المنعطف السياسي التركي: مفاضلات خيارات الصراع وخيارات التعاون

05-09-2010

المنعطف السياسي التركي: مفاضلات خيارات الصراع وخيارات التعاون

الجمل: شهدت الساحة السياسية التركية خلال اليومين الماضيين ثلاثة  تطورات فائقة الأهمية لجهة استقرار تركيا الداخلي ومستقبل علاقات تركيا مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وبلدان الاتحاد الأوروبي: ماذا تقول المعلومات، وما هي طبيعة الأحداث والوقائع الجارية، وما مدى تداعياتها على مستقبل تركيا الاستراتيجي؟
* توصيف المعلومات الجارية: الوقائع والأحداث
جاء الأدميرال مايك مولين رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأمريكي على عجل إلى العراق، وذلك لإلقاء نظرة ميدانية على وضع القوات الأمريكية بعد قرار الانسحاب، وبعد ذلك توجه الأدميرال مولين إلى العاصمة التركية أنقرا. وفي هذه الأثناء تحدثت التقارير عن قيام رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بزيارة إلى مدينة ديار بكر التركية ذات الأغلبية الكردية، وخاطب الجماهير مطالباً بدعم السكان لجهة التصويت في الاستفتاء لصالح التعديلات الدستورية، وما كان مثيراً للانتباه، قيام حزب العمال الكخارطة أنابيب النفط التركيةردستاني بتنفيذ عملية تفجير استهدفت خط أنابيب كركوك-سيهان، وإضافة لذلك فقد تمثلت التطورات الموازية في اشتباكات أذربيجان-أرمينيا التي وقعت خلال اليومين الماضيين، مع ظهور تسريبات تفيد لجهة تخطيط الحركات الانفصالية الكردية من أجل تفعيل الاتحاد الكونفيدرالي الذي يجمع بين حزب العمال الكردستاني الكردي وحزب الحياة الحرة الكردي الإيراني.
لأول وهلة تبدو هذه الأحداث والوقائع وكأنما هي مجرد أحداث متفرقة لا يجمع بينها سوى الإطار العام الخاص بالمسرح السياسي التركي الداخلي والإقليمي الخارجي. ولكن، عند وضع هذه الأحداث والوقائع تحت مجهر  التحليل السياسي تبدو لنا الصورة بشكل مختلف، فالكثير من "الكائنات المجهرية"  تتحرك بنشاط بين هذه الأحداث والوقائع، المختلفة ظاهرياً والمرتبطة داخلياً بفعل مهارة الأيادي الخفية التي تدير دواليب عجلاتها.
* تفكيك الأحداث والوقائع: ماذا تقول المؤشرات؟
عند القيام بتفكيك الأحداث والوقائع التركية الجارية، ومفارقة مكونات مضمونها مع سياق البنية السياسية التركية الداخلية والخارجية يمكن ملاحظة الآتي:
• ملف زيارة الأدميرال مولين: بمجرد وصول الأدميرال مولين إلى العراق وظهور التسريبات المتعلقة بجدول أعمال زيارته للعاصمة التركية أنقرا، فقد استقبلت السلطات التركية الأمر، وصدر تصريح رسمي تركي رفيع المستوى يقول بأن تركيا سوف توافق على أن يتم سحب المعدات العسكرية الأمريكية من العراق عبر الأراضي التركية، أما الأسلحة الأمريكية، فإن سحبها عبر الأراضي التركية يتطلب الرجوع إلى البرلمان التركي باعتباره المعني بإعطاء مثل هذه الموافقة، وذلك على أساس اعتبارات القرار الذي سبق وأن أصدره البرلمان التركي برفض تمرير الأسلحة الأمريكية عبر الأراضي التركية خلال عشية حرب غزو واحتلال العراق التي قامت القوات الأمريكية والبريطانية وغيرها بتنفيذها في مطلع العام 2003 عندما وصل الأدميرال مولين إلى العاصمة التركية أنقرا، قام هو أيضاً بإطلاق تصريح استباقي قال فيه بأن أمريكا لا تنوي مطالبة تركيا بالسماح لها بتمرير الأسلحة الأمريكية عبر الأراضي التركية، وفقط سوف تطلب من تركيا: السماح بتمرير المعدات، إضافة إلى السماح بالمشاركة في مشروع الدرع الصاروخي الذي سوف يضم بعض دول شرقي أوروبا مثل رومانيا وبلغاريا.
