سر القطيعة بين فرويد ويونغ

23-02-2009

سر القطيعة بين فرويد ويونغ

يحتل عالم النفس الألماني كارل غوستاف يونغ مكانة مرموقة في الفكر العالمي المعاصر، وبالتحديد في مجال التحليل النفسي.

إلى جانب سجموند فرويد وأدلر وكارل أبراهام يعد يونغ صاحب مدرسة تحليلية نفسية مستقلة بذاتها. ويعتبر مفهوم اللاوعي الجمعي الذي صاغه السبب المباشر لانتهاء علاقته العلمية، وصداقته مع فرويد على نحو درامي.

وفي هذه العرض سأحاول تقديم هذا المفهوم وشرحه على ضوء البحث الذي يتضمن برهان يونغ على وجود اللاوعي الجمعي في النفس البشرية.

وكما هو معروف في الأوساط الفكرية والأدبية معا، فإن اللاوعي الجمعي يوظف في العلاج النفسي، وفي دراسة الشعر، والفن التشكيلي، والرواية والمسرحيات.

ففي كتاب «النماذج الأصلية واللاوعي الجمعي» -لـ كارل غوستاف يونغ - منشورات روتلج – بريطانيا- المتكون من 451 ص محاور عدة منها:
1- النماذج الأصلية لللاوعي الجمعي،
2- النماذج الأصلية ومفهوم الأنيما،
3- الجوانب النفسية لنموذج الأم الأصلي،
4- بخصوص الولادة الثانية،
5- سيكولوجية النموذج الأصلي للطفل،
6- الوعي، واللاوعي وبناء الفردية وغيرها من المحاور.
بادئ ذي بدء أشرع في مقاربة التعريف الذي حدّده يونغ للاوعي الجمعي.

في المفهوم
يعترف يونغ بأن مفهوم اللاوعي الجمعي أسيء فهمه، ولذلك فإن التوضيح مطلوب بهذا الخصوص لإزالة اللبس. إن "اللاوعي الجمعي هو جزء من النفس الذي يمكن أن يميز على نحو سلبي عن اللاوعي الشخصي على أنه ليس مثل هذا الأخير، وأنه لا يدين في وجوده للتجربة الشخصية، وبالنتيجة فإنه ليس مكتسبا شخصي ثم يضيف مبرزا أنه "بينما اللاوعي الشخصي ممنوع أساسا من المضامين التي كانت في وقت ما واعية، ولكنها قد اختفت من الوعي عبر كونها منسية أو مكبوتة".

في حين أن "اللاوعي الجمعي لم يكن أبدا في الوعي، ولذلك فإنه لم يكن مكتسبا على نحو شخصي، ولكنه يدين في وجوده بشكل خاص للوراثة" ويعني هذا بالنسبة لـ"يونغ" أن "اللاوعي الفردي في جزء كبير منه يتكون من العقد" أما اللاوعي الجمعي فإن مضمونه "مصنوع جوهريا من النماذج الأصلية".

ونفهم من هذا أن اللاوعي الجمعي هو معطى قبلي وموجود في النفس، وليس مكتسبا، أي أنه يختلف في الجوهر عن اللاوعي الفردي الذي يتفق بشأنه يونغ مع فرويد وغيره من رواد التحليل النفسي، في أنه مكتسب".

وفقا ليونغ فإن هذه العلاقة بين النماذج الأصلية وبين اللاوعي الجمعي ليست مجرد علاقة انتساب واتصال وإنما هي تكوينية. بمعنى فإن النماذج الأصلية هي العناصر التي يبين منها اللاوعي الجمعي ويدونها فإنه لن يكون له وجود بالمرة.

مفهوم النماذج الأصلية
يجادل يونغ بأن "مفهوم النموذج الأصلي لا يستغنى عنه لأنه له صلة مع "فكرة اللاوعي الجمعي". وهنا يشرح يونغ قائلا بأن أطروحته هذه تشير إلى وجود أشكال ثابتة في النفس التي تبدو بأنها حاضرة دوما في كل مكان. وفي هذا السياق يعتمد يونغ على الأبحاث التي أجريت في حقلي الأسطورة، وفي علم النفس.

فهو يستعرض نتائج هذه الأبحاث على هذا النحو: "إن البحث الأسطوري يدعوهم "أي النماذج الأصلية" بالدوافع". أما "في علم نفس البدائيين فإنها تتماثل مع مفهوم ليفي بروهل للتمثيلات الجمعية". وفي "حقل الديانة المقارنة فإنها قد عرفت من طرق هوبرت وموس كأنماط "مقولات" الخيال". ويذكر يونغ بأن العالم أدولف باستيان قد أطلق على النماذج الأصلية الأفكار البدئية، أو الأصلية.

