حـوار فـي الـفن والعمـارة والتنظيـم المدينـي

18-09-2009

حـوار فـي الـفن والعمـارة والتنظيـم المدينـي

ـ سألني، كيف تعرِّف العلاقة بين الفن والعمارة؟
÷ قلت، في الجواب بالضرورة، سؤال مزدوج، ما هي العمارة؟ أولاً، وما هو الفن؟ ثانياً. واجهة في جامعة البلمند
ما هي العمارة؟ العمارة هي أداة التعبير عن دور التنظيم المديني، وتنظيم المجالات المبنية في تحسين الحياة اليومية للناس، تحسين حياة كل فرد في المجتمع. وعندما ننظر إلى العمارة من هذا المنظور، لا يكون للفن علاقة مفيدة بها، إلا بمقدار صيرورته حقلاً مفتوحاً لأبحاثٍ مهتمَّةٍ باكتشاف أشياء جديدة مفيدة للمجتمع ولكل فرد فيه. فالعِمارة من هذا المنظور أكرر، هي تنظيم المجالات المبنية، بما يضيف شيئاً ما إلى الشارع وإلى المدينة حيث تشيَّد.
لا أنظر إلى العمارة إذاً كعمل فني أو كفعل في الفن. العمارة بالنسبة لي، هي جزء من المدينة تتحول معها. وقد يساهم المعمار أحياناً في هذا التحول، إلا أنه غالباً لا يستطيع ذلك.
قد يتعاون معمار في بنيانٍ ما مع فنَّان، رسَّام أو نحات، لإنجاز بعض التفاصيل، أو لإضافة لمسات ذات أبعاد جمالية مختارة. إلا أن هذا التعاون، لا يغيِّر طبيعة العمارة التي تبقى قبل كل شيء بنياناً، تحكمها مبادئ البنيان الملائمة لحاجات الناس الذين سيستخدمونها كمنتج اجتماعي صنع خصيصاً لتلبية حاجاتهم.
ـ ألحَّ مشدِّداً بقوله، أراك ترى للعمارة حدوداً إذاً! فهل ترى العمارة كممارسة، كفعل مادي، كاختصاص مهني، هل تراها تتحرَّك باضطراد نحو المعرفة التقنية، مبتعدةً عن الهواجس الفنيَّة؟ أو بصيغة أخرى، هل تراها تبتعد عن هاجس خلق بيئة لها معنى؟ وذلك في سياق صناعة البيئة المبنية التي تحيط بنا والتي يحقِّقها المعمار أثناء ممارسته المهنية.
÷ أنظر إلى هذا الحراك، من منظور واقع ما يجري عندنا أي في الأطراف المتخلفة من العالم الرأسمالي المبالغ في تطوره. لا أنظر إلى هذا الحراك من المنظور الشمولي الذي ورد في سؤالك، بل أنظر إليه انطلاقاً من واقعنا الإقتصادي الإجتماعي «التابع» المتخلِّف. لا يمكن في واقعنا، الكلام عن تحرك العمارة كممارسة مهنية نحو التقنية أو نحو الفن، إلا في الإنشاءات التي تُعنى بالحيِّز العام وبالتجهيزات العامة.
فالمعمار في هذه المنشآت، انما يعمل في المدينة ويتعامل مع بنيتها ومع مورفولوجيتها. والحراك الصحِّي نحو التقنية أو التكنولوجيا ليس مطلقاً متفلِّتاً، بل هو مقيَّد بحاجات الناس، وبقدرات المجتمع الإقتصادية والتقنية في تلبية هذه الحاجات.
لا يستطيع المعمار اليوم، عندنا وعند غيرنا، أن يتجنَّب التعقيدات التي تواجهه في إنجاز المباني العامة التي تتطلَّبُ معارفَ ومهاراتٍ تعالج بمهنية عالية المسائل المعقدة، والتي أصبحت جزءاً من عمارة ايامنا هذه. وهي تعقيدات لا يمكن تجاوزها في حياتنا وفي ثقافتنا المهنية اليوم.