• ملف حزب العمال الكردستاني التركي: نفذ حزب العمال الكردستاني التركي بالتعاون مع حزب الحياة الحرة الكردستاني الإيراني عملية عسكرية استهدفت تفجير خط أنانيب نفط كركوك-سيهان، وذلك في بادرة تهدف إلى وضع تدفقات نفط شمال العراق عبر تركيا في دائرة المخاطر والتهديدات. وفي هذا الخصوص تقول التسريبات، بأن مورات كيريالين القائد الميداني الحالي لحزب العمال الكردستاني قد أعد العدة لجهة تفعيل شراكة عملياتية-عسكرية تجمع بين حزب العمال الكردستاني التركي وحزب الحياة الحرة الكردستاني الإيراني. وفي هذا الخصوص تقول المعلومات والتسري بات بأن هذه الشراكة قائمة بالفعل بين الطرفين، وذلك بسبب ارتباطهما من قبل فترة طويلة بالعمل ضمن ما أطلقا عليه تسمية الاتحاد الكونفدرالي الكردستاني. وتقول المعلومات بأن هذا الاتحاد هو عبارة عن إطار تنظيمي جامع يضم ليس حزب العمال الكردستاني وحزب الحياة الحرة الكردستاني الإيراني وحسب، وإنما العديد من الفصائل الكردستانية المسلحة الصغيرة الأخرى، إضافة إلى بعض القوى والحركات السياسية الكردستانية ذات التوجهات الانفصالية. وتقول المعلومات أيضاً بأن الطابع الكونفدرالي لهذا الاتحاد يتيح للقوى والفصائل المنضوية تحته بالتنسيق العملياتي السياسي والعسكري، وفي نفس الوقت يتيح لكل واحد من هذه القوى هامشاً كبيراً في الاعتبارات المتعلقة بحرية القرار والحركة.
• ملف التعديلات الدستورية: سوف يتوجه الأتراك يوم 12 أيلول (سبتمبر) 2010 إلى صناديق الاقتراع من أجل الموافقة أو الرفض على التعديلات الدستورية التي تكتلت أحزاب المعارضة ضدها في البرلمان، وقررت حكومة حزب العدالة والتنمية طرحها للاستفتاء الشعبي العام، وهي تعديلات تتعلق بالعديد من النقاط الحيوية بالنسبة لمستقبل السياسة التركية: وضع العسكريين تحت السيطرة المدنية، إبطال دور المحاكم الدستورية لجهة القيام بحل الأحزاب السياسية، إلغاء القيود المفروضة على الحريات الشخصية. وفي هذا الخصوص، فقد سعى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردغان إلى مخاطبة الأكراد من أجل دعم الموافقة على التعديلات في مواجهة حزب الشعب الجمهوري التركي، والحزب القومي التركي المعارضان للتعديلات. ولما كانت الأحزاب السياسية الكردية قد عانت كثيراً من قمع المؤسسة العسكرية التركية، وقمع المحكمة الدستورية التركية، فقد كان من المتوقع أن يكون أكراد تركيا أكثر من غيرهم سعياً لجهة تأييد ودعم هذه التعديلات. وبرغم ذلك، فقد برزت ردود أفعال لا يمكن وصفها بأنها مخيبة لآمال أردوغان، وإنما مثيرة للاهتمام والغرابة، وذلك لأن أكراد تركيا الذين سبق وحلت المحكمة الدستورية حزب المجتمع الديمقراطي الذي يمثلهم، وقامت المؤسسة العسكرية الأمنية بقمع قادته ورموزه فاجأوا أردوغان هذه المرة ، فقد شكّل الأكراد حزباً جديداً أطلقوا عليه اسم حزب «المجتمع والسلام»، وما كان لافتاً للنظر أن هذا الحزب قد طالب أكراد تركيا بمقاطعة الاستفتاء، دون أن يقدم مبررات أو تفسيرات محددة.
تعاملت حكومة حزب العدالة والتنمية التركية مع هذه المعطيات الثلاثة بشكل منسجم، وفي هذا الخصوص، فهي لم ترفض طلب الأدميرال مولين، ولكنها في نفس الوقت لم توافق عليه، أما بالنسبة للتطورات الجارية في الملف الكردي، فما كان لافتاً للنظر هذه المرة أن السلطات التركية لم تقم بأي رد فعل عسكري-أمني حاسم. وعلى ما يبدو، فإن رهان أنقرا في هذه المرحلة هو كسب نتيجة الاستفتاء الشعبي لصالح التعديلات.
* المنعطف السياسي التركي: مفاضلات خيارات الصراع وخيارات التعاون
تشير مجريات الوقائع والأحداث الثلاثة إلى أن محور واشنطن-تل أبيب قد سعى هذه المرة لاستخدام لعبة إسقاط القوة السلبية الناعمة لجهة جعل أنقرا تحسم أمرها النهائي: خيار التعاون، أم خيار الصراع
