ضيوفها. وتمكن مشاهدة أحجار الغرانيت المستوردة أيضاً في المصلبات الأربعة (تترابيل) الموجودة عند نقطة تقاطع الشارع المستقيم مع شارع عمودي آخر، ويعلو كل عمود غرانيتي تاج كورنثي الطراز.
من أبرز سمات الحضارة التدمرية فن النحت الجنائزي والمدافن. إذ تميّزت بالمدافن الأسرية الفخمة والمزخرفة بالفريسكو أو الحجر أو الجص وبالعناية بالتفاصيل لتلائم الإيمان بأن المدفن مسكن للميت. وكان القبر يُغلق بتمثال نصفي يجسد الميت ويحمل نقشاً يوثق اسم الميت وتاريخ وفاته. أما السرائر الجنائزية، فكانت تتصدر الجناح الرئيسي للمدفن وتمثّل باني المدفن وعائلته سواء أكانوا أمواتاً أم أحياءً. ويمكن تصنيف المدافن إلى أربعة أنواع بحسب أنماطها وهي: المدفن-البيت، والقبور الفردية، والمدافن الأرضية والمدافن البرجية.
ولا يتسع المجال للكتابة عن بقية الآثار المهمة كمعسكر ديوقلسيان، وأسوار تدمر، وقلعة فخر الدين المعني الثاني، وقصري الحير الشرقي والغربي، وموقع تل الكوم ولا لتحليل الوضع العسكري الذي أدى إلى سقوط المدينة.