هل هناك حضور للهواجس الفنية أو الجمالية في هذا العمل؟ إن مثل هذه الهواجس تصبح مضحكةً وتافهةً، إذا لم نستطع أن نعبِّر عنها في عمليَّة البنيان العادية. ولكن ثمة حاجة، كما سبق وذكرت، أن يُنتج المعماريون مجالاتٍ ذات معنى. لذلك أرى أنه من واجب المعماريين أن يطوروا قدراتهم، لا ليخلقوا المجالات ذات المعنى فقط، بل ليرقوا بها بحيث يصبح المعنى جزءً بديهياً في عملية إنجاز البنيان.
II
ـ في غمرة التطورات التكنولوجية، يكثر الكلام عن البيئة، وعن العمارة الخضراء، وعن العمارة المستدامة ... إلخ. فتتداخل في هذا الكلام مقولاتُ الطبيعي والإصطناعي، أو الطبيعي والصناعي. كيف توفِّق بين اهتمامك بالطبيعة وبعمارةٍ تتكامل مع موقعها، واهتمامك بمعادلة الطبيعي ـ الإصطناعي؟
÷ يبدو لي من الضروري أن لا نرى دائماً في الطبيعي والإصطناعي مقولتين متناقضتين. ربما استطعنا أن نرى فيهما مقولة شبه واحدة. أو بشكل أدق، أن نتلمَّس فيهما استمراراً للمفاهيم، استمرار الطبيعي في الإصطناعي. لا أعتقد أنه علينا أن نرى دائماً تناقضاً بين الطبيعة والمجتمع المديني، أو أن ننظر إلى الطبيعة والمدينة كنظامين متعارضين بشكل جذري كما يريدهما رأس المال الجشع أن يكونا.
فمقولة الطبيعة، تعني سيرورات بيولوجية وكيميائية وفيزيائية. وكل هذه السيرورات يمكن دراستها وفهمها وتوصيفها، لمزيد من إدراكنا للطبيعة وإحساسنا بها وتأثير أعمالنا فيها وفي تغييرها.
يجزم المختصون، أنه يُمكننا اليوم أن نتعلَّم الكثير من السيرورات الكيميائية، ومن الدراسات التي تقارن البنى الميكروسكوبية اي التوصيفات غير المرئية كالشبكات الذرية في المواد، مع مظاهرها المرئية. فالفرق بين البنية الميكروسكوبية لكل من حجر الغرانيت والحجر الصخري الكلسي، إنما تنتج الفرق المرئي بين جبل غرانيتي وجبل صخري كلسي. هناك إذاً علاقة بين المرئي وغيرالمرئي في طبيعة العوالم المحيطة بنا. هناك حقائق اخرى في البنية العميقة للطبيعة، غير تلك الحقائق التي نراها أو نلمسها. ولهذا الواقع الكامن في جوهر الطبيعة، تأثير كبير اقتصادي وايكولوجي في المجتمع. إنه تأثير قد يملي على بعض المعماريين الطريقة التي يتصورون بها عمارتهم.
ـ موقفك يثير فضولي، لا بل يحيرني أكاد أقول. هل ترجع في نظرتك إلى المدينة وإلى العمارة إلى العلوم الطبيعية أكثر مما ترجع إلى علوم المجتمع، وإلى النظريات الإجتماعية!؟
÷ في قراءاتي المتعدَّدة، كثر هم الذين يعتقدون أن السيرورة الإجتماعية والسيكولوجية هي شبيهة بالسيرورة الطبيعية. وهناك أعمال كثيرة في فنون اليوم، تحاول أن يشبه الفن (خاصة ما يسمَّى بفن التجهيز وهو عمل اصطناعي صاف)، ظواهر طبيعية. كأن يجمع أحدهم في ما نسمِّيه تجهيزاً ما، الحديد والنحاس، ويقول أنَّه يرمز بذلك إلى الذكورة والأنوثة في المجتمع.
III
ـ لا أعتقد أنك تستمد فكرك المعماري من الطبيعة، فأنت لست «نتورالست»(Naturaliste) بالمعنى الفلسفي للكلمة كما أنك لست «إسانسياليست» (Essentialiste) بالمعنى الفلسفي للكلمة ايضاً، ولست مثالياً (Idealiste) بالتأكيد. فهل تصوغ مفهومك للعمارة وللمدينة في مقاربة موازية لألدو روسي لها، كما وردت في كتابه الشهير «عمارة المدينة» ؟
÷ لا أستمد بنيتي الفكرية من بنية الطبيعة بالتأكيد، ولا أدعو إلى كتابة أشكال معمارية تُبنى على القراءة الميكروسكوبية لتكوين الوجود الطبيعي. كما أنني لا أدافع عن تصوُّرٍ معماريٍّ يقوم على الحنين الصافي، أو على هذا الطرز أو ذاك من الطرز الشكلية المبتذلة، التي يعممها في عالم اليوم بعض المعماريين النجوم والمعروفة «بعمارة الدزينارز».
