مذكرات سكرتيرة خفيفة الظل (3)

17-11-2008

مذكرات سكرتيرة خفيفة الظل (3)

خطيب بدلة: هذه هي الورقة الثالثة التي اخترتها من مذكرات صديقتي السكرتيرة خفيفة الظل، أعرضها على حضراتكم بعد أن أجريت عليها بعض التصويبات اللغوية، وخففت من وقع الصياغات الأسلوبية المضطربة التي وقعت فيها.
الثامن من آب..
حدثت اليوم مجموعة من الأشياء المضحكة. عفواً، أنا أراها مضحكة ولكن ربما لا يضحك لها غيري. فلقد حضر إلى مكتبي رجل كلما رأيته ينتابني الضحك، فوجهه يشبه قطعة العجين التي تكون في الأساس كتلة كروية، ثم ترقها سيدة المنزل بالشوبك لتصبح رقيقة وطويلة، وفوق هذا يبدو لي ممتعضاً، حتى ولو لم يكن ممتعضاً بالفعل، وحينما يجلس في مكتبي لينتظر "المعلم" ريثما يفرغ من أشغاله، يُمضي الوقت كله وهو يشبك أصابع يديه ببعضهما، ويدفعها إلى الأمام مثل الحارس في لعبة كرة القدم حينما تأتيه كرة مباغتة فيصدها بكلتا يديه، ثم يفرد أصابعه، ويطقطق سلامياتها على نحو عصبي ومتواتر، ويلف ساقه اليمنى على اليسرى، ثم يغير الوضعية فيلف اليسرى على اليمنى، وأنا بدوري ألاعبه بأن أنظر إلى أسفل حزامه فأوحي له بأن بنطاله مشقوق أو متسخ، فيضب ساقيه على بعضهما مثلما يفعل تلميذ المدرسة الصغير حينما ينزنق ويصبح بحاجة لأن يتبول قبيل الخروج إلى الفرصة ببضع دقائق!
قال لي: الظاهر أن المعلم "مشغول" كتير؟
قلت: طلبت لك قهوة، فما إن تنتهي من تناولها حتى يكون ضيف المعلم قد انصرف، ووقتها تدخل حضرتك على الرحب والسعة.
في انتظار القهوة أجرى صاحبنا سلسلة أخرى من الأفعال القسرية المتسلطة التي تنم عن اضطرابه ولجاجته. حاول أن يمسك بإصبعيه الإبهام والسبابة شعرة توهم أنها موجودة في مؤخرة قذاله، ونترها ثم قرب إصبعيه أمام عينيه ليرى إن كان تمكن منها أو لا، وعاود الكرة عدة مرات، ثم فرك الطرف الأيمن من وجهه كما لو أن شيئاً دبقاً علق به.
قال لي فجأة: أنت تعرفين أنني كاتب قصة قصيرة، وعندي ثلاث مجموعات قصصية مطبوعة.
قلت: لا والله، أنا لا أعرف. ثم إن "المعلم" لا يهتم بالأدب، كما تعلم.
قال وكأنه يكلم نفسه: أعرف. ولكن "المعلم" صديقي ويحبني أكثر من..
وتوقف عن الكلام فجأة.
قلت: ما بك؟
قال: لقد أجروا في الإذاعة مقابلة دامت أكثر من نصف ساعة مع (فلان الفلاني). هو كاتب قصة قصيرة، وأنا كاتب قصة قصيرة، فلماذا لا يجرون مقابلة معي؟!
قلت: تسألني أنا؟
قال: من يومين فقط أجروا معه مقابلة صحفية، ووضعوا صورته في صدر الصفحة الثقافية.. وكأن البلد ما فيها كاتب قصة قصيرة غيره!
في هذه الأثناء حضر عامل البوفيه ووضع أمامه القهوة. وما إن أخذ منها رشفة واحدة حتى خرج "المعلم" من الداخل مودعاً ضيفه. وقف الرجل، ولكن المعلم أجلسه وجلس بجواره. وقال له:
- سمعت صوتك من جوه، أراك منرفزاً. ما الحكاية؟
فشرح له، وهو ما يزال مضطرباً، مشكلته مع الإذاعة الصحافة اللتين تتجاهلانه وتلقيان الضوء على خصمه القاص (فلان الفلاني)!
وقتها ضحك المعلم ضحكة طويلة ما لبثت أن تحولت إلى قهقهة وقال له:
- يا أخي أنت ما بك؟ هل تعتقد أن الدنيا بيضة (برشت) وتريد أن تشرقها دفعة واحدة؟ صحيح أن (فلان الفلاني) قاص ناجح، ووسائط الإعلام تتابع سيرته، ولكنك أحسن منه بكثير. أنا أعرف أنك "تكتب" في مجال أحسن بكثير من مجال القصة القصيرة، وصديقنا المشترك (علان) يثق بك إلى أبعد الحدود، و"كتابتك" عنده لا تقع على الأرض.
وفجأة اكتست ملامح "المعلم "حالة من الجد وقال له بصيغة ملتبسة:
- اقول لك الصراحة؟ أنت إنسان كتبت عليه التضحية، مثلك مثل الجندي المجهول، والشمعة التي تضيء لكي يسير على نورها الآخرون. ولذلك أرى أن تضرب صفحاً عن المقابلات الإذاعية والتلفزيونية والصحفية. ما رأيك؟
لم يستطع أن يقول شيئاً. حرك يده وهو يقف، فإذا به يسفح فنجان القهوة فوق الطاولة!

المصدر: النور
 

مذكرات سكرتيرة خفيفة الظل (1)

مذكرات سكرتيرة خفيفة الظل (2)

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...