عندما يتحوّل الدين إلى "غيتو"

02-05-2010

عندما يتحوّل الدين إلى "غيتو"

عندما يحلّ التطرّف الدينيّ يغيب الله. فالتطرّف يستولي على الله وعلى أعماله ويحصره في فرقة واحدة، ويحجبه عن باقي البشر. يصبح الله إله القبيلة، طوطمها الذي يحميها من أبناء القبائل الأخرى ويحصّنها في برجها العاجيّ. يصبح الله "ماركة مسجّلة" لفئة من دون أخرى. لا يحضر إلاّ في عباداتها ولا يلبّي دعوات سواها. هو مجرّد موظّف، متأهّب دائماً لتنفيذ رغباتها. وعوضًا عن المحبّة والرحمة يحلّ الكره والقسوة في الكلام على علاقة الله بالخليقة. هي "الفرقة الناجية" وحدها التي تدخل الجنّة، بينما يذهب مَن لا يعتنق مبادئها إلى النار الأبديّة. هل يمكن أن يُختزل الإله العظيم إلى إله صغير مكتفٍ بفرقة واحدة دينيّة أو مذهبيّة أو قوميّة؟
يسعنا تشبيه التطرّف بخبرة السقوط في التجربة اليهوديّة التي وقع فيها العديد من أبناء الديانات الأخرى. فإله "شعب الله المختار"، المحدود بالقوميّة الدينيّة اليهوديّة، يعود إلى الحياة عند مَن يعتقدون أن "لا خلاص خارج الكنيسة"، وعند بعض مَن يؤمن بـ"خير أمّة أُخرجت للناس". هذه التجربة لا تقتصر على التمييز ما بين أبناء ديانة وأخرى، بل تصل إلى التمييز في الديانة الواحدة ما بين أبناء طائفة وأخرى ومذهب وآخر. أمّا الطامّة الكبرى فحين يصل التمييز ما بين أبناء الطائفة الواحدة على أساس الإخلاص الكلّيّ لمعتقدات البعض فيها ونبذ كلّ مَن يخالفها.
يبدأ التطرّف الدينيّ لدى أصحابه من التماهي التامّ بين ما هو جوهريّ وما هو حادث. ففيما لا يجوز اعتبار الإيمان بعقيدة التوحيد في مستوى واحد مع ما هو موروث ثقافيّ أو اجتماعيّ، نرى مَن ينهج نهج التطرّف يضعهما في مستوى واحد، ويصل إلى تكفير كلّ مَن لا يوافقه الرأي، منصّبًا نفسه ديّانًا على الناس. والويل لمَن يلجأ إلى الحرّيّة التي تتيحها الديانات وفق أصولها كي يجتهد في أمر من الأمور الحادثة في التاريخ، فيصبح زنديقًا خارجًا عن الجماعة يستحقّ الإقصاء والحُرم والنبذ. إمّا أن يكون المرء نسخة طبق الأصل عن شريكه في الإيمان، أصولاً وفروعًا ونوافل، أو يُحكم عليه بالمروق والجحود والضلالة. التنوّع مع الوحدة ممنوع.
في الواقع يعبّر التطرّف عن أزمة الخطاب الدينيّ المعاصر. فهذا الخطاب المتأزّم، الذي يهاب المعرفة ويبتعد عنها متّخذًا الجهل سلاحًا ماضياً، يجد راحته في تعميم الغرائز على حساب الفكر الدينيّ السليم. والجهل هو الطريق الأسهل للسيطرة على قلوب العامّة وأفئدتهم، والمعرفة قد تشكّل خطرًا على مَن يريد الهيمنة على قومه. ليست المشكلة في العامّة التي تنقاد بقلب صافٍ إلى ما يقوله ويفعله القادة الدينيّون، بل المشكلة في الأفكار التي يروّجها هؤلاء القادة في خطابهم الدينيّ. وهذا الخطاب يتوسّل الاستعلاء على كلّ مَن يخالفه، وبخاصّة حين يكون الخوف من الآخر المختلف حافزًا إضافيًّا للتزمّت والانغلاق على الذات.
يلاحظ اللاهوتيّ الفرنسيّ أوليفييه كليمان في كتابه "أخاديد النّور" (2002) أنّ الأصوليّة، وفق تعبيره، هي شكل من أشكال الدهرنة. والمقصود بالدهرنة هنا التيّار الذي يجعل الله غائباً عن المجتمع، لأنّه ببساطة غير موجود بالنسبة إليه. والأصوليّات ساهمت في تغييب الله عن مجتمعاتها لحسابها وللترويج لأفكارها الظلاميّة الكارهة لكلّ مَن لا يقول قولها. ذلك أنّ الأصوليّة تختزل "الدينيّ" إلى "الإيديولوجيّ" الذي يطمح إلى أن يكون توتاليتاريّاً شموليّاً، كما كانت حال التوتاليتاريّات الغربيّة، كالفاشيّة وغيرها. هكذا تفقد الديانات أبعادها الروحيّة والأخلاقيّة لينتصر البعد الإقصائيّ لكلّ ما لا يوافق أفكارها ومعتقداتها، فتتحوّل هذه الديانات ذات الرسالات العالميّة، إذذاك، ويا للمفارقة، إلى فرق منعزلة، إلى "غيتوات" منغلقة على ذاتها.
لا يقتصر التطرّف على ديانة من دون أخرى، ولا على مذهب واحد أو طائفة واحدة. الله ليس أسير أحد، فلماذا يتوهّم أصحاب التطرّف أنّ الله لهم من دون سواهم؟ في كلّ حال هذا لا ينفي مسؤولية رجال الدين عن انتشار التطرّف، ومسؤوليتهم عن القضاء عليه.

 

الأب جورج مسّوح  

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...