على التصُّور المعماري كما أراه، أن يقوم دائماً على ركائز اجتماعية واضحة مرتبطة بشكل عضوي بحاجات المجتمع، المجتمع المحدَّد في الزمان والمكان. وعلى المعمار في هذه الحالة، أن ينظر إلى عمارته بارتباطها بالمدينة التي يبني فيها، بنسيجها الإجتماعي والمبني. وأميل في هذا التوجه إلى مواقف هنري لوفيفر الذي كان يرى، أن التخطيط والتنظيم المدينيين، هما الحقلان المثاليان اللذان يمارس من خلالهما كل من المخطِّط والمعمار، دوراً فاعلاً في صنع المستقبل. فاعتقد، على سبيل المثال، أن القسم الرئيس في حرم جامعة البلمند والذي صممته في العامين 1986 و 1987، أي منذ ربع قرن تقريباً، له الآن الأثر الأكبر في حياة الجامعة. وأن هذا الأثر سيستمر سنوات أخرى طويلة. بدليل أن الحيِّز العام الرئيس في حرم الجامعة، والذي سمَّيته عندما صممته، أي منذ ربع قرن «الفوروم الرئيس»، قد أعيد تدشينه بالآمس القريب باعتباره الحيِّز العام الرئيس في الجامعة باسم «فوروم عصام فارس». وأن معظم الإحتفالات الكبرى في الجامعة تحصل في الفوروم الثاني الذي يشكل قلب كلية الآداب والعلوم الإنسانية.
إن تمفصل المجالات التعليمية والإدارية في القسم الرئيس من الجامعة، والذي صممته حول أحياز عامة مضيافة ومنظِّمة هي «الفورومات»، والمسرح الرئيس، والجمينازيوم، والملعب الكبير ومدرَّجاته، سيجعل من هذا القسم، الحيِّز الذي سيحتضن الحياة المبدعة والمتألقة في الجامعة خلال العقود المقبلة، مهما بلغت درجة تطوُّرها وتوسعها.
وأميل إلى الاعتقاد أيضاً، بأنه إذا أُتيح إلى ثانوية سيدة البلمند، والتي صممتها في أوائل التسعينيات وأُنجِزت جزئياً، إذا أتيح لها أن يُكمَل بناؤها، فسيكون لمكوِّنات التصميم الرئيسة، الأثر ذاته في حياة ناس الثانوية، وفي علاقتها بالمجتمع الذي يحيط بها في المنطقة. وكل الدلائل في القسم الذي أُنجِز إلى الآن، تشير إلى ذلك. وأقول في السياق نفسه، أن أسباباً مالية حالت دون تنفيذ فرع الجامعة اللبنانية في زحلة ـ حوش الامراء، والذي صممته في أواخر القرن الماضي . فالمفهوم الذي قام عليه التصميم، والذي جعل من الأحياز العامة عصب المجتمع الجامعي اجتماعياً وثقافياً، سيمتدُّ تأثيره إلى البقاع بكامله، وسيُضيف الكثيرَ إلى حياة شرائح واسعة من البقاعيين، ويؤثِّر بعمق ٍ في نمط حياتهم.
في الأمثلة الثلاثة المذكورة، لا نهجٌ فكريٌّ أو فلسفيٌّ مستوحى من بنية الطبيعة. ولا وجود لأي تيبولوجية «إسَّانسيالية» فلسفية. ثمة شروط يفرضها البنيان اليوم، وهي بعيدة عن الأحلام الساذجة للتناغم الأمثل، وللكمال في صنع الأشكال. ثمة تجريبية في اللغة المستعملة في العمارة، تُنتج كما أزعم، لغة فيها الكثير من الجديد، حيث يكون الجديد ممكناً.