- خيار الصراع: أن تمضي أنقرا في توجهاتها الحالية، والتي لا تخدم مصالح محور واشنطن-تل أبيب، وفي هذه الحالة على أنقرا أن تواجه المزيد من المخاطر والتهديدات والتي سوف يكون أبرزها على سبيل المثال لا الحصر: تفعيل العمليات العسكرية بواسطة حزب العمال الكردستاني ضد تركيا وضد المصالح التركية، وعلى وجه الخصوص خط أنابيب كركوك-سيهان الذي تم استهدافه حالياً، وخط أنابيب نفط باكو-تبليسي-سيهان الذي سبق أن استهدفه حزب العمال الكردستاني العام الماضي، إضافةً إلى مخاطر سياسية تتضمن قيام القوى السياسية الكردية بالتخلي عن دعمها لحكومة حزب العدالة والتنمية، بما يجعل حزب العدالة مكشوفاً في الانتخابات البرلمانية العامة المقبلة في مواجهة خصميه التقليديين: حزب الشعب الجمهوري والحزب القومي التركي، مع ملاحظة أن تأييد الأقليات النيابية الكردية لحزب العدالة والتنمية داخل البرلمان خلال السنوات الماضية قد لعب دوراً حاسماً في ترجيح كفة حزب العدالة والتنمية داخل البرلمان التركي. وإضافةً لذلك، فإن تفعيل ملف العمليات العسكرية الدامية بواسطة حزب العمال الكردستاني سوف يتيح لصقور المؤسسة العسكرية التركية وأيضاً صقور المحكمة الدستورية التركية في تجميع أطرافهم لجهة القيام باستهداف حزب العدالة والتنمية في الجولات القادمة.
- خيار التعاون: أن تسعى أنقرا باتجاه التخلي عن توجهاتها الحالية، بأن تسعى لجهة التعاون الكامل مع مخططات محور واشنطن-تل أبيب، وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بـ: المشاركة في مخطط استهداف إيران، التخلي عن معارضة مخططات حكومة كردستان العراقية وعلى وجه الخصوص موضع ضم كركوك والموصل لإقليم كردستان، تأييد التوجهات الإسرائيلية في ملفات الصراع العربي-الإسرائيلي بما يتضمن التخلي عن دعم سوريا ودعم الفلسطينيين.
تشير التوقعات إلى أن حكومة حزب العدالة والتنمية سوف تسعى إلى المضي قدماً في توجهاتها الحالية، بما سوف ينطوي عليه احتمالات الدخول في المزيد من الخلافات مع أطراف محور واشنطن-تل أبيب. وفي هذا الخصوص، فإن النقطة الأكثر أهمية بالنسبة لحكومة حزب العدالة والتنمية التركي في الوقت الحالي هي: تمرير التعديلات الدستورية المطلوبة عبر الاستفتاء الشعبي العام، ثم بعد ذلك السعي من أجل القيام بعملية "كسر الظهر" للحركات الكردية الانفصالية المسلحة، حتى لو تطلب الأمر إرسال قوات الجيش التركي مرة أخرى إلى شمال العراق.
تقول التسريبات والمعلومات، بأن محور واشنطن-تل أبيب سوف يسعى إلى المضي قدماً في إدارة صراع السيطرة على تركيا من خلال الدفع باتجاه إشعال الصراع الأرميني-الأذربيجاني  بما يؤدي إلى إجهاد القدرات التركية، وذلك لأن تركيا، وبكل الحسابات، سوف تجد نفسها مضطرة لجهة الوقوف إلى جانب أذربيجان، بما سيؤدي في المقابل إلى إبعاد أرمينيا عن تركيا. وابتعاد أرمينا عن تركيا هذه المرة سوف يكون معناه إما خيار ابتعاد أرمينيا عن روسيا والتحالف مع محور واشنطن-تل أبيب، أو خيار وقوف أرمينيا إلى جانب روسيا، بما معناه تصعيد الخلافات الروسية-التركية، وهو أمر سيلحق الأضرار بعلاقات التعاون النفطي-التجاري الروسي-التركي. ولما كانت إيران أكثر اهتماماً بدعم أرمينيا في صراعاتها مع أذربيجان، فإن وقوف تركيا إلى جانب أذربيجان سوف يلقي بتداعياته السلبية على العلاقات التركية-الإيرانية، خاصة وأن أذربيجان، حليفة أمريكا وإسرائيل، سوف تظل تشدد ضغوطها على أنقرا لجهة المطالبة بالمزيد من المواقف الإيجابية الداعمة لأمريكا، وهو أمر سوف يصعب على أنقرا رفضه بالكامل، وذلك لسببين بسيطين: الأول هو أن إمدادات نفط وغاز أذربيجان وآسيا الوسطى تمر إلى تركيا عبر أذربيجان، والثاني هو أن التيار القومي الاجتماعي التركي لن يتردد في إشعال السخط الشعبي في حالة عدم استجابة أنقرا لمطالب أذربيجان والتي ينظر إليها القوميون الاجتماعيون الأتراك باعتبارها امتداداً طبيعياً للأمة التركية. وعموماً، سوف يأتي يوم 12 أيلول (سبتمبر) 2010، وسيهب الأتراك إلى صناديق الاقتراع حيث تشير استطلاعات الرأي حالياً إلى أن التأييد للتعديلات الدستورية هو بحدود 60%، وبرغم ذلك، فإن القول الفصل سوف يظهر عند إعلان النتيجة النهائية، وبعدها يمكن أن يتضح بمصداقية أكثر شكل السيناريو التركي القادم.

 

الجمل: قسم الدراسات والترجمة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...