الإزاحة في التجارب النسوية الجديدة

22-04-2011

الإزاحة في التجارب النسوية الجديدة

ليس هناك من نهجٍ موطَّأ للشعر، بل إنّ خاصية الشعر تكمن في أنه يأتي على خلاف الموطّأ والمذلّل، فيتعرَّف بالكثرة والتعدّد واختلاف المسعى، من حيث إنّ مفهومه يندُّ عن الانغلاق والاكتمال، ويعاد إنتاجه، بالتعديل والحذف والإضافة، مع التجارب المتعاقبة والأزمنة الاجتماعية المغايرة الآفاق.
من ذلك ما ينجلي في التجارب النسوية الناهضة، التي تنأى بنفسها عن دوائر الانشغال باللفظ الفحل والمعنى البكر، وفي إعراضها عن ثقافة الفحولة والبكارة، تنطلق من مناطق أخرى مظلَّلة، لتقدّم قولاً قريباً تبني شعريته من الأشياء المعطاة والكلمات المتداولة، بعد ترشيحها من منظور خاص يُعنى باستكشاف طرائق أخرى للضّم والتعالق وتحريض الأثر.
يمكن تعيين بعض تجارب الكتابة الشعرية، بالمستوى المشار إليه آنفاً، حقلاً نوعيّاً تتركز فيه علامات الخروج والمخالفة على مستوى الأشكال وطرائق التعبير، وتتراكم فيه مقولات المناهضة، المحمولة على ما سبق، على مستوى الموضوعات والمضامين. وذلك بالنظر للخصوصية التي تميّز هذه الكتابة في مجتمعات التقليد وثقافتها الراكدة. ومن هنا تبدو المساحة الكتابية التي يشغلها التعبير النسوي محلاًّ لتركّز الصراع الاجتماعي والثقافي والفني، كما تبدو المبادرات الصاعدة في الكتابة النسوية ذات حساسية عالية، تتكشف عن مسعى متنامٍ لإحراز التغيير ودفع عجلته على طريق مصادمة البنية القديمة في المجتمع والثقافة السائدة.
ومن واقع التغيير المتسارع الذي يشهده العالم اليوم، تكتسي هذه المسألة أهميّة خاصة، ولا سيّما في مجتمعاتنا التي لم تقطع بعد مع ماضيها القروسطي، ولم تتمكن من تصفية العلائق التاريخية مع ثقافة الاستبداد التي تكبّل المجتمع، وتخضع النساء، وتفوّت فرص النهوض والتقدّم.
لا شكّ بأنّ كتابة المرأة قد بدت متعثرة في شقّ مجراها قبل أكثر من قرن، إذْ كانت محكومة بعوامل صلبة وموروثة، ولا شكّ، أيضاً، في أنّ بعض صور هذه الكتابة كانت ـ ولا تزال ـ تتماهى مع الكتابة السائدة، لتستمدَّ منها القبول والتسويغ وإمكانية التدفق في قنوات المرور التي تعيّنها وتقوم عليها البنية الاجتماعية الثقافية المهيمنة.
على ضوء ذلك كلّه تتأتى الأهمية النوعية لصور الكتابة النسوية الجديدة في الشعر، باعتباره ديوان العرب المرسّخ لقيم الرجولة المتوارثة، وهو الذي يكتسب مكانة خاصة في الحياة العربية، لم تزل، تاريخياً، متحكمة، وذات علوّ نافذ يسمح بتشكيل القيم وإقرارها، من حيث إنّ الشعر هو الحامل النسقي لها. ولذلك فإنّ الاجتراح النسوي، داخل هذه الرقعة، يغدو علامة بارزة على المواجهة التي يشير إليها فعل الإزاحة المصدَّر في العنوان.
سنحاول في ما يلي أن نقدِّم نظرة أولى تتخذ شواهدها من ثلاث مجموعات شعرية جديدة، هي: مجموعة لينا الطيبي الموسومة بـ«مقسومة على صفر»، ومجموعة هنادي زرقة المعنونة بـ«زائد عن حاجتي»، ومجموعة سوزان إبراهيم: «كثيرة أنت». ما يجمع بين هذه الأصوات أولاً، هو احتفاؤها بالتجربة الفردية، تجربة الفرد المتفرّد في مواجهة العالم والانخراط في أتونه، وإطلاق العنان لحساسيته الخاصة، في إعراض تام عمّا هو جمعي ومعمَّم.
