في بيت «الفن الآن»: خمسة فنانين يجسدون أفكارهم بصياغات بصرية من فنون التركيب

22-01-2012

في بيت «الفن الآن»: خمسة فنانين يجسدون أفكارهم بصياغات بصرية من فنون التركيب

منذ أن ظهر مصطلح «التجهيز» كتيار جديد خلال سبعينيات القرن الماضي، رافقه كذلك مفهوم البيئة، فهو يقوم على تجميع أو بناء بيئي يُقام في غاليري لمعرضٍ معين، وهذا ماأطلق على الأعمال الفنية ذات الأبعاد الثلاثة التي ظهرت قبل ذلك في أواخر خمسينيات القرن العشرين، حيث يدخل المتلقي إلى قلبها، وهي ذات طبيعة مؤقتة، كما يمكن للتجهيز أن يكون تجريدياً أو تصويرياً، متحكماً أو عفوياً- على مايرى النقاد التشكيليون- كما يمكن وجود أشياء أو عدمها، ويرى متابعو الفنون الجميلة أيضاً أن الأساس الذي يقوم عليه العمل التجهيزي هو العلاقة المتبادلة بين كل من المتلقي والعمل والمكان والمشاهد، والأهم هو استعانة فنان التجهيز بالمكان –المساحة- والسماح للمتلقي لكي يصبح جزءاً منها، فهو تكملة، أو أحد مكملات وعناصر العمل الفني..

تلك الملامح الفنية جهد لإظهارها خمسة فنانين تشكيليين في صالة «نيو آرت» إحدى البيوتات العتيقة في حي الأمين بدمشق القديمة، وهؤلاء الفنانون هم: محمود ديوب، عامر العكل، فادي الحموي، مها شاهين، وزاور زركلي، وذلك بالتعاون مع المشرفتين على مشروع الـ«نيو آرت» نسرين وعبير بخاري.
 
هنا في هذا المكان كان ثمة معارض تجهيز أو تركيب لامعرضاً واحداً، ذلك أن كل فنان اختص بحجرة واحدة في المكان واستثمر تلك المساحة الكاملة ليجسد فكرته الفنية، رغم أن لاشيء يمنع من قراءة كل «الحجرات» كمعرض واحد، تماماً كمن يقرأ ديوان شعر بكامله، أو يكتفي بقراءة قصيدة واحدة. ‏

بحاجة..! ‏
و.. لأن لكل مفردة أهميتها في معرض التجهيز مهما بدت جانبية، كان لابد من قراءة تلك «العتبات» النثرية التي ستوقف المتلقي عند مدخل كل حجرة، يبدأ محمود ديوب معرضه ببضع كلمات كانت كافية ليعطيك مفاتيحه يكتب: عندما كنت صغيراً ‏

كنت بحاجة ‏

البارحة كنت واقفاً اليوم مازلت أقف ‏

غداً اتمنى أن أبقى واقفاً ‏

لاأريد أن أهرم ‏

أخاف أن أعود بحاجة. ‏
تلك كانت الفكرة التي اشتغل عليها ديوب وجسدها في ذلك الحيز من فراغ الحجرة، وملخصها أن الإنسان ومنذ ولادته يحتاج الرعاية، وحتى عندما يودع هذه الدنيا يبقى بحاجة تلك الرعاية، غير أن الحاجة التي كانت تقدم له بحب في بداية حياته، قد تقدم له على مضض في النهاية، وهنا يكمن الخوف من ذل هذه الحاجة، هذه الفكرة ورغم كل التراجيديا التي تشي بها، غير أن ديوب أعطاها ذلك الحس الكوميدي، الأقرب إلى الكاريكاتير، عندما جسد تلك الفكرة، بملء الحجرة بما يحتاجه الصغار «النونية» لقضاء حاجاتهم، فقد ملأ أرض الغرفة بـ«النونيات» الحمر تعبيراً عن الشغف والعاطفة في تقديم الحاجة للأطفال، غير أن اللون سيتغير إلى الأبيض الذي هو لون الموت بتلك «النونية – الزحافة» البيضاء عند الشيخوخة، والتي تتدلى من السقف في وحدة مرعبة..! ‏

محاولات ذهبية ‏
عامر العكل من جهته، سيتجه لتجسيد فكرة مغايرة، يكتب عند مدخل الحجرة العتبة التالية: كل منا يملك مفتاحه، لكن علينا أن نحاول لنصل إلى مانريده.. لذا قبل أن تستسلم.. حاول..! ‏

هنا نحن أمام حجرة ملأى بالأقفال وثمة مفتاح واحد، لابد أن يغويك العمل التفاعلي هنا لأن تجرب، وهنا إما أن تجد القفل الذي يناسب ذلك المفتاح الوحيد من أول مرة، أو أن تعيد المحاولة مرات، لكن لاتستسلم لليأس، فالأكيد أن ثمة قفلاً قريباً مناسباً لهذا المفتاح، وماعليك إلا إعادة المحاولة، في النهاية لابد أن تصيب..! ‏