بناء على ذلك يخلص إلى القول بأن فكرته عن النموذج الأصلي ليست منعزلة، وإنما تستند إلى ما ذكر في الحقول المعرفية الأخرى. بمعنى أن هناك كشوف سابقة له تؤكد على وجود هذه النماذج وليست من اختراع خياله فقط. ويكرر يونغ مثبتا رأيه السابق بأنه يوجد هناك النظام النفسي الثاني، وهو ما يدعوه بذي "طبيعة جمعية وكونية وغير شخصي".

إلى جانب ذلك فإن هذا النظام النفسي الثاني "متطابق عند جميع الأفراد" و"لا يتطور فرديا" وأنه "وراثي". ومن جهة أخرى فإن يونغ يحاجج بأن اللاوعي الجمعي "يصبح واعيا بشكل ثانوي" ويمنح "شكلا ثابتا لمضامين نفسية معينة".

المعنى النفسي للاوعي الجمعي
في هذا الجزء من بحثه يلجأ يونغ إلى القول بأن "علم النفسي الطبي الذي نما بداخل الممارسة، يشدّد على الطبيعة الشخصية للنفس". ويقصد بذلك أفكار وأراء كل من فرويد وأدلر، لتمييزها عن رأيه وفكرته هو.

فيونغ يلفت الانتباه إلى أن علم النفس الفرويدي الذي يعتبر مضامين اللاوعي الفردي مكتسبة ولكن العوامل العلية التي يرتكز عليها "علم نفس الفرد مؤسسة على عوامل بيولوجية عامة معينة" ويضرب مثالا لتبيان صدقية فرضيته قائلا بأن هناك الغريزة الجنسية. ويضيف محاججا بأن "لا أحد من وجهات النظر هذه تنكر وجود غرائز قبلية مشتركة بين الانسان والحيوان على حد سواء" أو تفكر بأن هذه الغرائز ليس لها "تأثير مهم على علم النفس الشخصي".

وهكذا يصل يونغ إلى خلاصة مفادها أن "الغرائز هي غير شخصية، وموزعة كونيا، وعوامل وراثية ذات طابع ديناميكي ومحركة، والتي تفشل غالبا وبالكامل أن تصل إلى الوعي والتي يواجهها العلاج النفسي الحديث كمهمة لمساعدة المريض لكي يصبح واعيا بها".

إن يونغ يريد أن يقول هنا بأن الغرائز موجودة قبل تشكل الوعي، وبالتالي فإنها بالنتيجة – حسب تعبيره – تشكل تماثلات قريبة جدا من النماذج الأصلية. ويفضي هذا التصور لدى يونغ إلى افتراضه بأن "النماذج الأصلية هي صور غير واعية للغرائز نفسها، وبعبارة أخرى، فإنها أنماط من السلوك الغريزي" بعد هذه المقدمات يفصح كارل غوستاف يونغ بكل وضوح، وبعيدا عن الالتواء بأن "فرضية اللاوعي الجمعي" هي لذلك "تفترض بأن هناك الغرائز".

وهنا ينعطف يونغ انعطافة أخرى لكي يبرر نظريته بالقول بأن "خيالنا، وإدراكنا، وتفكيرنا هي على حد سواء متأثرة بعناصر فطرية وموجودة كونيا فينا". ويتساءل يونغ "هل هناك، أو ليس هناك أشكال كونية غير واعية من هذا النمط؟ إذا كانت موجودة، إذا هناك منطقة في النفس التي يمكن للفرد أن يدعوها باللاوعي الجماعي".
هنا يعترف يونغ بأن تشخيص اللاوعي الجمعي ليس بمهمة سهلة.

كما نرى فإن يونغ حتى الآن ومن خلال هذه التحليلات، لم يصل بعد إلى البرهنة العلمية من خلال التشخيص الاجرائي إلى صياغة وصفة دقيقة لتثبيت وإثبات فرضية وجود اللاوعي الجمعي.

إن الذي فعله حتى الآن هو مجرد بذل المحاولات للتمييز بين اللاوعي الشخصي، أو الفردي الذي ثبّت علميا وبرهن عليه في غرفة العلاج النفسي العيادي من خلال معالجة المرضى النفسانيين على يده هو، وعلى أيدي زملائه في المهنة أمثال فرويد، وكارل أبراهام، وأدلر على سبيل المثال لا الحصر.