IV
ـ هل للعمارة أن تتبع المتغيرات؟ في المجالات الإقتصادية ـ الإجتماعية؟
هل للأشكال المعمارية استقلاليتها؟ بعلاقتها بشروط حسن الإداء الوظيفي للمبنى؟
÷ على العمارة أن تتبع بالتأكيد المتغيرات الإقتصادية ـ الإجتماعية. فهي لا تقوم بأي شيء غير ذلك. وربَّما نظر البعضُ إلى العمارة الكبيرة المعقدَّة، واعتبرها طبيعةً اصطناعيةً، كجسمٍ حيٍّ أكثر منها بنياناً.
يصبح هذا النوع من الاعتقاد مبرَّراً، أو ربما يصبح حقيقة، عندما تصنع الحياة التي تضج داخل هذه المباني، التعبير المعماري الذي يراه الناس من الخارج.
إن هذا المفهوم للرؤية من الخارج، هو التعبير عن التحول الدائم في المباني بحيث يصبح خارجها وما يجري في داخلها كلاٍّ عضوياً. فيغيب المعمار المصَّمم، كما يقول المعمار الإيطالي مسميليانو فوكساس، وينتقل دوره كمؤلف، إلى الناس الذين يشغلون المبنى، بصلتهم بالناس الذين يرون المبنى من الخارج.
أعود في هذا الصدد إلى القسم الرئيس في جامعة البلمند والذي صممته منذ ربع قرن كما ذكرت. فالتأليف الشريطي الذي يلتصق بالهضبة وينحدر معها متوجهاً نحو الدير والوادي، بمساميَّته، وبحصة السماء في كل من وحداته المكوِّنة، والذي أستلهم نسيج عمارة الدير الذي أعطى للسماء الحصة الأكبر، إن هذا التصميم الذي كتبته كمعمار، إنما هو بالدرجة الأولى من صنع الناس الذين يعيشون في داخله، بتدرُّجهم مع الهضبة، وبعلاقتهم من داخله، مع السماء ومع الدير في آن واحد. وهو من صنع الرائي أيضاً، المتجوِّل بموازاة الشريط المبني، وصولاً بعد انعطافةٍ إلى فسحة الدير السماوية الكبرى.
إن هذا القسم من الجامعة كما أرى، إنما يعبِّر عن نوع من جودةٍ معماريَّةٍ غير محدَّدة المؤلِّف، والتي تترك مجالات كافية لناس الجامعة، ليعبِّروا عن تطلعاتهم، وليرسلوا من داخلها رسائل إلى ناس الجوار وناس المنطقة .
ـ هل يعني هذا، أنك ترى أن البنية في اي مبنى، هي سجلٌّ للنسيج الإجتماعي الذي يستعمله؟ أي الذي بناه؟
÷ نجد معماريين يهتمُّون بالمساحات وبالشكل، ونجد معماريين آخرين يعيرون اهتماماً أكبر للمجالات المنظَّمة في الداخل خلف المساحات وخلف الأشكال، إلا أن العمارة تُبنى بالأساس تلبية لحاجات الناس، يعيشون فيها ويعملون، ويرتاحون.
العمارة هي نمطٌ من النحت الإجتماعي. إنها طريقة استعمال الناس لها، وحركتهم في داخلها. كيف يدخلونها، وكيف يغادرونها، وأين يضعون فيها مفروشاتهم وأدوات حياتهم اليومية.
هل في هذه الرؤية اختصارٌ للعمارة بالحاجات الإجتماعية التي تُمليها؟ أي العودةِ إلى زمن الوظائفية البدائية، حيث تُملأ المجالات والمساحات المفتوحة بالحاجات، كما تملأ الجوارير بالقمصان والجوارب؟ أم نؤكد مع «ألدوروسِّي» أن العمارة هي، دائماً وأبداً، العمارة وهي لا تعرَّف إلا بذاتها، ولا بديل عنها في أي من الإختصاصات والممارسات الإجتماعية أو البسيكولوجية.
يمكننا القول في نهاية هذه الفقرة من الحوار، أن إعادة الإعتبار إلى البحث في الشكل باعتباره المحصِّلة للمهارة والتقنية، التي تصنع من المادة عمارة أو كرسياً أو طاولة كما يؤكد الجادرجي، إن إعادة الإعتبار إلى الشكل إنطلاقاً من هذا التعريف، سوف تدل بوضوح على ما هو ملائم اليوم، وعلى الطريقة الفضلى لتلبية الحاجات الإجتماعية في العمارة. إن مراجعة هذه التأكيدات، سوف تدفعنا بالضرورة إلى دراسة المعالم في المدينة كما فعل ألدوروسي في كتابه «عمارة المدينة»، وأن لا نخشى التأثيرات غير المعمارية في التأليف.