بين تهريب وتدمير

في 12 شباط (فبراير) 2015 سادت موجة من التفاؤل بين أوساط الباحثين والعلماء في العالم إثر تبني مجلس الأمن القرار ذي الرقم 2199 الذي تعهد حماية التراث الثقافي المهدد في سوريا والعراق. قضى القرار باتخاذ تدابير ملزمة قانوناً لمكافحة الاتجار غير المشروع بالقطع الأثرية والممتلكات الثقافية الآتية من العراق وسوريا وتجفيف منابع الإرهاب التي أصبحت القطع الأثرية المهربة أحد موارده الأساسية. ورغم تبني القرار بالإجماع، إلا أنّ الدول المجاورة ــ باستثناء لبنان ودائرة آثاره ــ لم تتعاون لضبط حدودها ومصادرة القطع المهربة التي يصعب تقديرها، بخاصة أنّ مصدر معظمها يأتي من حفريات مباشرة، وبالتالي فالقطع غير موثقة وصعبة التعقب. كما أنّ تداولها يتم في الأسواق السوداء وهواة جمع التحف والمافيات الدولية. وتشكل تركيا ـــ عبر غازي عنتاب وهاتاي ـــ معبراً للمهربين والزبائن حيث تتم مقاضاة القطع الأثرية بالأموال والأسلحة من قبل العصابات وأمراء الحرب. ونتيجة للأوضاع الاقتصادية الكارثية، يلجأ بعض السكان المحليين أحياناً إلى التنقيب العشوائي بحثاً عما يسد رمقهم، وغالباً ما يقعون ضحية الخداع من قبل العصابات المحترفة التي تشتري الآثار بأسعار بخسة.
في خريف 2014، أسس التنظيم إدارة منبج الأثرية بهدف الإشراف وتنظيم عمليات النهب المنهجي للمواقع في المنطقة
وفي خطوة وقحة، أنشأ بعض المهربين صفحة على فايسبوك لبيع الآثار السورية في تركيا، لكن الصفحة متوقفة الآن. إلا أنّ هذا لا يعني أن عمليات التهريب توقفت. ويصعب التحقق من صحة الصور التي نشرها المهربون لقطع أثرية، ويعود مصدر معظمها إلى مواقع مختلفة من الفترة الكلاسيكية، بخاصة مع نشاط حركة تزييف القطع الأثرية ومحاولة تسويقها وبيعها بوصفها قطعاً أصلية.
شكلت تدمر اختباراً فعلياً لمدى فعالية تطبيق القرار، بخاصة أنّها على لائحة التراث العالمي. ورغم مهاجمة جحافل «داعش» للمدينة من محاور عدة، قاطعين أميالاً في الصحراء المكشوفة وتمكن القوات الحكومية من صدّ الهجوم الأولي، إلا أنّ قوات التحالف لم تحرّك ساكناً. ويبدو أنها كانت تفضل هزيمة القوات الحكومية على يد قوات التنظيم على أن تبدو في مظهر المساند له، ويمكن توقع الأقلام التي كانت ستحلل ذلك «التآمر الفاضح» لو حدث التدخل!
ورغم عدم اعتراف «داعش» بأي مواثيق أو قوانين إلا شرائعه ومصالحه الاستراتيجية، فقد دعت المديرة العامة لمنظمة الأونيسكو إيرينا بوكوفا جميع الفصائل المتحاربة إلى وقف الأعمال العدائية داخل الموقع الأثري في تدمر، ما يعكس درجة العجز، مؤكدةً في بيانها: «من الضروري أن تراعي كل الأطراف الالتزامات الدولية بحماية التراث الثقافي وقت الحرب بتفادي الاستهداف المباشر وكذلك استخدامه لأغراض عسكرية».