طريقة البرهنة
لكي يخرج يونغ من حيز الفرضيات إلى حيز اليقين البرهاني على وجود النماذج الأصلية، واللاوعي الجمعي، فإننا نجده يطرح هذا السؤال: كيف يمكن البرهنة على وجود النماذج الأصلية تنتج أشكالا نفسية معينة، فإنه يجب علينا أن نناقش كيف؟، وأين يمكن للفرد أن يمسك بالمواد التي تبرهن على هذه الأشكال"؟، ففي تقديره فإن المصدر الأساسي الذي يمكن أن يجد فيه هذه الأشكال هو الأحلام.

إنه في هذا البحث يسير على طريق فرويد الذي وجد مصدر اللاوعي الفردي في الأحلام بعد تحليلها.

فالفرق هنا بين يونغ وفرويد هو أن الأول يفترض أن النماذج الأصلية التي يصنع منها اللاوعي الجمعي توجد أيضا في الأحلام. وبهذا الخصوص فإن يونغ يدعونا إلى التمييز بين الحلم الذي يحلله المحلل النفسي ويرويه المريض نفسيا ويكون مضمونه بعد التحليل كشفا للعقد النفسية التي تشكلت بواسطة النسيان أو الكبت، وبين الحلم الذي ليس لمضمونه أية علاقة بالنسيان أو الكبت.

وبعبارة أخرى إنه إذا كان الحلم هو من تشكيل النسيان أو الكبت فإن هذا الحلم هو التعبير الموازي عن اللاوعي الشخصي، أما إذا كان مضمون الحلم هو شيء آخر فإن هذا الشيء الآخر هو اللاوعي الجماعي الذي ليست له طبيعة شخصية.

ولكي يضيء يونغ مشهد المناقشة البرهانية فإنه يقدم لنا مثالا للفحص والدراسة، والتوضيح. فالمثال هو مريض نفسي عالجه يونغ في عز شبابه. لقد عاش يونغ تجربة مع هذا المريض وتتمثل في أن هذا الأخير قد طلب من يونغ أن ينظر من نافذة غرفة العلاج إلى السماء ففعل.

فقال له المريض: "إنني أرى ذكر الشمس، وأن الريح تأتي منه". بعد مدة إطلع يونغ على نص ديني يتحدث عن الشمس التي تبدو كأنبوب، وأن الريح تصدر منها". ولقد تأكد أن المريض لم يسمع بهذا النص، ولم يطلع عليه أبدا. فمن أين جاءت سردية المريض إذا.

على أية حال فإن يونغ يعلق على كل ذلك كالآتي: "إنني أذكر هذه الحالة ليس من أجل أن أبرهن بأن الرؤيا هي نموذج أصلي، ولكن لكي أظهر لكم فقط طريقتي" أي طريقة يونغ في البحث عن النماذج الأصلية عند المصابين بالبارانوايا الانفصامية. وكما نلاحظ فإن الفرق كبير بين الطريقة واجراءاتها وبين البرهنة بتلك الطريقة ذاتها على شيء ما محدد.

إن الشيء الذي أراد يونغ أن يفصح عنه هو أن رؤيا المريض ليست لها علاقة بالعقد النفسية الناشئة عن النسيان أو عن الكبت، وليست لها علاقة بالإطلاع لان النص الذي تحدث عن تلك الرؤيا التي رآها المريض لم يكن متداولا ومعروفا بالمطلق في بلده حينذاك.

وهكذا فإن تأويل يونغ للحادثة أو للحالة هو أنها انتقلت إلى المريض عن طريق الوراثة. وهنا يدعو يونغ إلى دراسة الأسطورة، والإثنولوجيا على ضوء الطريقة التي قدم لها وعنها وصفة من أجل الكشف عن النماذج الأصلية، منها نموذج الأم، ونموذج الأنيما، ونموذج الطفل وغيرها لأن هذه النماذج في تقديره هي العناصر التي منها يبنى اللاوعي الجمعي.

وهنا لابد من التوضيح بأن المقصود بمصطلح الكوني عند يونغ هو أن الغرائز موجودة عند جميع الناس في الكون بغض النظر عن العرق، والجنسية، والجغرافية، والثقافة والدين. كما أنه يعتبر النماذج الأصلية ظاهرة كونية أيضا.

أزراج عمر

المصدر: العرب أون لاين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...