تبدأ لينا الطيبي هذا العصف بقولها:
أهزُّ الحياة مجدداً/أركلها بقدمي/وأمشي حافية/الشارع خالٍ إلا من زجاجٍ تكسَّر.(ص6).
وتحت عنوان: «بداية»، تطالعنا صورة أخرى لقولها السابق، فنقرأ:
أستقبلُ العالم/العالم الخطأ/بركلةٍ من قدمي/كما لو أنّه برتقالة قديمة/كما لو أنّه بركة راكدة/أستقبلهُ في الخطأ/حينما الصواب فادحٌ/لا يعرفُ منتهاه.(ص7).
في مواجهة تجريدات الواقع التي تحكم قبضتها على الفرد، يكون الاندفاع إلى هزِّ شجرة الحياة وركلها، لتتساقط منها ثمار العطن، ولإحداث رجّة عميقة في جذورها تحرّك ثوابتها، بدلاً من الاستنامة إلى صلابتها ورسوخها، التي هي في المؤدى الأخير استنامة إلى صلابة الواقع الخارجي المتشيّئ، وإلى رسوخ أسسه المعيارية المتشكّلة، في قابليتها للتجريد والتعميم. ومن هذا المنطلق يجري إعلاء الذات داخل التجربة لا خارجها، كما يجري تثمين جراحها، وتمجيد ألمها الذي هو ألم الخلق والإبداع وتحويل العالم، بمزيد من الانغماس في احتضان الخطيئة واقترافها، وفي تقديس الغواية ونشدانها، وباختصار في نقض مفهوم العالم الشائع وإعادة بنائه على وفق مقتضيات الذات في الفعل والحرية. وعلى ذلك يأتي قول هنادي زرقة:
لن أكون حمامةَ نوح/فليستمر الطوفان/ولْتَتُهْ السفينة/ما زالت الغواية طفلة.(ص44).
إن إعادة العالم إلى الذات لنقض صورته من جهة، ولتوسيع دلالته من جهة أخرى، هي فعالية ينهض بها تشكيل شعري يحتفظ بفسحة للخلق والمبادرة، وينفتح على خاصيات بعيدة، مجالها الفردي، و الحلمي، ونبض الأغوار. ولاشك في أنّ توسيع الدلالة هو، في ذاته، دلالة على تهشيم الحدود الخاصة بواقع الجمود والتقوقع، وعلى مصادمة الشكل الاجتماعي المضروب، وخلخلة سياقه اللغوي، واختراق سنن تنظيمه. تقول سوزان إبراهيم:
في قصائدي/تحت مقاعد الكلمات خزّانات سريّة./على الحدود المغلقة بإحكام/عبرتْ أحلامي بأمان.(64).
ما تنخرط فيه النصوص، على نحو ما سلفت الإشارة إليه، يعني قيامها على أُسٍّ مشترك، يتلخص في شقّ عصا الطاعة وإعلان الخروج على القانون الأبوي. وهذه المواجهة لقانون الأب تتبدّى هنا على مستويين، يتصل الأول منهما بهدم القيم والأعراف الجمعية المعزّزة به، أو المنبثقة منه، وإعادة تعريفها على خلاف السريان المستند إلى علامته الذكورية البارزة. أمّا على المستوى الأعمق- فيتبدّى نقضاً لقانون الأب من خلال إزاحة أنموذجه العام المسيطر، الذي تتجدّد دورته في نمطيات الشعر وتجاربه المغلقة.
على المستوى الأول، نلاحظ تركيز النصوص المتناولة على بدائل القيمة الموصولة بالتجارب الحادثة. وهنا يتوالى الإلحاح على ابتناء نسق قيمي ضدّي، يصدع منظومة الفكر الأبوية، ويشتبك بمنابعها، ليعيد توجيه السياق بالنقض أو التعديل والمخالفة، فيفتح فيه ثقوباً تتكفل بتسريب شحنة الاعتراض وطاقة السلب، من خلال تحريك عناصر السياق لإعادة توجيه المنظور على خلاف ما استقرّ عليه بفعل التراكم التاريخي الذي موّه الثقافي فيه، وأنزله منزلة الطبيعة الثابتة للأصل والجوهر.
