«لو كنت أملك مليوناً؟»: حين يحرر المال الألسنة والأيدي

04-10-2011

«لو كنت أملك مليوناً؟»: حين يحرر المال الألسنة والأيدي

من منا لم يحلم يوماً بأن يمتلك من المال ما يمكّنه من العيش بحرية مطلقة أولاً، ولكن بعد ذلك بأن يقف ويقول لمن يريد أن يخاطبهم، ما هو رأيه الحقيقي فيهم؟ من منا لم يحلم بأن تمكّنه ثروة ما، من أن يقول ما يشاء لمن يشاء، من أن يفعل ما يشاء حينما يشاء. في اختصار: أن يحرّره المال من الخضوع لمشيئة الآخرين والرضوخ لمبادئ العلاقات العامة القائمة اصلاً، وبحسب نظرية الفرنسي «لاروشفوكو» على الرياء المتبادل وعلى الحرص على المصالح؟ نعرف على أي حال ان هذه الأمنيات نادراً ما تتحقق. بل حتى حين يحوز المرء ثروة «تحرره»مشهد من الفيلم يظل في نهاية المطاف اسير اعتبارات اجتماعية وحسابات قد لا تكون ذات علاقة بالمصلحة المباشرة. ومن هنا ليس من السهل ان يتحقق هذا في حياة المرء. ولكن من المعروف أن ما لا يمكن الحياة تحقيقه، يسهل على الفن أن يحققه، في الخيال تحديداً. وواضح ان أعمالاً فنية كثيرة، أدبية ومسرحية ولاحقاً، في القرن العشرين، سينمائية، وضعت انطلاقاً من هذه الفكرة، لتروح وتتصور كيف تكون النتيجة. وفي هذا الاطار ليس سهلاً احصاء الأعمال الفنية التي استمتع بها الجمهور، كترفيه له ولكن أيضاً كإسقاط وتنفيس، إذ يتماهى معها، منذ حقّق الانسان نظرة فردية الى ذاته متخلصاً، والى حد ما، من كونه ابن جماعة أو مجموعة ما. ذلك ان فكرة التحرر المطلق، ولو من طريق الفن لا يمكنها ان تكون منطقية إلا اذا ارتبطت بفكرة الفردية التي تضع ايديولوجيات الجماعة التوافقية او القسرية جانباً، معطية الفرد، الكائن البشري، إمكان ان يفكر لنفسه وبنفسه، وشرط ان يتبع المبادئ الأخلاقية الاجتماعية التي تحتم عليه ان يعرف ان حريته انما تنتهي حين تبدأ حرية الآخرين.

> في مجال الفنون، إذاً، كانت السينما آخر القادمين الى هذه الفكرة، الى درجة انها طوال القرن العشرين وحتى الآن جعلت منها أحد مواضيعها. وإذا كان الفن السابع قد عرف أفلاماً عدة، في مختلف الأمم وبمختلف اللغات تناولت الموضوع نفسه، فإن هناك أفلاماً، علامات، في هذا المضمار، لعل من أطرفها وأكثرها دلالة، الفيلم الأميركي «لو كنت أملك مليوناً» الذي عرض في عام 1932، وحقّق نجاحاً جماهيرياً كبيراً. ولعل أطرف ما في هذا الفيلم انه، لكي يدافع عن فكرة «شديدة الفردية» جعل من نفسه عملاً جماعياً، بل ربما أول الأعمال السينمائية الجماعية في هوليوود. فإذا كان الفيلم يرتبط عادة باسم المخرج الألماني الأصل، العامل حينها في هوليوود، ارنست لوبيتش، فإنه في حقيقته حقق على أيدي لوبيتش وستة آخرين من زملائه، بعضهم مخرجون كانوا من أهم من عرفت السينما الأميركية في ذلك الحين. ولسوف يكون هذا الفيلم الطريف، فاتحة لأعمال جماعية سيشارك في تحقيقها على مدى تاريخ السينما مخرجون كثيرون لكل منها... ومن بينها قبل سنوات «حكايات نيويوركية» الذي حققه وودي آلن وفرانسيس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي. ولكن الملاحظ هو أن هذه الأفلام تتألف من قصص مختلفة يجمع بينها مكان ما، أو زمان ما، أو حبكة معينة، أما «لو كنت أملك مليوناً»، فإنه فيلم ينطلق من حكاية واحدة ليتشعب في اتجاهات عدة، ويعود بعدها الى حكايته الأصلية، بعد أن يكون كل مخرج حقق التشعب الذي أسند اليه.

> إذاً ليس فيلم «لو كنت أملك مليوناً» فيلم اسكتشات قصيرة، بل هو فيلم ذو موضوع واحد... وهنا تكمن غرابته. بيد أن علينا قبل أن نغرق في هذه الغرابة ان نتوقف عند الفيلم نفسه لنرى كيف يتجه ويتشعب فكرة وموضوعاً.

