جبلة ـ مهرجان مستدام

27-07-2008

جبلة ـ مهرجان مستدام

عندما نلتقي أهل جبلة (من جيل الخمسينيات والستينيات)مع بعضنا ونتحدث عن الماضي، يخيل للسامع أننا نتحدث عن بلدة صغيرة موجودة على كوكب آخر ـ فهي خليط متناسق بديع من القرية والمدينة ـ عامرة بأهلها من الناس الحالمين بالحب والموسيقا والمسرح وكل مظاهر الثقافة الراقية التي تظلل الأزمنة والأمكنة هكذا كنا نراها ونعيش ذكراها.

الآن وقد أصبحت الذكرى شأناً من الماضي فإن المهرجان الذي يقام في جبلة اليوم. يثير لواعج المحبة والحنين ويدعو لوقفة عاجلة على صورة جبلة الراسخة في المخيلة والتي قد تضفي عليها الذكريات هالة من قداسة لاتبقي إلا على مواطن الإعجاب والتقدير، خاصة وإن طيفها مازال سيد الحضور في الحديث مع الشهود الصادقين على تلك الأيام: ‏

تختصر السيدة(فوزية السبر ـ معلمة)كثرة الحكي عن الماضي وتقول: إنها الأسرار تكمن في حيوية الشباب ونشاطهم، هم القوة والمحرك دائماً.. والزمن غدار يسرق الأعمار . ‏

(نور علي ـ مهندسة زراعية) تؤكد: حقاً كنا جيلاً رومانسياً بامتياز والفضل يعود لهبوب الرياح البحرية والثقافة الغربية. ‏

(هند خضور ـ المعلمة)تقول: كنا جيل قرّاء بامتياز فتكمل ابتسام صقر«تعمل في باريس»: وجيل شعر وغناء ومسرح وموسيقا، ثم تعلق«نوال زهرة ـ معلمة»كانت حياة جميلة عشناها كما يجب أن تعاش، والآن نفكر فيها، وأن تعيش الحياة باستحقاق أفضل من التفكير فيها. ‏

منزل والد«فوزية»كان منتدى أدب وثقافة من غير اتفاق مسبق يطلعنا فيه والدها الأستاذ«محمد علي اسبر»على المعارف المتنوعة، ويصحح أخطاءنا النحوية أثناء تلاوة القصائد «المدرسية»ويوجهنا إلى شرح المعاني والإعراب، ويروي لنا النوادر والطرائف العربية التي تحفل بالمعاني والدلالات الأدبية«له كتب مطبوعة ودراسات في العادات والتقاليد وبعض أعلام العرب والإسلام كما أن لولده الأديب السفير«أمين اسبر»كتباً متعددة في حورات الحضارات والثقافات وديوان شعر عن جبلة». ‏

الهالة القدسية للمعلم عرفناها مع «سميحة الخير» أستاذة اللغة العربية التي كانت تعود بنا الهوينى على جناح الكلمات إلى مضارب الصحراء العربية مع قصيدة من العصر «الجاهلي»، وتوحي بالخيال العربي الذي أبدع في الفضاءات الرحبة واستنطق الحجر والرمل والنخيل والنوق والغزلان والحصان، فكان نزوعه الإنساني للسيادة: بالمحبة والعطاء والشراكة وميله إلى الحوار: مع الكواكب والنجوم، وبحثه الدائم لاكتشاف المكان ملأ الزمان بالفكر والشعر فكان منهم الفرسان والولهان والسلطان والأعوان. ‏

.. كما كانت تنتقل بنا ـ نقلة المعلم الماهر ـ إلى العصر الحديث لتجعلنا من أنصار شعر«نازك الملائكة وبدر شاكر السياب» فتبدو الحداثة ضرباً من المقاومة وكسر الرتابة من أجل مجتمع عربي متمسك بهويته ساعياً إلى إضافات ابداعية تواكب العصر معنى ومبنى. ‏

مع الأستاذ(قيس خضور)عرفنا ثقافة أخرى وعشنا اللغة الفرنسية التي انجبت ثورة الحرية ووسمت عصر الأنوار قدم لمحات لاتنسى عن فيكتور هوغو ومالارميه، لامارتين ـ مونتين ـ رابليه ـ موليير ـ بلزاك، وكان يقول: إن الكتاب الفرنسيين عرفوا بالمهارة والإنشاء وتأليف الروايات وذلك بفضل التقاليد والأساليب العريقة الموروثة منذ عصور طويلة. ‏

