مصدر العنف في الرأسمالية المعاصرة

07-11-2009

مصدر العنف في الرأسمالية المعاصرة

أدت الرأسمالية المعاصرة إلى تفتيت البشرية , إلى تشظيها , إلى أعداد لا تتوقف عن التكاثر من البشر في عزلة شبه كاملة عن بعضها البعض . المجتمعات السابقة على الرأسمالية قامت على سحق فردية الفرد لصالح مجموعة يعرف كينوتنه بالانتماء إليها, كانت فردية القائد ( القبلي أو العشائري أو الديني أو الإقطاعي ) تختزل فردانية كل أفراد مجموعته . لكي يتحول البشر إلى عمال مأجورين كان على البنى السابقة أن تحطم لصالح مؤسسة العمل المأجور بوعد من الطبقة الثالثة بنظام و مؤسسات تعطي الأولوية لفردية كل فرد , لكن الوعد بفردانية حقيقية كان كذبة أو وهما , فقد قامت الرأسمالية بتدمير فردانية الملايين لصالح فردانية أقلية محدودة جدا من البشر , استبدلت الرأسمالية المؤسسات البطريركية التي تمارس قمعا صريحا لفردية أعضائها بمؤسسات تمارس قمعا ضمنيا , خفيا , رغم أنها في فترات ما عندما كان هذا القمع غير كاف لجأت إلى الفاشية , أكثر أشكال كراهية الآخر و أكثر أشكال العزلة عن الآخر لا عقلانية و عنفا , لتحول البشر إلى مجرد آلات مملوكة للدولة , الوحش المتعطش للدماء . الستالينية هي أيضا مثلت مخرجا بطريركيا أبويا للنظام الرأسمالي , مخرجا خدم هذا النظام بالتأكيد على سحق فردانية المنتجين لصالح أقلية بيروقراطية تختزل في سلطتها تلك الفردانيات المسحوقة تحت وطأة مؤسسات النظام الأمنية و البيروقراطية . عمليا حافظت الرأسمالية على كل المؤسسات البطريركية الأبوية من العائلة الأبوية إلى المدرسة و الجامعة و الجيش و السجن و المستشفى ( وفقا لفوكو ) , و حتى عندما عدلتها , كانت تقصد تخفيف توتراتها الداخلية , خاصة بين الأفراد و بين القوانين الصارمة لهذه المؤسسات . مؤسسات العمل المأجور تحمل في داخلها تراتبية هرمية لديكتاتورية حقيقية , تمنع و تحاصر أي إمكانية للعمل ضد النظام , بشكل جدي , فالبديل الوحيد عن عزلة الفرد هو كسر تلك العزلة بالانضمام إلى مؤسسات النظام : الحزب السياسي , مؤسسات تشكيل الرأي العام الإعلامية الهائلة من الصحافة إلى السينما إلى الرياضة , و المعمل الرأسمالي الخاضع لبيروقراطية الإدارة حيث يستبدل الحراس في الأنظمة قبل الرأسمالية بمشرفي العمل و بيناتهم و خططهم لمراقبة العمال و معاقبتهم و "تحفيزهم" و "مكافأتهم" على الخضوع المطلق . لأن الشرط الأول لأي عمل منظم ضد النظام السائد هو كسر عزلة البشر عن بعضهم ليكونوا قادرين على التواصل كمقدمة ضرورية لأي فعل منظم , حتى الناس الذي يجلسون على رأس المؤسسة السياسية أو العسكرية ليسوا إلا خدما للنظام أو للمؤسسة , هذا بالتحديد ما يعطي الرأسمالية مظهرها الخارجي "الديمقراطي" أي غير الشخصي أو غير الفردي الذي يسميه منظرو نظام العمل المأجور بالمؤسساتي . أما البديل الوحيد المتاح للفرد عن الخضوع الكامل للنظام فهو العنف الذي ينطوي على تدمير الذات , العنف الذي يتفجر اليوم في كل مكان ما دام النظام قادر على أن يستبعد أي عمل منظم ضده . لا تلغي الرأسمالية أسباب العنف و الجريمة , إنها تتحدث عنها بصورة علنية أكثر مما فعلته و تفعله المجتمعات قبل الرأسمالية , فالمصدر الثاني للمظهر الخارجي "الديمقراطي" للرأسمالية هو فضائحيتها على العكس من إنكار المجتمعات قبل الرأسمالية لأي عرض لممارسة الأفراد لفرديتهم بما في ذلك الخروج على قيم المؤسسات الأبوية الأخلاقية الصارمة , هذا لأن الرأسمالية في الأساس لا تلغي الاستلاب الإنساني , بل إنها تصل به إلى مستويات غير مسبوقة , إلى أن تجعل من القيد مغروسا داخل روح الإنسان , بحيث يصبح أي عمل احتجاجي على النظام و قمع مؤسساته في الأساس معزولا و فرديا , و في حالات غير قليلة ينتهي بتدمير الفرد لذاته..

 

مازن كم الماز

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...