ينكشف لنا شيءٌ مما سبق عند هنادي زرقة من خلال الاشتباك بالمقدّس الذي يفتح، بقوة الهدم والمحاكاة المقلوبة، على نقض جذور الفكر الأبوي وأصوله البانية، وعلى نَسْف مرتكزاته العميقة، وتقويض رسوخها، بإظهار مكامن الزيف الإيديولوجي العامل فيها والموجّه لها. تقول تحت عنوان: «اليوم السابع»:
ستة أيام/لم أنم/وفي اليوم السابع/لم أسترحْ/لا وجودَ لشيءٍ حسن/أهيّئُ سماءَ جسدي وأرضه.(ص26).
ويمكن أن نعطف على ذلك- لكي تزداد الصورة جلاءً- قولها في مكان آخر من المجموعة نفسها:
كلما اقتربتُ من شقٍّ في المدى/كان الشق يتسع/فالخطايا لا تخرج من الثقوب/الخطايا مرآة الأفق../وبدونها../يدير الآلهةُ ظهورهم إلينا.(ص43).
في تكبيل الجسد الأنثوي، وتضخيم مفهوم الخطيئة ومدّها على أفعاله، لجم لقوة الخلق والإبداع، وتعطيل لفاعلية التأنيث، كما هو ثابت ونهائي في الإيديولوجية الأبوية. ولذلك تبدو الخطيئة، في المنظور المقابل، صنواً للحرية، وركيزة للتجربة في الانفتاح والكشف وارتياد الآفاق. ومثل ذلك، أو قريب منه، ما يتردد عند سوزان إبراهيم، لثلْم آلة المنظور السائد، وتعرية تهافته، والسخرية من أساطيره المؤسسة، وإن كان ذلك لا يخلو من تقديم الفكري والثقافي، ومن القصد السافر والمباشرة القولية.
على نحو مختلف، نلاحظ أنّ الأثر النقضي، عند لينا الطيبي، يبطّن القول وينسرب في تضاعيف الكلام، وفي مفاصل علاقات البناء والنموّ النصّي، فلا يكون قرين الإقضاء المباشر، ولا ثمرة الدلالة المرشّحة من الاحتكاك بين حدّين واضحين في نظام العبارة. ومن هنا كان استجلاء هذا الأثر يستلزم التطواف على متواليات القول ومنحنيات السياق، لاكتناز إشاريات المبنى، ورفو بعضها إلى بعض في علاقة تندُّ عن الامتثال لحدود الجمل المفردة والتكوينات القريبة المحصورة الأبعاد.
مثال ذلك ما نقع عليه تحت عنوانات مختلفة من قصائد المجموعة المتناولة، منها: «الشروع في الخوف»، و«الخوف»، و«أوكسجين»، و«برنامج الوردة»..الخ. ممّا يعني أن نصوص لينا الطيبي غالباً ما تقوم على مواجهة ضمنية لتصورات الثقافة النسقية، تتبدّى على طول السلسلة التأليفية التي يكون شاهدها النصّ، فلا تقبل التجزيء والاقتطاع.
تدفع بنا هذه الملاحظة، على أية حال، إلى الكلام على المستوى الثاني، الذي تقوم فيه مواجهة النسق الأبوي على إزاحة أنموذجه، أي على اشتقاق طرائق أخرى في النسج والبناء تتفلّت من معياره، وتنتج نفسها على خلاف مواضعاته.
يترتب على ذلك أنّ المواجهة هنا تتجاوز المنطوقات، فتجري على مستوى الصياغات والأشكال، أو على مستوى القوالب، التي لا تخلو هي الأخرى من دلالة النقض بوصفها فعلاً من أفعال الإزاحة والاستبدال. وفي هذا المنحى تندرج النصوص التي تقدّمت الإشارة إليها من مجموعة لينا الطيبي، فهي ترجئ الدلالة بتركيزها على توسيع رقعة الدوال، وعلى تفتيق جوانب النسيج النصّي، وعلى فاعليات القطع والمعاودة في استكشاف طرائق مخصوصة للضّم والتأليف، تتجدّد معها مرونة الشكل بتجدّد حرية الإحداث والتغيير والاجتراح في خاصيات البناء. نسوق على ذلك، اقتطاعاً، للتمثيل قولها تحت عنوان «خوف»:
خوفكِ هو جنّتُكِ،/المرايا الكثيرة التي تطوفين بها/الحائط الذي يجنّب وجهكِ الاصطدام بالمارّة./خوفكِ هو رحمكِ/تتوضئين بمائهِ/وتتشاغلين عنه لأجل الخوف./ولأجل الخوف أيضاً/تستقبلين الضيوف على حافتكِ/تو مئين للنهار بابتسامتكِ/تقو لين للصباح أهلاً/وتغلقين الليل بصباح آخر.
