«واقع» الفيلم الفائز بـ«الجائزة الكبرى» في مهرجان «كانّ» 2012 .. صناعة الكذب

08-06-2012

«واقع» الفيلم الفائز بـ«الجائزة الكبرى» في مهرجان «كانّ» 2012 .. صناعة الكذب

هذا الفيلم ذو وجهين: أهْجية سينمائية تستند بالكامل إلى الظرافة الإيطالية من جهة أولى، و«مانفيستو» من صاحب «غومورا» (جائزة لجنة التحكيم الخاصّة بـ«كانّ» 2008)، المخرج الشاب ماتيو غاروني، ضد خديعة التلفزيون، من جهة ثانية. وَقعُ هذه الأخيرة مباشر وعملي، ترمي سهامها نحو قلب مؤسّسة رئيس الوزراء السابق سيلفيو بيرلوسكوني، وقنواته المتناسلة بقوّة السياسي وفساد زمرته المتنفّذة. لا يعلن غاروني مواقفه بيسر، فيقينه أن حكاية تتحامل على واقع إعلامي فاسد في بلد مثل إيطاليا لا يتحقّق مرادها بالشتائم. ما هو عصيّ، يكمن في إقناع مُشاهده بأن أمجاد الشهرة التلفزيونية وأموالها مركّبة على جملة طويلة من الصفقات والاحتيالات والكذب والتهويلات، بالإضافة إلى الإغواءات وسقط الخُلق والمُسابَّة والرذالات، التي تتجلّى بقوّة في المشهد الافتتاحي الطويل للعربة الملوكية التي تنقل عريسين إلى حفل، يتبيّن لاحقاً أنه مُفبرك في كل شيء. إنها صناعة الكذبة، حيث يتحوّل أناس عاديون إلى واجهة تهريجية، لا مكان فيها لاعتبارات السنّ أو الكرامة. فهم جزءٌ من ديكور طبيعي، يُغوي بألوانه وصخبه بشراً بعيدين، يقتنعون أن بإمكانهم عيش لحظات مجد شبيه بما يرونه عبر الشاشة الصغيرة.
هذا التقديم السينمائي الإيطالي بامتياز، قاد لاحقاً إلى قلب الحارة الشعبية في نابولي القديمة، بعد أن استل غاروني بطله لوتشيانو (الممثل المسرحي أنيلو أرينا) من فقرة العُرس، رامياً إياه وسط حلم بدأت تتشكّل عناصر تحقيقه مع وجود الاستعراضي النافذ أينزو، الذي توسّل وساطته للاشتراك في برنامج «تلفزيون الواقع» الذائع الصيت «بيغ برذرز» (الأخ الأكبر). ما بدأ كلعبة، تحوّل لدى بائع السمك إلى معركة وجود. فهل القدر استجاب له أخيراً؟ المشكلة أن لوتشيانو، الذي يدير مع زوجته ماريا تجارة عائلية تبيع «روبوتات المطابخ»، غرق في يقين كاذب بأنه اختير كمنقذ جماعي ينتظر رنّة هاتف روما، كي يُصبح «يسوعاً تلفزيونياً».
حشد ماتيو غاروني (1968) عناصر فكاهيات السينما الإيطالية، خصوصاً بدايات «الموجة الواقعية» الشهيرة، ليُشاكس بخفّة ظلّ طبقية حارته المتوسطية، وفوْرَة سجايا سكّانها ومناكفاتهم وجيرتهم التي تتحوّل إلى ما يشبه عقداً عائلياً لا يُخترَق ولا يموت. إنها «كومونة» عصيّة على الاختلال، والجميع يعرفون ما في النفوس، وما في خزائن الملابس. لا يُحاكِم صاحب «الحبّ الأول» (2004) كينوناتهم، ولا يُلقي خطباً سياسية عن أحوالهم، بل يتهكّم على ظنونهم بأن الوعد تحقّق، في كل مرّة يصرخ فيها لوتشيانو، القريب الشبه بمواطنه الكوميدي الكبير الراحل توتو، بكلمة «برونتو «(«آلو» بالإيطالية). وقع البطل، إثر زيارة مدينة السينما «تشنشيتا» الشهيرة في العاصمة، حيث مكان المقابلات والثروة التي تغشي ضميره، ضحية لوثة أن القائمين على البرنامج وقعوا بسحر طلّته، فبدأت ريبته في أن غرباء منافسين يترصّدونه، في وقت نأت الحارة التلفزيونية عن مناله، ومثله نصيبه. عائلة لوتشيانو تفكّكت، وخذله الأقربون. عندها، قرّر الاحتكام إلى عناده الذي قاده إلى اختراق حارة «الأخ الأكبر» المحصّنة، فاكتشف شباناً وسيمين وحسنوات شبقات مسجونين في بيت مصطنع، يعيشون بين جدرانه علاقات كاذبة وفاسدة كممثلين مدفوعي الأجر، لاستلاب سُذّج من أمثاله.
كما بدأ غاروني فيلمه من السماء، عاد إليها بلقطة ارتجاعية مصوّبة على بطله وهو يضحك بهستيريا، متحوّلاً إلى نقطة ضوئية وسط سواد كوني، إشارةً إلى أن الواقع الحقيقي لا يتشكّل إلاّ من ظُلماتنا الداخلية، التي تدفع إلى البحث عن نور إيمان يحمينا من عثراتنا. لن تهوّن هذه الحكمة الملتبسة من فقر الفيلم للدراما القوية التي زخر بها «غومورا»، ما جعل «واقع» (155 د.) أشبه بـ«فودفيل» سينمائي مفخّم وأخلاقيّ النزعة.


زياد الخزاعي
المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...