خلال اتصال هاتفي مطوّل أجريناه مع المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا مأمون عبد الكريم الذي يكرّس كل لحظة من حياته لإنقاذ ما يمكن إنقاذه على الأرض وحشد دعم المؤسسات الأكاديمية الدولية للضغط باتجاه إيقاف التهريب وضبط الحدود، عرض علينا مجمل الأضرار والانتهاكات التي تعرضت لها المواقع الأثرية السورية وفق المنطقة الجغرافية. وأعرب عبد الكريم عن صدمته وحزنه العميق كأثاري وكسوري من سقوط تدمر المفاجئ، «فلا يمكن لأي أثاري أو سوري أن يتصوّر آثار سوريا من دون تدمر التي تحتل مكانة فريدة في التاريخ الإنساني» بحسب تعبيره. كما أبدى خشيته من تعرض المعابد والمدافن لعمليات تدمير على غرار آثار نمرود والحضر ونينوى ومتحف الموصل في العراق، خصوصاً معبد بل والمدافن البرجية. وتوقّع تكثيف عمليات التنقيب بهدف التجارة في حال تمكن التنظيم من تعزيز سيطرته على المدينة لا سيما أنّ الاهتمام العالمي بمدينة تدمر قد يغري التنظيم بإنتاج أفلام دعائية جديدة على غرار ما حدث في العراق. وأكدّ عبد الكريم أنه تمّ تأمين معظم القطع الأصلية في «متحف تدمر الوطني» التي تعكس الفن التدمري من خلال نقلها من المتحف بإشراف آثاريين من تدمر وبدعم الجهات المختصة إلى أماكن آمنة. ورغم النداءات التي أطلقها عبد الكريم قبل أكثر من عام لحث المجتمع الدولي على الضغط على الدول المجاورة لفرض رقابة على حملات التهريب المنظمة التي دمّرت عدداً كبيراً من المواقع الأثرية، إلا أنّ الاستجابة كانت مخيبة من الدول العربية والدول المجاورة. باستثناء لبنان و«المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي» في البحرين و«المركز الإقليمي لحفظ التراث الثقافي في الوطن العربي» (إيكروم ـ الشارقة)، ما زالت دوائر الآثار في الدول المعنية تتعامل مع المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا كجزءٍ من الحرب القائمة وبوصفها «النظام السوري» في حين تعمل ألمانيا وإيطاليا والمؤسسات الأكاديمية الفرنسية والبريطانية واليابانية بالتنسيق مع المديرية كمؤسسة مستقلة لضبط ورصد القطع المهربة. كما أكدّ عبد الكريم أهمية الدور الذي لعبه المجتمع المحلي وبعض الآثاريين في حماية آثار منطقتهم والتصدي للجماعات المسلحة التي حاولت السطو على الآثار، في حين كان الدور سلبياً في مناطق أخرى كدير مار سمعان الفريد الذي يبعد حوالى 60 كم عن مدينة حلب. إذ تحوّل إلى ثكنة تدريب عسكرية (معسكر نساء النصر والتمكين) لكتيبة من النساء المقاتلات المحليات ممن يعتقد أنهن مواليات لـ «داعش». وقد أنشأت المديرية العامة للآثار والمتاحف خريطة تفاعلية للمواقع الأثرية المتضررة باللغتين العربية والإنكليزية مع إتاحة خيارات البحث عن المناطق المتضررة ومزودة بالصور، ما يتيح للمهتمين فرصة الاطلاع على أحدث البيانات والمعلومات التي يتم رفعها إلى الخريطة كل أول ومنتصف كل شهر. على صعيد الجهود الدولية الأكاديمية والمبادرات العلمية، ظهرت منظمات ومشاريع عدة تعمل على إصدار تقارير دورية توثق الانتهاكات والتعديات على التراث الثقافي المادي السوري ومنها مثلاً مبادرة «التراث من أجل السلام» (Heritage For Peace)، و«التراث السوري في المدارس الأميركية للدراسات الشرقية» (ASOR)، و«جمعية حماية الآثار السورية» (APSA)، و«معهد الأمم المتحدة للتدريب والأبحاث» (UNITA)، و«مركز دراسات الآثاري السوري» (مدماك).

