آخر مقالة منشورة لحلمي سالم

25-10-2007

آخر مقالة منشورة لحلمي سالم

«لماذا الذي كان لا زال يأتي؟ الآن الذي سوف يأتي ذهب». هذا بيتُ للشاعر اليمني الراحل عبدالله البردوني تعتبره الناقدة المصرية فريدة النقاش تلخيصاً لأزمة الحداثة العربية. منذ قرنين حتى لحظتنا الراهنة: لماذا لا يزال الماضي يجثم على الحاضر؟ لأن المستقبل لم يأت، بل فر وراح. ومن منظور هذا البيت الشمولي العجيب تقدم فريدة النقاش كتابها المهم «أطلال الحداثة»، الصادر حديثاً عن «كتاب الهلال» في القاهرة.

هذا كتاب ينظر في أسباب تعثر الحداثة العربية. وضمن مقدمتها القصيرة تسوق الكاتبة ما يشبه شرحاً للعنوان الحزين الثقيل، فتشير الى ضياع أحلام نهضوية عدة، بدءاً من حلم الطهطاوي في «عصرنة» الحياة العربية، مروراً بحلم محمد عبده في التضافر بين الدين والمدنية، وصولاً الى حلم طه حسين بأن يكون التعليم المجاني تعويضاً عن هزال ثورة التصنيع في بلادنا العربية. والمفارقة المؤلمة عند الكاتبة هي أن تتعثر الحداثة في الوطن العربي في الوقت الذي تتوافر في البلاد العربية ثروة كان من المفترض ان تنقلنا بيسر الى القرن الجديد. ثم يزداد الحزن حزناً حينما يتضح لنا أن كل معركة كسبناها من قبل صار علينا أن نكسبها مجدداً. لماذا الأطلال؟ تجيب النقاش: «المحرك لا يعمل إذا غاب جزء منه، فما بالنا والاجزاء الغائبة من محرك حداثتنا هي أكثر من الحاضرة. فنحن لم نحقق بعد مصالحة بين الدين والعصر، ولم نقبل بعد حقيقة أن لا توجد هوية خالدة في التاريخ تسمى «الخصوصية الثقافية» ولم نصل بعد الى فصل حقيقي لا شكلي بين السلطات: التنفيذية والتشريعية والقضائية».

فكرة جوهرية من أفكار الكتاب تقوم على أن الاستعمار الاجنبي قطع الطريق على الحداثة العربية الداخلية الذاتية، التي كانت بذور فعلية لها راحت تتخلق في اديم المجتمعات العربية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، قبل مجيء الحملة الفرنسية 1798 اذ دخلت الحداثة - أي النظام الرأسمالي - بكل أشكالها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الى بلدان الشرق دخولاً تعسفياً عبر الاستعمار والقهر، لتعطل نموها الذاتي في اتجاه الحداثة. ثم فرضت نفسها على جماعات وشعوب كانت أخذت تستيقظ من سُبات القرون، لتدخل بنفسها وبقواها الذاتية الى العصر الحديث.

سنجد تفصيلاً لذلك في دراسة «الجذور الإسلامية للرأسمالية»، التي تحلل كتاب الباحث الاميركي في تاريخ الشرق الأوسط بيتر غران، الذي يدحض النظرية التي رأت أن دخول الاستعمار (الحملة الفرنسية) الى البلاد الطرفية أو المتأخرة شكل نقطة تحول الى العصور الحديثة، وهي نظرية تقوم بعملية تعتيم على الوحشية الاستعمارية والنهب المنظم، وعلى عمليات كبح تطور هذه البلدان (أي زيادة تأخرها)، ما أضرّ بالطبقات الوسطى التجارية الوليدة، وبالثقافة العقلانية التي كانت بدأت تفرزها في الفكر والأدب. كان الشيخ حسن العطار (استاذ الطهطاوي) يزاوج بين المعيار الديني والمعيار المدني، وكان الجبرتي يتجه إلى الرواية الواقعية الشعبية في التاريخ، وكان الحريري يبتعث النثر الفني في المقامات، وكان الشاعر اسماعيل الخشاب يقدم الكلاسيكية الجديدة التي مهدت لمرحلة الإحياء، وفي كل هذا الحراك الوليد «كانت الثقافة العلمانية ثمرة تفاعل بين حركة التجديد في الثقافة الدينية والثقافة الدنيوية البازغة، التي أكدت في شكل متزايد مبدأ المنفعة الذي مهد الطريق الى التجريب».

في بحث «قضايا ما بعد الحداثة في الأدب والنقد» تشير النقاش الى أننا لو أردنا اختزال الحداثة في كلمة، فستكون «ميلاد الفرد» وإذا أردنا اختزال ما بعد الحداثة في كلمة، فستكون «تجزئة الفرد وتناثره ذرات». نشأت الحداثة مع ولادة النظام الرأسمالي في أوروبا من رحم الإقطاع، وكان عنوانها الأساس في الفكر هو التنوير، وفي الحكم العلمانية (أي فصل الدين عن الدولة) واستوى الانسان فرداً... على أن الحداثة اهتزت هزة عنيفة بسبب ازدواجية الظاهرة الاستعمارية: فهي - من جهة - أوج الحضارة، وهي - من جهة ثانية - ذروة الهمجية وقهر الشعوب. وهنا انقسم التنوير على ذاته: اتجه قسم منه الى التمركز الأوروبي «بما يصاحبه من نزعات عنصرية» واتجه القسم الآخر الى الاشتراكية، وفي الصراع بين القسمين نشأت الحداثة العليا. ثم انقسمت مرحلة «ما بعد الحداثة» بدورها، الى منظورين: الأول هو المنظور الليبرالي المحافظ الذي يرى أن العالم وصل الى نهاية التاريخ بسقوط الاشتراكية، ويكرس دعوة صدام الحضارة الغربية مع غيرها من الحضارات الاخرى (يمثله فوكوياما وهينتنغتون). والثاني هو المنظور الاجتماعي التقدمي الجديد الذي يرى أن ما حل بالعالم قبل «وفي ظل» النظام العالمي الجديد هو أزمة عميقة فشل المشروع الاشتراكي في الخروج منها، وأن هذا المشروع يحتاج الى التجديد وإعادة البناء (ويمثله إدوار سعيد وايغلتون).