صوت معلمة التاريخ(فاطمة يونس)مازال مسموع الصدى وهي تردد: نقرأ التاريخ من أجل صناعة المستقبل، ومثله صوت معلمة الجغرافيا(قمر الدوخي)تعلن أن المكان ومافيه من ثروات يجب أن يكون في خدمة الشعب والوطن وأن الماء أم الثروات، فلاحياة ولاحب ولافرح إلا مع الماء وبالقرب منه. ‏

درس العلوم مع ـ اكتمال بصو ـ لم يكن يخلو يوماً من التجارب والتطبيقات ووجود الأواني المتسطرقة وتشريح بعض أنواع الطيور والأسماك واجراء التجارب المتنوعة لدروس الكيمياء«السليمة طبعاً» ‏

الآنسة الأجمل كانت(فاطمة بوز)معلمة الأشغال والتدبير المنزلي ـ بمثابة الأم الحنون تشاركنا التطبيقات والأشغال اليدوية وتشرف على إعداد الستائر، وأغطية المناضد التي نشغلها بأيدينا للقاعة الفسيحة التي تتسع لطاولة اللعب(البينغ بون)وأخرى لتقديم الأطعمة البسيطة المفيدة. ‏

جبلة كانت مهرجاناً دائماً للدخول في عالم الحرية من أجمل ابوابها: حيث فرق الكورال وماتشير إليه من عمل فني جماعي يقدم أعذب الأغاني والأناشيد والموشحات«في المناسبات الوطنية والقومية» وكانت فواصل الفقرات الفنية على مسرح سينما«جبلة»مقاطع من العزف على الكمان أو استراحة ترفيهية مع ضابط الإيقاع وعازف الطبلة«نبيل كردية» ففي كل عرس له قرص وفي كل فقرة فنية له دور. على مسرح سينما جلبة كانت تقام أجمل الاحتفالات التي يشرف عليها استاذ الموسيقا(فواز العلي)الذي قدم لنا المعرفة الموسيقية بدءاً من التخت الشرقي وحتى ابداعات الموسيقا الغربية(بيتهوفن ـ فاغنر ـ تشايكوفسكي»، وفي سينما جبلة شاهدنا أفضل الأفلام العربية والعالمية(أفلام فاتن حمامة وسعاد حسني وأحمد مظهر واستعراضات أمينة عاكف» وكذلك أفلام صراع تحت الشمس، ولحن الموسيقا، قصة مدينتين وهاملت وزوربا والعديد من أفلام الروائع العالمية. ‏

«سهام صقر» عازفة الأوكورديون، ومصممة الملابس ومدربة الدبكات لايمكن تناسيها وكيف كانت تسابق الزمن لانجاز الأعمال الموكلة إليها في التدريب وإحياء فلكلور الساحل السوري على ألحان الرحابنة وغناء فيروز ونصري شمس الدين ووديع الصافي، ومثل ذلك ألحان زكي ناصيف ـ والموشحات الأندلسية. ‏

تعلمنا رقصة الزوربا ـ اولاتكس وعدداً من الألحان الاسبانية. ‏

مع معلمة الرياضة«إلهام العطري»كنا نخوض المباريات الرياضية بكل دقة ونظام ـ كما يجب أن تكون. ‏

جبلة ـ هذه المدينة الرائعة التي انسكب البحر على قدميها يغسل أوجاعها ليجدد بهجتها وأفراحها مدينة منسية من قبل الحكومات المتعاقبة ولكنها حاضرة أبداً في قلوب عشاقها وأدبائها، ورياضييها وعقول علمائها.. كما أنها اللوحة الأجمل في الفنون التشكيلية، والقصيدة الأكثر غموضاً وقلقاً ابداعياً من قصائد أدونيس وأكثر رومانسية من شعر نديم محمد، وأشد شغباً من الصحافي(نبيل صالح)وأكثر حيوية من الرياضي(خالد زريق)وأجمل من لوحاته بقواربها العتيقة ترسو على الشاطئ البهي، تنادي الصيادين على لحن ابدي لخوض معترك البحار«هيلا ياواسع مركبك ياجبلة راجع بالصيد الوفير». ‏