الأخطار المحدقة بالمواقع الأثرية

يمكن تلخيص العوامل المسببة للانتهاكات التي تعرضّت لها المواقع الأثرية بـ:
1) الاشتباكات المتواصلة بين القوات الحكومية وقوات المعارضة أو بين كتائب المعارضة المتنافسة.
2) الأنفاق والبراميل المتفجرة (بخاصة في حلب) التي أدت إلى دمار هائل في المباني والطبقات الأثرية.
3) دوافع إيديولوجية ودعائية إسلامية متشددة.
4) أعمال الحفر والتنقيب بغية النهب والتجارة غير المشروعة بالآثار.
ورغم وجود عصابات تهريب نشطة قبل الحرب، بخاصة في منطقة أفاميا وتدمر، إلا أنّ أنشطتها كانت محدودة. لكن مع تزايد الفوضى والتسليح، تزايد نشاط عصابات التهريب، فبلغ عدد الحفر التي خلفتها في أفاميا ما يزيد عن 15 ألف حفرة في زمن قياسي، مما يؤكده مأمون عبد الكريم. وتكمن الخطورة في تزايد الأفراد المتورطين في عصابات التهريب وتداخل نشاطاتها مع عصابات دولية، بالإضافة إلى استخدامها البلدوزرات التي دمرّت السويات الأثرية تماماً كما حدث في حمام التركمان والصبي الأبيض في الرقة. في تقرير نشره أخيراً عمرو العظم الأثاري وأستاذ تاريخ الشرق الأوسط والأنثروبولوجيا في «جامعة شاوني» في أوهايو، رصد كيف طوّر «داعش» سياساته في إدارة المواقع الأثرية بعد اكتشاف ما تدره أعمال التنقيب والنهب من أرباح مالية. هكذا، بدأ بفرض الخمس (ضريبة 20٪) على المنقبين المحليين عن الآثار لينتقل إلى إصدار رخص تنقيب واستئجار متعاقدين. وفي خريف 2014، أسس التنظيم إدارة منبج الأثرية، نسبة لمدينة منبج القريبة من الحدود التركية بهدف الإشراف على/ وتنظيم عمليات النهب المنهجي للمواقع الأثرية في المنطقة، ما يعكس تحويل التنظيم للمواقع الأثرية إلى مصدرٍ إضافي للتمويل.
وسط استنفار الآثاريين والناشطين السوريين على اختلاف مواقعهم ومواقفهم السياسية لحماية ورصد وتوثيق الانتهاكات بحق آثار بلادهم وإطلاق حملات إعلامية كحملة «أنقذوا تدمر» #SavePalmyra التي استقطبت اهتماماً عالمياً، تعمل بعض وسائل الإعلام المعارضة وبعض الصحافيين السوريين كمطارق الهدم عبر تكريس سردية تحاول اختلاق معضلة أخلاقية خادعة بالمقارنة المثنوية بين الحجر والبشر، والتذرع بأن حملة الاهتمام بالمواقع الأثرية السورية عموماً أمر ثانوي أمام دماء ضحايا الصراع السوري. ووصل الأمر ببعض هؤلاء إلى الزعم بثقة قطعية أنّ السوريين لا يعرفون عن تدمر وصيدنايا إلا سجنيهما الرهيبين والمجازر الدامية التي شهدتهما. هذه السردية ليست جديدة، فمنذ نهاية 2012 على الأقل ومع تصاعد حملات التنقيب العشوائية وتفجيرات الأنفاق (لا سيما في حلب القديمة) بدأ توظيفها في الصراع بل تدعيمها بحديث آخر فُسّر حرفياً وينسب للنبي قوله: «لَهَدْمُ الْكَعْبَةِ حَجَراً حَجَراً أَهْوَنُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ»، بحيث يمنح «شرعية» دينية لاستهداف المواقع الأثرية تارة بذريعة وجود قوات نظامية، وطوراً بذريعة أهمية المواقع الاستراتيجية لحماية المدنيين. يكفي الاطلاع على خريطة الصور الفضائية (بين عامي 2012 و2014) لمتابعة عمليات النهب التي تعرضت لها مواقع ماري (الألف الثالث­­ - منتصف الألف الثاني ق.م) ودورا أوروبوس (القرن 3 ق.م- والقرن 3م). هذه المواقع، كمئات المواقع الأخرى التي تتعرض للنهب اليومي، لم تكن خطوط تماس كما حدث في قلعة حلب والحصن والمضيق والجامع الأموي في حلب التي تحولت إلى مسارح عمليات عسكرية، وقد تعرض بعضها للقصف بالآليات الثقيلة والطيران الحربي من قبل القوات الحكومية والاستهداف المباشر من قبل كتائب المعارضة. رغم أن المدنيين السوريين سواء في مناطق سيطرة المعارضة أو في مناطق السيطرة الحكومية كانوا وما زالوا ضحية الصراع الدائر وحروب الوكالة وتجار الحروب من جميع الأطراف في بلدٍ يتفكك تدريجاً، إلا أنّه عبر تسييس الآثار خطابياً وإقحامها في مقارنات عدمية تحاول اختلاق معضلة أخلاقية خادعة، يُسهم المروجون لسرديات «البشر والحجر» في نشر فتاوى قاتلة ضمن قالبٍ صحافي لهدم ليس فقط ما قد يجمع السوريين مستقبلاً مع تفاقم حدة التفسخ المجتمعي والهوياتي، بل أيضاً تدمير أحد أهم أسس الاقتصاد المحلي للسكان والتغطية على عمليات التدمير والنهب والتجارة غير المشروعة.

باسيليوس زينو

 

المصدر سوريا، والبيع في تركيا!
لا أوقح من صفحة على فايسبوك بعنوان: «آثار للبيع من سوريا». صور رديئة تُظهر تشكيلة واسعة من الحلي، والعملات الرومانية والإسلامية، والأساور، والخزفيات، والقطع المعدنية، والتماثيل الصغيرة. هناك إنجيل بالسريانية و«رأس زنوبيا» أيضاً. رغم أنّه لا يمكن التأكّد من أصالة كل «البضاعة»، إلا أنّ أصحاب الصفحة التي أُغلقت حالياً تعاملوا مع الأمر بصفاقة مدهشة. طوفان التذمّر والشتائم على الـ«تايم لايم»، لم يعنِهم بشيء. أسلوبهم كان بسيطاً: «التواصل على الخاص. المصدر سوريا، والبيع في تركيا».