المنظور الأول يذهب الى أن الايديولوجيا اختفت لتحل محلها التكنولوجيا، وأننا نعيش في قرية كونية تحكمها صور الاشياء لا الاشياء نفسها، بعدما ماتت الكليات الشاملة والسرديات الكبرى. لكن جاك دريدا (استاذ التفكيكية) فضح حقيقة ارتباط النزعة الليبرالية والمحافظة الجديدة بالهيمنة الثقافية التجارية للنمط الأميركي، حيث يجري نهب العالم. إذ أن انتصار الديموقراطية الليبرالية (سمّاها اقتصاديون كثيرون الليبرالية المتوحشة) أدى إلى العنف والظلم والتهميش، وجوع عالم منهك».

تحلل فريدة النقاش مبادرة وقف العنف التي أعلنتها «الجماعة الإسلامية» المسلحة. وهي المبادرة التي انقسم في شأنها الرأي، بين ذاهب إلى تفاؤل وثقة في صدق نية الجماعة وقادتها بصدد وقف العنف، وذاهب إلى أنها مناورة وهدنة لالتقاط الأنفاس، اتباعاً لأسلوب «التقية» الذي يظهر غير ما يبطن.

وما ينطبق على مبادرة وقف العنف عند «الجماعة الإسلامية» ينطبق كذلك على مبادرة «الإخوان المسلمين» التي أعلنها المرشد العام بعنوان «المبادئ العامة للإصلاح في مصر». فالمدقق في هذه المبادرة سيتبين أن الأرضية الأصلية لها تنطلق من الدعوة إلى إقامة الدولة الدينية التي يقوم فيها «الإخوان المسلمون» بإعادة المجتمع الكافر إلى شرع الله، والدعوة إلى الخلافة الإسلامية التي تتعدى الأوطان، حيث «الوطن فرع في الدين»، والدعوة إلى تفعيل نظام الحسبة (الذي يُعاقب به المفكرون)، والدعوة إلى دفع «الجزية» بخصوص أهل الكتاب، وتحريم الولايات العامة على المرأة.

«المثقف والسلطة والديموقراطية»، يتعرض لكتاب «السلطة الثقافية والسلطة السياسية» للمفكر علي أومليل، فيلقى الضوء على مفكرين إسلاميين صدروا عن منظور «مدني» دنيوي، من مثل ابن المقفع الذي يمكن اعتباره جنيناً للفكرة العلمانية، إذ هو «يفصل مجال السياسة عن مجال الدين، ويميز ما هو سياسي مما هو ديني». ويلقى الضوء على الفرق بين استبداد الحكام باسم الشريعة واستبداد الحكام من دون الشريعة.

توجه فريدة النقاش نقداً صريحاً للتنوير البرجوازي العربي الراهن، في دراستها «مأزق التنوير وضرورة التغيير». وهو نقد ينطلق من أنه تنوير يقف عند الأفق المثالي، لأنه تنوير يقف عند الأفق المثالي، فهو يقوم برسالته من دون مساس جذري بالبناء الاجتماعي. فيظل تنويراً نخبوياً، معزولاً عن القاعدة الاجتماعية الواسعة للعمال والفلاحين، على اعتبار أن التفكير الناقد هو امتياز للمالكين والقادرين!

والمساواة التي ينادي بها هذا التنوير البرجوازي، حتى في صورته الراديكالية: بدءاً من الطهطاوي ومروراً بطه حسين ووصولاً إلى جابر عصفور، هي مساواة أمام القانون من دون مساس بالملكية الخاصة ومن دون تأسيس اجتماعي اقتصادي جديد عبر مشروع يتخطى إحسان الأغنياء للفقراء. وهنا يقع هؤلاء المنورون الجدد في مأزق شامل، إذ يقدمون قناعاً تنويرياً عقلانياً لوجه سياسي هو في حقيقته طفيلي وفاسد وغير عقلاني.

وتشير النقاش إلى أن الخطاب التنويري الجديد موجه في الأساس إلى الجماعات الظلامية التي تكفّر المجتمع، متجاهلاً السلطة السياسية الجائرة، التي هي سند مكين لتلك الجماعات المتشددة. لذلك تبقى رسالة التنوير من دون حامل اجتماعي، ومن دون مشروع كامل للتجاوز، لتظل خطاباً معلقاً في الهواء، هائماً في أوساط المثقفين الساخطين. والمفارقة في كل ذلك أن السياسة القائمة هي وجه آخر من وجوه مشروع الاستبداد الذي يرفع رايات دينية، وإن اتخذ شكلاً عسكرياً بلباس مدني!

«أطلال الحداثة» كتاب جاد ينطلق من عقلية نقدية نافذة وشجاعة. وجاء في لحظة مناسبة للمشاركة في الحوار الساخن الواسع الدائر في الأوساط الثقافية والسياسية العربية حول قضايانا الأكثر حساسية في لحظتنا العصيبة الراهنة، حتى نغادر حداثتنا المشوهة، المبتورة والمتعثرة، ولئلا نطيل وقفتنا على «الأطلال» مرددين مع أمرئ القيس: «قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل».

حلمي سالم

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...