جبلة هي المهرجان الدائم ـ مدينة العشق والهوى، ولولا الحياء والخوف من المساس بالمشاعر الدفينة لذكرت أسماء وقصص عشاق تفوقوا في الحب على قيس وليلى وعروة وعفراء وجميل بثينة وكثيرعزة، وحور «نبع الفوار» إن كانت هناك شجيرات باقيات تشهد جذوع أمهاتن بالأسماء التي كتبت على الحور العتيق والماء النمير. ‏

جبلة مدينة شهيد القدس «عز الدين القسام» ومسبح زيتون السباح العالمي كما هي مدينة القلعة الأثرية والمدرج الروماني مدينة الأطباء(عرنوس ومهنا وزكريا.. وغيرهم) مدينة البلدية التي عرفناها دوحة شجر وحديقة سمر، جارة جامع السلطان ابراهيم والأبجدية السورية. ‏

يحلو فنجان القهوة في صباحات جبلة ومساءاتها وهي المدينة التي عرفت مقاهي الأرصفة في حي العمارة والجبيبات قبل جميع المدن إنها مدينة الفران الماهر«الصعيدي»الذي أطعم جبلة أشهى الخبز، وأطيب الفطائر والحلويات في المناسبات والأعياد كما أنها مدينة المهندس «فاروق أسعد» الذي استخدم الدراجة العادية خلال دراسته في جامعة دمشق ولم يرضَ عنها بديلاً رغم سعة أحوال والده، وقد ساهم في بناء الأبنية الحديثة في جبلة واللاذقية وكان الحارس الأمين في عمله. ‏

جبلة مدينة الفتنة(زهرة)والياسمين والجوري والحبق والعبيتران والزنزلخت والتوت والبقية تنسحب على ذكر جميع النباتات والأعشاب والأزهار التي كتبت عنها الأديبة «أنيسة عبود». ‏

.... لاغرو ـ فأين تيممت شطر جبلة وضواحيها، ترى شاعراً ـ رساماً ـ أديباً ـ كاتباً ربما لأننا والأبجديةصنوان وقد تفتحت عيناي على صورة ابوين رائعين علماني(سحر الأبجدية)فكان أبي يردد القول(نبوءة الكلمة شيء كالخلق)وكانت أمي قد أوصتنا بطيب الكلمات فتردد القول الكريم(الكلمة الطيبة صدقة)وبكل تواضع أقدم بعض أبيات القصيدة التي قالها والدي(سليمان ميهوب)مرحباً بقدوم ثلاث بنات(لبنى ـ وعفراء ـ نوار)علماً بأنه وحيد لأمه وقد أكرمه الله بـ ثلاث ذكور فيما بعد«الحارث ـ دريد ـ تمام» قال: ‏

الحمد لله قد عزت بنا الدار ‏

جاءتنا لبنى وعفراء ونوار ‏

يامنحة من عطاء الله باهرة ‏

مسلسل الطيب إيناس وأبرار ‏

إشراقة الحظ في فيحاء مجلسنا ‏

عم السلام وفاض الخير بشار ‏

ياللطفولة ما أبهى مسارحها يعم باحتها ورد وأزهار ‏

هن الحبيبات في قلب وفي شغف هن الصفاء بما هموا ومادروا ‏

الهي يسر وهبهم كل مرحمة وخِصّهم في رياض خلدك الدار ‏

والأبيات من قصيدة مطولة مازالت إلى جانب العديد من شقيقاتها القصائد المتنوعة ـ مطوية في أوراقه ودفاتره تؤنسه العودة إليها والإضافة عليها كلما شعر بالحنين إلى الكتابة والخلق بالحروف.. ‏

ذلك فيض من غيض عن أهل جبلة وساكنيها والمعلمين والمبدعين فيها ـ أيام زمان وإذ تعيش جبلة مهرجانها السنوي المدينة المحمية من التراث العالمي بفضل جهود الراحل«أمين اسبر»... نؤكد على أهمية هذا المهرجان وجهود العاملين فيه والقائمين عليه لما فيه من تعزيز دورها الثقافي الحضاري وحضورها الريادي الدائم بالقدامى والندامى والكرام، ‏

وختاماً/لك ياجبلة حبي/ نلبيك وقد طاب المقام/ لك من عطر الزهور سياج/ ووشاح زانه الذكر بأنواع الكلام/ ‏

عفراء ميهوب

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...