كانوا يجيبون باقتضاب على طلبات شراء محدّدة، سائلين أصحابها التراسل على الخاص (inbox). في أحد الردود، نقرأ عبارة مستفزة: «التدمري سوقو واقف». هكذا، تُباع آلاف السنين وفق نظام البسطات والبازار على الموقع الأزرق، وبالتأكيد عبر «إي باي»، موقع المزادات الأوّل على الإنترنت.
كم هو منتهك أيّ معنى في سوريا اليوم! المناجم الكبيرة معروفة في تدمر (قبل وبعد غزو «داعش») وريف إدلب. الاحتلال البربري لا يعرف معنى مواقع التراث العالمي ولوائح الأونيسكو. رغم الحديث الحكومي عن نقل مئات القطع المهمّة خارج تدمر، قبل سقوطها بيد عناصر التنظيم الإرهابي، تبقى هذه المدينة «مغارة علي بابا» بالنسبة لهؤلاء. الجدل السوري المخجل حول تفوّق أهمية البشر على الحجر (كأنّه حجر رصيف عمومي) أو العكس، يضاعف من هول الكارثة. نغمة المعارضة والموالاة في مصاب كهذا، نشاز آخر في السجل الأسود الذي صار مجلّدات ضخمة.
قليلون التفتوا إلى حفلة الإبادة الجماعية المقيمة كوحش أسطوري لا يُقهَر. تواتر ممنهج، ودقيق، وواعٍ، وحازم، في الإجهاز على ما تبقّى من هوية متراكمة الطبقات.
إذاً، لا مكان سوى للرايات السوداء في سماء الجوارح المتربّصة ببحر الجثث، التي كوّمتها الهجمة الظلامية بلا رحمة. دون كلل، تسهر جيوش الزومبي على تدشين «أرض العدم».
محلياً، لم تقدّم الحكومات السورية المتعاقبة نموذجاً باهراً في الاعتناء بآثار البلاد. لطالما كانت الأعمدة والقلاع مجرّد حمامات للعموم، ومراتع للسكارى، وزوايا للنفايات والأعشاب البريّة. في التوثيق البصري، لم تُبذل سوى بضعة جهود عشوائية، من أجل ساعات فيديو منوّمة على التلفزيون السوري (تصوير رديء، وتعليق خشبي يُقرأ بآلية). «المؤسسة العامة للسينما» حاولت محو ذلك، من خلال بعض الوثائقيات الجادة. يمكن ذكر «بصرى» (1983)، و«على دروب المدن المنسية» (2009) لغسان شميط، والتسجيلي الأفضل فنياً «نوافذ الروح» (2011) الذي أنتجته بالتعاون مع «المديرية العامة للآثار والمتاحف» ومؤسسة «جذور»، وأخرجه الليث حجو وعمّار العاني، عن سيناريو لعمر أبو سعدة.
هنا، يروي النجم جمال سليمان قصّة حضارات وشعوب وممالك تعاقبت على الجغرافيا الشاميّة. في مفارقة تاريخية، وجودية، عبثية، ما بعد حداثوية، نتذكّر الأخبار عن قيام متحف دولة عربية حديثة التأسيس، بإنفاق أكثر من نصف مليار دولار على شراء لوحتين فقط. كلمات مثل المحرقة، والتصحّر، والجذام، والتحلّل، تبدو رومانسيةً قياساً لما ينمو قرباً منّا في كلّ ثانية.
علي وجيه

 

صبيحة مصرع زنوبيا
1
سأستعين بنفسي، وأسترجع هذه «اليوميّة» البائتة:
كلما نظرتُ إلي هذه الخريطةِ الملَبَّدةِ بالدخان والمقابر وعويلِ النادبين، يسألونني: «لماذا تبكي؟».
لا أعرفُ بماذا أُجيب. لكنني ما ألبثُ أنْ أُعيدَ السؤالَ على نفسي: «حقّاً، ما الذي يُبكيني؟».
تريدون الحقيقة؟ لا شيء. لا شيء يُبكيني سوى أنني، كأنما للمرّةِ الأولى أنظرُ إلى خريطةِ هذه البلاد، وأعرفُ أنها كانت، منذ آلاف السنين، تَضمُّ أضلاعَها على قلبها، وترتجفُ هلعاً مِن جَزّاري هذا الكوكب، ومِن حرّاسِ قلاعهِ ومقابرهِ ومعابدهِ وإسطبلاته.