V
ـ إذا تجاوزنا العمارة إلى النسيج المديني أو إلى السياق المديني حيث نعيش، اي إلى بيروت في نسيجها المبني، ووتائر تحوُّل هذا النسيج، ووتائر ازدياد الإزدحام فيه؟ كيف تنظر إلى تحوُّل مدينة بيروت في العقدين المنصرمين؟
÷ إن بيروت كنسيج مديني هي مجزأة، مقسَّمة، بشكل دراماتيكي.
فجادة الشهداء التي كانت «ساحة الشهداء»، هي خارج المقياس اليوم. فهي تبدو وكأنها تشطر المدينة إلى شطرين لا وصل بينهما. ثم إن الإصرار على تدمير مفهوم الساحة، وفتح الجادة فاغرةً على البحر، زاد الشعور بأن المدينة مشطورة في وسطها، ولا مجال إلى إعادة اللحمة إلى نسيجها.
والمجال الوسطي الفسيح الذي يشطرها، يبدو فارغاً منذ عقدين من الزمن، وهو في أحسن الأحوال ممر يصل أجزاء بيروت بعضها بالبعض الآخر. إنه مكان للعبور.
ووسط المدينة الذي يحيط بالجادة الساحة، أي «البلد» كما كان يعرَّف، معزول عن جواره بالأوتوسترادات المدينية والأنفاق، بحيث أصبح ضاحية لأغنياء لا نعرف هويتهم. تقوم في هذا الجزء من المدينة، الأبراج الشاهقة والمباني الفخمة، ولكن لن تقوم فيه مدينة.
ثم هناك الأوتوسترادات المدينية الأخرى (سليم سلام، حبيب أبو شهلا ومدخل بيروت الجنوب الغربي، مجرى أوتوستراد المطار الجديد، جسور جادة الاستقلال، الجسور المتكاثرة في التحويطة وفرن الشباك وسن الفيل والدورة والكرنتينا وغيرها،
لقد زادت هذه الأوتوسترادات من تجزئة المدينة وشرذمة نسيجها. والقطع بين أجزاء المدينة هو قطعٌ فجٌّ وقاسٍ، ولا يترك أمام النسيج المبني في المدينة أي احتمال واقعي للتجانس لاحقاً. ستزداد المدينة تشرذماً وتجزئة.
ثم هناك القطع المنهجي في تواصل عمارة المدينة، والتدمير المبرمج لتراثها ولكل المعالم فيها. لا شك أن التواصل في عمارة المدينة والتحولات اللينة فيها، والتي استمرت قرابة ثمانين سنة (1860 ـ 1943)، قد شهدت كلها قطعاً فجاً مع بداية عهد الاستقلال. ثم تبعه قطع فجٌّ آخر ابتداء من العام 1971 مع تعديل قانون البناء، واستفحل مع الحرب الأهلية، واستمر حتى أوائل الثمانينيات، وتضخَّم مع تعديل قانون البناء في العام 1983. ثم جاء مشروع سوليدير فزاد الطين بلَّة.
خلال ثلاثة عقود من العام 1971 حتى العام 2000، تغيَّرت المدينة بشكل كامل. فقدت كل ما كان يدل عليها، وتفكَّك نسيجها، ولم يعد يضبُطُ البنيانَ فيها أيُّ تجانسٍ أو تكامل.
ومع تعديل قانون البناء في العام 2005 لصالح تجار البناء وملاَّكي العقارات في بيروت خاصة، وكلُّهم ناخبون في دوائرها الثلاث، أصبحت الفوضى عارمة، وعمَّ التوتر النسيج المديني بكامله. فغاب الإنتظام الأفقي الهادئ، وشُيِّدت الأبراج في كل الزواريب، دون مراعاة النسيج القائم وقدرة الطرقات على استيعاب السيارات، ودون الإهتمام بموقع البرج ودوره في قراءة معنى المدينة.