إنّ انتهاك سلطة الأنموذج السائد بانتهاج أشكال مختلفة، ليس فعلاً عبثياً ينتهي عند غاية المخالفة أو مسعى التخريب، ذلك أن الأشكال تنحلُّ إلى قيم تتكشف عنها. فالعلاقة بين القوالب الشكلية والقيم هي علاقة ضرورية، بمعنى أنّ القوالب تستبطن قيمها الخاصة التي تدفع بها غيرها، أو تواجه بها قيماً أخرى تتضمّنها أو تتمخّض عنها أشكال مغايرة. ومن هنا كانت الأشكال تجري مجرى العلامة في دلالتها على القيم، من حيث هي أبنية رمزية لها.
وبالعودة إلى التحققات النصّية نجد عند هنادي زرقة بعض التشكيلات التي ترقى إلى مستوى تحقيق الإزاحة الفنية في تدافع الأشكال، كما نقرأ تحت بعض العناوين في مجموعتها، مثل «بيان»:
التفاحة التي أكلتها بالأمس/كانت قنديلاً/لم تكن خطيئة/حين وبكلّ أنوثتي/صرختُ:/أنا... هنا/اقرأني/فضيحةً/كنتُ أم فضيلة./ما زال الخيارُ حرّاً أمامك/أما أنا/فقد وهبتك مفتاح التجربة. (ص45).
نحن هنا أمام لغة متعددة المستويات، فهي مثقلة بحسّيتها من جهة، ومشحونة بكثافة معنوية وطاقات إيحائية تتعدد معها سبل القراءة من جهة أخرى. هذا في الوقت الذي تنفتح فيه على واقع الحوار الضمني، والتنازع الذي يتشبّع به النصّ، ويتغيّر فيه موقع الفاعل بين الماضي والحاضر. وقد تنطوي، إلى جانب ما سبق ومعه، على التماعات مفاجئة تكسرُ بانقداحها رتابة السرد، كما نلاحظ عند سوزان إبراهيم، التي تشي كتابتها، أحياناً، بقدر من التقطع والتشذّر والبعثرة والشوارد التي تشعرن السياق، تقول:
بكلّ ما لمست مني/أواجه الصراط المستقيم. (ص19).
. . ./أنا المتورطة بكَ/المتطرفة في النبض/أنا التي من ماءٍ قُـدَّ انتظاري. (ص51).
وأحسب أنّ ذلك كلَّه يتخذ عند لينا الطيبي تركيزاً خاصاً، تنهض به لغة ذات نقاوة وإشعاع، تنسج الألفة بالغرابة في نصوص تتعدد فيها أماكن القطع وسبل الابتداء، وتنشط في تمايزات الحركة في الاتجاهات المتعاكسة أو المتشابكة التي يحرّك بعضها بعضاً، ويتحرَّض واحدها بأثر من الآخر. وفي معترك الاشتباك والتبادل تكون الدلالة حصيلة نصّية وقرائية قابلة للتجدد وإعادة الاكتشاف.
وأخيراً، فإنّ مثل هذه النصوص، بما تحوزه من خصائص ذاتية، تفترض مخاطَبها الذي تخلقهُ أو تتوجّه إليه، كما أنّها تشير، من داخلها، إلى أنموذجها المعرفي ومجالها الاجتماعي والثقافي الذي تضمرُ صورته تحت نسيجها الفني الذي يحوم على بلاغة شعرية مدارها التشكـيل والتعدد لا الواحدية والإفراد.
أما ما تنطوي عليه من صور النقص والقصور في المقدرة على التصرف بخصائص اللسان، وضرورات البنيان، ومقتضيات المكان الفني الذي تحفر تجربتها فيه، فيحتاج منّا إلى بحث آخر يتناول هذا الموضوع من مدخل مختلف محكوم بمنطلقات محددة، ومشدود إلى غايات أخرى، وموّجه بأسئلة مغايرة.

وفيق سليطين

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...