ما يُبكيني حقاً (ما يُبكيني ويخيفني) أنْ يأتيَ يومٌ أنظرُ فيه إلى هذه الرقعةِ نفسها من الخريطةِ فلا أعثر حتى على موطئِ قدمي، ولا أُبصِرُ إلّا الغبار، ولا أقرأُ إلّا كلمةَ: «العدم».
(وإذا كان لا بدّ من التذكير، فقد كانت تلك «اليوميّةُ» القانطةُ الـمُتَطيِّرة تحمل عنوان: «سوريّا التي كانت...»).
.. .. ..
ويومَ كتبتُ هذه «الغصّة» (قبل سنةٍ من الآن) عاتبني الكثيرُ من الأصحاب، واغتبطَ بخيبتي الكثير من المبغِضين والشامتين، وتَوعَّدني - في ظلماتِ قلوبهم وضمائرهم- الكثيرُ الكثير من مُتَصيِّدي الهفواتِ وزلاّتِ القلوب والألسنة.
وها أنا الآن، بعد سنة من إطلاقِ هذه الصرخةِ الداكنة، وأربع سنواتٍ مديداتٍ من بدايات هذه الكارثة الكابوسيّة التي لا تُنبئ وقائعها بأية علامةِ نجاة..؛ ها أنا أُعيد قراءة ما سبقَ أنْ قلتُ، وأُتمتمُ في بالِ نفسي: «لو تعلم الآلهةُ كم أكره نفسي.. لأنني كنتُ على حق!».

2
أربعُ سنواتٍ مضت (حتى الآن). أربعٌ مفتوحةٌ على ظلماتِ «أربعاتٍ» مفتوحةٍ على الجنون واليأسِ والمهالك. أربعٌ قُبرَتْ في العتمة، والخذلان، ودويّ القذائفِ والصلواتِ والأناشيدِ والمراثي. أربعُ سنواتٍ من تربيةِ الأحلامِ، والسعيِ في المآتمِ، والاستغاثةِ بألهةِ العماءِ والعدم..: أربعةُ دهورٍ من الهلعِ والدمع.
أربع سنواتٍ لم أفعل خلالها سوى ابتلاع الحصى، وتلفيقِ ترّهاتِ «الأمل».
ابتلعتُ الحصاةَ تلوَ الحصاة، والدمعةَ بعد الدمعة، حتى صارت أحشائي وبلعومي وفمي، وما تحت لساني وأجفاني ولِحاءِ قلبي, تلَّـةً شاهقةً من الحصى والرمادِ وأملاحِ الدموع والأسرار.
والآن؟!.. الآن، ها أنا (كجميع أشباهيَ المغلوبين) ألفظُ الحصى كلّه، والأسرارَ المكتومةَ كلّها، والصمتَ كلّه، ودموعَ القانطين المكابرين.. كلّها وكلّها.
ها أنا أصرخُ بملءِ أحشائي وقلبي ولساني ودموعي: «أيها الناس، لقد غُلبنا».
ها أنا أصرخ وأبكي.
ما كتمتُه من دموع اليائسين، طوال أربع سنوات من دعارةِ الأمل، هو كلُّ ما ادّخرتُه من الأسلحة لمحاربة هذا العالم البذيء الممتدّ من عتبةِ مأوايَ إلى آخِر عتبةٍ من أعتاب هذه الأرض الملعونةِ المنَجَّسة.. أرضِ البرابرةِ، والأباطرة، والعبيد، والنخّاسين، والمؤذِّنين، وفقهاءِ النجاة، وفلاسفةِ الأمل، وصنّاعِ الكوابيس والمآسي.