تلك الفكرة التي استمدها العكل من مقولة لأديسون مخترع المصباح «كثيراً ممن فشلوا لم يدركوا أنهم كانوا قريبين من النجاح..» كانت المفتاح إذاً ذلك ماتوفره لنا الحياة لنبدأ، وليس معنى أن أول خسارة أننا وصلنا إلى نهاية المطاف، فالنجاح متوفر للجميع، لكن البعض قد يصل إليه بالطرق السريعة نتيجة إلهام ما، وآخر قد يحتاج تكرار المحاولة، فقط الأمر يحتاج بعض الأناة و.. الصبر. ‏

الرابعة صباحاً ‏
إذا كان ديوب قد وشى عمله الفني بالحس الكاريكاتوري، والعكل بكثير من الجدية، فإن فادي الحموي، قد استثمر الإحساسين معاً ليقدم بصرياً عملاً فنياً يتجه صوب السوريالية بكثير من السحر والأحلام الخضراء، الحموي الذي يقدم عمله بهذه العتبة: الرابعة صباحاً.. هذا هو سريري الذي أنام عليه في مدينتي دمشق المتناقضة.. أرتمي عليه بكل مافيّ من تعب وألم وفرح و.. حزن، هنا أفكر.. هنا أبكي.. هنا أندم.. هنا أحلم.. هنا أموت يومياً، وهنا.. أصحو من جديد. ولا ينسى الحموي أن يضع هذه الملاحظة الساخرة : مسموح أن تجلس على العشب!. ‏

الحموي الذي يجمع في هذا الفراغ «الداخل والخارج» معاً، هنا ثمة حجرة سوداء، وثمة سرير، لكن بأرضية حديقة خضراء، مزروعة بعشب الغازون، هنا يعتمد أحلام اليقظة التي تأتي تارةً بأحلام خضراء، و.. حيناً بكوابيس أحلام النهار، على هذه الضفاف تعبر الأحلام بهذه السوريالية التي تنوس بين الأخضر والأسود، بين الوعي والحلم واللاوعي و.. العبث، هذا التناقض الذي يلف المدينة من جهاتها الست، يمكن تلخيصه أيضاً، أو تجميعه وتكثيفه في حجرة النوم، ضجيج، وسكينة، حب وكره، حلم وخيبة، أمل و.. يأس كل ذلك يجسده الحموي بسرير وجدران متشحة بالسواد، و.. مدى أخضر. ‏

ظلال وطن ‏
أما مها شاهين، فستذهب باتجاهٍ آخر، صوب جرحٍ لايزال ينزف من أكثر من ستين عاماً، جرح رغم الألم الذي يسببه طول الوقت، غير أن لعنة النفط والميديا العربيين، كانا كافيين لوضعه في أدراج النسيان، هذا الجرح الذي كان يوماً اسمه فلسطين، فقد (تحولنا إلى حناظل، و.. تحول الوطن إلى مناطق «أ ب و س») كما تكتب شاهين في عتبتها، حنظلة ذلك الكائن المكتوف الأيدي، والذي يدير لنا ظهره بمرارة، والذي أنجبه فنان الكاريكاتير ناجي العلي ذات يأس، هو ماجسدته شاهين في حيزها الضيق، كوفية فلسطينية صارت كحواجز، ولم يبق سوى بقايا وطن وظلاله، الوطن الذي كان ذات حين منطقة واحدة، أصبح اليوم «أ ب وس» مناطق متناحرة. هنا ستختلف اللغات وكل سيتثمر الرمز لمصلحته هو وليس لمصلحة الوطن. ‏

فلنضحي بهذا المعبود ‏
أما أسباب ماوصلنا إليه من ضياع البوصلة صوب حقوقنا، فقد وجدها وزاور زركلي بهذه الميديا الفاجرة، التي أصبحت كمعبود، وصرنا لانصدق غيره، إذاً، هو يدعونا لأن نرجمه بلا هوادة، وذلك من خلال مجموعة من أجهزة التلفاز سوداء ركنها في صدر الحجرة، وعند المدخل يضع أوعية ملأى بالحجارة، ويدفعك لأن ترجم هذا الاختراع الذي صار يوحي لنا بكل يقينياتنا، ولم نعد نستطيع أن نصدق غيره، يكتب زركلي: أصبح التلفزيون المصدر الأول الذي نستقي منه معلوماتنا ونركن إليه في معرفة العالم ومايجري فيه، على الرغم من أننا لانستطيع أن نجزم بمصداقيته، ولكننا لانتوقف عن ثقتنا بما يقوله. إن دمج الصدق بالكذب غالباً مايولد نفاقاً خسيساً قادراً على تدمير حياتنا ومن نحب، لذلك قررت أن أرجم هذا «المعبود» لعلنا نبدأ باكتشاف الحقيقة. ‏

صياغات بصرية ‏
في كل تلك الأعمال التي أخذت مسارات مختلفة في تجسيد الفكرة، باعتبار العمود الرئيسي في هكذا أعمال فنية تقوم على الفكرة، غير أنه كان ثمة اجتهاد لتقديم وجبات من الصياغات البصرية اللافتة وهنا سيكون العمل التركيبي قد ألغى الحاجز وليس كما اللوحة التي ستبقى في مواجهة معها، هنا أنت شريك في العمل التشكيلي، ومن هنا هذه التفاعلية المباشرة. ‏

علي الراعي

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...