لم يعد البرج معلماً، أو دلالةً، أو رمزاً. بل اصبح مجرد كتلةٍ مبنيَّة، لا دور لها سوى جني الحد الأقصى من الربح الريعي الصافي.
إن تنظيم السياق المديني العام، هو الهدف الرئيس لكل تخطيط أو تنظيم مدينيين. وهو الهدف لكل القوانين والأنظمة الصادرة عن هذا التخطيط أو عن هذا التنظيم. والسياق العام للنسيج المبني الذي يعيش فيه الناس بطرق مختلفة، هو أول ما يلاحظه واحدنا في أية مدينة يزورها. وربما استطعنا القول أنه الخاصية الأولى التي نكتشفها في المدينة.
ولكن هل لمفهوم «السياق» معنى واحد عند جميع المهتمين؟
إنه بنيةٌ تيبولوجيةٌ عند بعضهم، ومناخٌ اجتماعيٌّ عند آخرين، أو إنه تحدٍ للفوضى.
ربما استطعنا القول، أن السياق المديني في بيروت هو عكس ذلك تماماً، فهو مرآة لاستمرار الفوضى، والعشوائية، والتلوث البصري، وتسخير القوانين والأنظمة لخدمة النافذين وتابعيهم.
سيبقى لبيروت في هذه الحال سياقٌ مديني يميِّزها، تغلب عليه الفوضى والعشوائية والطابع السريالي الغريب في تجاور المباني. وسنتعرَّف عليها دائماً، عبر هذا المنحى المستفحل في ازدياد الفوضى واللاعقلانية.
VI
ـ هل ثمة علاقة بين هذه الفوضى المستشرية في السياق المديني في المدن وفي معظم البلدات والقرى عندنا، وبين الموقف العام الرسمي والشعبي من المباني التقليدية ومن التراث، ولنقل من الهوية؟
÷ يمكنني التأكيد أن الموقف العام الرسمي والشعبي، يوحي وكأن التقليد والتراث لم يعودا موجودين فوق ارضنا، أو أن لهما حضور باهت خافت. هذا الواقع لا يسود فقط في المدينة وفي العمارة، بل في اللغة ايــضاً، وفي كــل مجــالات الثــقافة. لم يعد المعماريون عندنا، يؤسسون أعمالــهم على موروثـهم الثقافي.
في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كان اقتباسهم من تيارات الحداثة، اقتباساً ناجحاً. ولا يزال هذا الاقتباس يمثِّل إلى اليوم وفي مطارح عدة، أفضل المشاهد المبنية اندماجاً وتناسقاً، في المدن وفي الأرياف القريبة من العاصمة.
ولكن من أين سيغرف معماريُّونا اليوم؟ بعد الانهيارات المتتابعة لمعظم التيارات المعمارية الغربية: الحداثة، ما بعد الحداثة، التفكيكية، المينيماليَّة ... الخ.
من أين سيغرف معماريونا اليوم بعد كل هذه الإنهيارات، وبعد رفضهم التأسيس على الموروث والتقليدي عندنا، أو أفضل من ذلك، بعد رفضهم التاسيس على جغرافية الأمكنة، وتاريخها، وخصائص مجتمعاتها.
البعض يعتقد، أنه في مثل هذه الأوضاع، وفي غياب التأسيس على الموروث الثقافي، فإن آفاقاً جديدة في العمارة تُفتح كل يوم، تمنحها إياها، المواد الجديدة والأدوات الجديدة، مثل الفيديو والحاسوب وغيرها.
أن يبتعد معماريونا عن التقليد، لا يعني أنهم لا يقدِّرون العمارة التقليدية في لبنان أو في الوطن العربي، تلك الآتية من بعيد، والتي تأسُر فسحةً داخليةً تحتضنُ حياةً حميمةً دافئة.
على معمارينا أن يعوا أن للزمنِ قيمة، والزمنُ هو جزء من المشروع المعماري. فالزمن يتغيَّر، وإن تغيَّر ببطء. وعليهم أن يقرأوا المتغَيِّر الزمني الذي تفرضه مجتمعاتنا والحياة فوق ارضنا، وليس المتغيِّر الزمني الذي يفرضه الزمن المستورد مع الزجاج، والحاسوب، والفيديو، والعمارة النمطية الجديدة، عمارة «الديزاينرز»، الخالية من أي معنى.

رهيف فياض

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...