3
منذ أيام (بُعيد ساعاتٍ من مصرع زنوبيا التراجيديّ والأخير)، وعلى موعد قهوة الصباح، زارتنا الجارةُ الصديقةُ الثاكلةُ التي فقدت ابنها قبل سنتين؛ تلك المرأةُ التي (بسببِ حياءِ ضميرها وقلبها، واحتراماً للاسم الذي حملتْه منذ ذلك التاريخ.. «اسم: أمّ الشهيد») ابتلعتْ دموعَها ونحيبَها طوال سنتين كاملتين. لكنها، في تلك الصبيحة القاصمة، وهي تلتقط ما يتسرّب من أشداق المذيعين والمعلّقين وصيارفةِ الخرابِ والألم.. من أنباء سقوط «تدمر» والهزيمةِ الصاعقةِ التي لحقتْ بجدّتِها التعيسةِ «زنوبيا»، لم تلبث أن انخرطت في البكاء (للمرّة الأولى بعد سنتين من المكابرة).. واكتفت بقول: «حرام، حرام!... زنوبيا لا تستحقّ كلَّ هذه المهانة».
.. ..
..نعم، لقد غُلبنا. غُلبنا وخُدعنا.
فإذنْ: سامحيني أيتها الجارةُ الثاكلة!
أيتها الصديقةُ الأمّ ( أمّ الشهيد).. سامحيني!
سامِحنَني يا جميع الأمهات الثاكلات:
أبناؤكنّ (أبناؤكنّ الذين لم يعودوا أبناء لأحد) صاروا من ساكني قارّةِ النسيان. وأنتنّ، الآن وأبداً، لم تَعدنَ «أمّهاتِ شهداء». أنتنّ مجرّدُ «أمّهاتِ مقتولين».
نعم ونعم! إبكي أيتها الجارةُ الباسلةُ الثاكلة (أيتها الشهيدةُ الحيّة).
الآن بمقدورك أن تبكي وتنوحي دونما استحياء.
الآن، بمقدوركِ أنْ تُعيدي ما قلتِهِ في هذه الصبيحةِ الدامسة: «الآنَ ماتَ الولد».
أنتِ وزنوبيا شقيقتان في التعاسة، والخذلان، وبؤسِ المصير.
كِلاكما خالدةٌ في الذاكرةِ (ذاكرةِ الخطباء والمتفاصِحين)، ومطموسةُ الأثرِ في دليل الحياة. وكِلاكما فَقدَتْ ما لا يمكن تعويضُه: أنتِ «ثمرةَ الرحمِ والقلب»، وهي «ثمرةَ الكرامةِ، وشرفَ الإقامةِ في إيوان التاريخ».