> قبل ذلك علينا أن نقول ان الفيلم يستند، أصلاً، الى قصة قصيرة - لا يتجاوز عدد صفحاتها الدزينة - كتبها الأميركي ر. د. أندروز بالعنوان نفسه. وتتحدث هذه القصة عن ثري واسع الثروة، يكتشف في تصرفات أفراد أسرته ما يخيّب أمله فيهم، لذلك يقرر أن يوزّع ما لديه من ثروة على اشخاص يختارهم عشوائياً من بين الناس الواردة أسماؤهم في دليل الهاتف. وهكذا يختار الأشخاص واحداً بعد الآخر، وسط غيظ أهله... ويبلّغ كل واحد من الذين يتم اختيارهم بما يحدث. ويلي ذلك تسلل الى حياة الأشخاص المختارين لرؤية كيف كانت تصرفاتهم، وما الذي دفعتهم الثروات المفاجئة الهابطة عليهم الى فعله. ومن الواضح ان هذه التصرفات، التي تشكل عصب القصة، إنما الهدف منها تقديم دراسة اخلاقية/سيكولوجية تطاول بعض النماذج الاجتماعية ومن خلالها، قطاعات عريضة من المجتمع.

> والفيلم الذي شارك في كتابة السيناريو له، اشخاص كثر من بينهم مخرجه الرئيس والمشرف على العمل ككل، أرنست لوبيتش، لم يبتعد كثيراً من الهدف المنشود من كتابة هذه القصة. فهو، خارج إطار اسلوبه الهزلي النقدي اللافت، جاء بدوره دراسة اخلاقية لمجتمع بأسره. أما من ناحية تقسيم الفيلم، فإنه، بعد المقدمة التي يروى لنا فيها ما حدث للثري ودفعه الى الإقدام على خطوته تلك، يتشعب الى فصول عدة يحدثنا كل واحد منها عن شخصية من الشخصيات التي اختارها الثري عشوائياً. وهذا التشعب يأتي في سياق الفيلم تباعاً على الشكل الآتي:

> الشخصية الأولى التي تقدم لنا هي شخصية بائع خزف خجول، نعرف انه كان دائماً يعيش وخوفه الأكبر ان تتكسر قطعة من القطع التي يبيعها. هنا، ما ان يتأكد هذا البائع من ان اسمه قد اختير ليرث ثروة، حتى يقف ويبدأ في تحطيم محتويات المتجر قطعة إثر قطعة، في لعبة تحرر مدهشة من مخاوفه.

> الشخصية الثانية كانت شخصية فتاة بائسة اعتادت ان تبيع جسدها لكي تبقى على قيد الحياة وها هي الآن إذ ورثت الثروة الموعودة تتحرر من ذلك المصير البائس الذي يكتب عادة لبنات طبقتها وللواتي لهن وضعها. وها هي الآن وقد حررت جسدها وصار في إمكانها ان تحب من تشاء من دون ضغط مادي أو إكراه.

> بعد ذلك ينعطف الفيلم في الفصل التالي عن بعده الاجتماعي بعض الشيء لكي يقدم لنا حكاية طريفة حول مزيف عادي كان هو الشخص الثالث الذي تم اختياره. صاحبنا هذا حين يصل اليه الشيك الموعود، لن يمكنه أبداً ان يصدق انه انما أُعطي شيكاً من دون رصيد... ما يجعل هذا الفصل الأكثر طرافة ولكن في الوقت نفسه الأكثر ابتعاداً من المناخ العام للفيلم.

> الفصل التالي يرينا عجوزين في سيارة يحدث لسائق شرير ان يصدم لهما سيارتهما، من دون أن يعتذر ومن دون أن يتمكن أحد من اعادة الحق اليهما. فما الذي يحدث حين يعلمان انهما ورثا الثروة غير المتوقعة؟ في كل بساطة يركبان سيارة ويتعمدان ان يصدما بها العشرات من السيارات، على سبيل الانتقام لما طاولهما.

> وبعد ذلك، يغرق الفيلم في نوع من الميلودراما السوداوية، حيث ان الوارث التالي يكون شخصاً محكوماً عليه بالإعدام. وإذ يصله المبلغ الذي ورثه بعد أن تم اختيار اسمه، أيضاً، عشوائياً، يتبين ان المال وصله بعد فوات الأوان... إذ ان الحكم كان قد نفذ فيه...

> وبعد المحكوم بالإعدام يأتي دور موظف في مكتب اعتاد رؤساؤه ان يقهروه ويقمعوه ويعاملوه معاملة لا إنسانية فيها. فلا يكون من شأنه بعدما يتأكد من وراثته حصته المقررة، إلا أن يرتب مكتبه في شكل لائق، ومن ثم يصعد الى الطابق الثالث في المبنى، وما إن يصل الى غرفة رئيسه حتى يطرق الباب بكل أدب ويدخل. وحين يصبح في الداخل يقف بكل هدوء في مواجهة هذا الرئيس الظالم، ثم ينظر اليه ملياً ويسحب لسانه... لا أكثر، ليخلي المكان في الفصل التالي لعسكري يرث بدوره فيتخلى عن خوض الحرب... ليصبح رجل سلام.

> أما في الفصل الأخير، فإن لدينا سيدة وضعت في مأوى، ظلماً... وها هي اليوم تفوز بحصتها من الإرث... فماذا تفعل؟ بكل بساطة تلتقي بالثري المحسن البائس الذي كان وزع ثروته عليها وعلى غيرها، فيفتن بها ويستعيد حبه للحياة...

> وعلى هذه الحكاية الأخيرة تنتهي فصول هذا الفيلم الطريف والغريب لتترك المتفرج يطرح على نفسه هذا السؤال الأساس: ماذا لو كنت أملك مليوناً؟ وأنت ايها القارئ... أخيراً... ما الذي قد تفعله لو هبط عليك، فجأة ومن دون توقع مثل هذا المبلغ؟

إبراهيم العريس

 المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...