4
حسناً! سأعيدُ قولَ ما عوتِـبتُ على قوله: «سورية التي.. كانت».
وحسناً! سأتذكّرُ وأواصل التَذَكُّر.
سأتذكّرُ «ما كانَـته» سوريّة.. وما هي صائرةٌ إليه. سـأتذكّر فلسطين (فلسطين التي كانت أحدَ أنبلِ قلوبِ سوريّة، وصارت قلبها اليتيمَ المضيَّع). سأتذكّر اسكندرون «السليب!..»، وانطاكيةَ التي لم يبقَ منها إلاّ ما تنفثهُ أفواهُ البطاركةِ (بطاركةِ أنطاكيةَ وسائرِ المشرق!) في صلواتهم وأذيالِ خطبهم وهذياناتهم. سأتذكر «لبنان الكبير»، وشرقَ الأردن المكافَـأَ بصولجان العرشِ. سأتذكر الجولان، والرقّة (رقّة الرشيد). سأتذكر تدمر ومملكة ماري..؛ (هل سيأتي يومٌ نتذكّر فيه «أوغاريت».. الرحمَ الأولَ لعقلِ الإنسانيّةِ وروحها؟../ أخشى أنه سيأتي).
ومثلما أتذكّر الآن ديارَ المرحوم يسوع الناصري (الذي ما عادت تنفعه الرحمة)، ولوقيانوس السميساطيّ الذي لا أعرف الآن تحت رايةِ أيٍّ مِن الغزاةِ تثوي عظامُه وأفكاره، سأتذكّر في الغد ( الغد الذي أراه) ديار أبي تمّام، وأبي العلاء، والمتنبي، وأبي فراس الحمدانيّ، وديك الجنّ الحمصي..؛ وربما ديار كاتبِ هذه الهذيانات وقارئيها.
سأتذكّر ما لن يتاح لأحدٍ تَذَكُّره.
سأتذكّر الجبّانات التي لن يتأخّر الفاتحون «المحرِّرون» في نبش عظامها والبصقِ على أرواحِ قاطنيها: سأتذكّر العدم.
سأتذكر وأتذكر وأخاف. أتذكّرُ وأواصِلُ التذكّرَ والخوف: تُرى، ما الذي سيبقى من سورية التي أحببناها.. «سورية التي كانت»؟.. (نعم؛ ستبقى الأضرحةُ، والمعابدُ، والخاناتُ -خانات بني عثمان المؤَلَّهين، والفنادقُ المدلّلةُ التي عمّرها اللصوصُ الراهنون ليَتنعّم بها لصوصُ المستقبل).
وأيضاً، سأتذكّر الشهداء (شهداءَ جميع الأوقات والأمكنةِ والمذابح) الشهداءَ الذين لن يجدوا الوقت الكافي للندم والتَحسُّر؛ الشهداء الذين سُفحت أرواحُهم على تخومِ شظايا الأوطان الضائعةِ أو المضيَّعة (من فلسطين إلى تدمر، ومن أنطاكية إلى مساقط رؤوسنا الموشكة على الـ... إلخ)؛ الشهداء الذين لعلّهم سينتبهون الآن إلى ما هم فيه، ويبكون على أنفسهم صارخين: الآنَ قُتِلنا...
نعم، هي «سورية التي كانت». سورية التي بكيناها. سورية التي سنواصل بكاءها (البكاء عليها أو البكاء منها). سورية التي، بعد وقتٍ آملُ أنه لن يجيء ونحن على قيد العيش، سندير لها ظهورنا وضمائرنا، وننطلقُ ناحيةَ ظلامنا الترابيّ الأخير، ونتركها (نترك ما بقي من حطامها) يتأوّهُ ويبكي.
نعم: هي سورية التي كانت. ونعم: نحن لم نعد ننتمي إلى وطنٍ ولا إلى عصر. نحن ننتمي إلى عالم الأمس، وتاريخ الأمس، وجغرافية الأمس. ونعم: كان لأسلافنا وطن في الماضي، وها نحن الآن -ورثَتَهم وقَـتَلتهم في آن- نقيم على كومةٍ من الشظايا الدامية التي.. كانت بلاداً.

5
أما أنتِ يا زنوبيا (أنت التي قُدِّر لك أن تموتي مرتين) فاطمئنّي! لن ندعكِ تُنسين.
فغداً، بعد أن يستتبّ الجنون وتكتمل أركان المذبحة، سنطلقُ اسمكِ (اسمكِ المهيب العظيم) على ما سيُعاد إعمارهُ من البارات، ونوادي الليل، ودُور الـ.... ومكاتب التسويق العقاريَ أو «العاطفيّ»، والمطاعمِ الفولكلورية المتخصّصةِ في الشّواء البلديّ النفيس، شواءِ لحم الضّان التدمريّ، ذائعِ النكهةِ.. والصِّيتِ.. والطهارة.
اطمئني يا زنوبيا، اطمئني! سنأكلُ شواءَ لحمكِ.. ونتذكرك.
نزيه أبو عفش

 

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...