باروخ سبينوزا 

15-08-2023

باروخ سبينوزا 

أولاً : تمهيد 


" محطات في حياة الفيلسوف" 

يختصر سبينوزا تاريخاً للأفكار الفلسفية بحاله. وهذا ما يؤكده "بيار فرانسوا مورو" حيث قال بأن كل الفلسفات من الممكن أن تجد تقاطعات ومصادر لها في فكر سبينوزا. يقول مجيباً عن سؤال لماذا نقرأ الاسبينوزية : "بسبب الماركسية، والتحليل النفسي، والابستمولوجيا، أو البنيوية. يبدو بإمكان كل من هذه الخطابات ومتغيراتها الأكثر حداثةً بشكل خاص أن تجد نقاط ارتكاز أو مصادر لها في الاسبينوزية". ¹ 

- باروخ سبينوزا هو مثال للفيلسوف المُكافِح الذي تُحِبه الفلسفة، ففي سبيل انعتاقه من ربقة السلطة، كافح وناضل ولم يتخلَّ يوماً عن مشروعه التنويري. وقد وصفه "هاشم صالح" بفيلسوف التنوير الأول. وقد تركز مشروعه التنويري هذا على تقويض أركان السلطتين اللتين تعتبران في كل زمان ومكان علّة غرق البشرية في وحل المشكلات، هما "الدين والسياسة". "كان سبينوزا يكتب و يُنظِّر، وكان يريد أن يجد حلاً لمجتمعه أو تشخيصاً لواقعه، مثله في ذلك مثل بقية المفكرين في التاريخ"² 

- من هنا تكمن أهمية دراسة سبينوزا، فقد كان علامة فارقة في  تاريخ الفلسفة، من حيث كونه أحدث صدعاً في البناء الذي شيَّده الساسة ورجال الدين، وابتداءً من سبينوزا يمكن التأريخ لظهور العلمانية كفكر، وابتداءً من سبينوزا يمكن التأريخ لنقد النصوص المقدسة. وفضية كفاحه ضد الكنيس اليهودي لهي دليل على صدقه في رسالته وتجسيداً لفكره الذي يحمله في رأسه. حيث واجه بشجاعة القرار الذي قضى عليه بإنزال اللعنة و الحرمان، و سلبه حقوقه كمواطن يهودي، ليس لشيء إلا لأن "الذين يتربصون بالفلسفة ورجالها يعلمون بأن إظهار الحقيقة و تبديد الجهالة سيؤدي إلى إزالة الغشاوة عن قلوب الناس و عقولهم، لأن الجهل هو وسيلتهم الوحيدة للاحتفاظ بسلطتهم و نفوذهم"³. 

- كانت حياة سبينوزا - على قصرها - خصبة بما أنتجه الفيلسوف من الكتب والرسائل التي دارت حول مسائل عدة. غير أنه لم ينشر في حياته سوى كتابين اثنين، أحدهما فقط كان يحمل اسمه هو "مبادئ فلسفة ديكارت" وملحقه "أفكار ميتافيزيقية" بينما صدر ثانيهما وهو "رسالة في اللاهوت والسياسة" دون اسم مؤلفه. وبعد وفاته نشر أصدقاؤه مجموعة من مؤلفاته تحت عنوان "المؤلفات المخلّفة" مع ذكر اسم المؤلف بحروفه الأولى فحسب. هذه المؤلفات على الترتيب : "علم الأخلاق" "الرسالة السياسية" "رسالة في إصلاح العقل" "المراسلات" "موجز في النحو العبري".

اتبع سبينوزا في كتابته نهجاً متميزاً لم يسبقه إليه أحد، وهو النهج الهندسي، لاسيما في كتابه "علم الأخلاق". ويعتبر الدكتور
"فؤاد زكريا" أن اتباع هذا النهج هو من باب تغليب الطريقة اللاشخصية في الكتابة، فهو يريد أن يكتب كما لو لم يكن لشخصيته الفردية أية أهمية بالنسبة للحقائق الموضوعية التي كان يعرضها ⁵. وتظهر تلك الطريقة اللاشخصية في عدم ذكر اسمه على أغلفة مؤلَّفاته، أو كتابة أول حرفين فقط من اسمه - كما ذكرنا سابقاً - وكأنه - أي سبينوزا - يريد من ذلك أن يقرأ الناس كتبه بحيادية تامة دون أن تتسرب إلى ذهن القارئ أية عوائق متعلقة بالحياة الشخصية للفيلسوف. 

- ظل سبينوزا مغموراً طوال أربع سنوات، واضطّر للانتقال إلى عدة أماكن ريفية للتفرغ للكتابة ، ولأن أمستردام لم تعد آمنة بالنسبة له. وخلال تلك الفترة كان يُرزَق من حرفة صناعة العدسات البصرية وصقلها.
استأجر غرفة هادئة في منزل بعيد عن أمستردام عند عائلة محترمة، وكثيراً ما كان يبقى في غرفته يومين أو ثلاثة أيام متواصلة لايرى فيها أحداً. 

-  ورِث مرض السّل عن والديه، ولما أحسَّ أن النهاية اقتربت، لم يخف إلا على كتابه " علم الأخلاق " فوضعه في درج وأقفل عليه، وأعطى المفتاح لصاحب المنزل، وطلب منه أن يُرسِل الكتاب إلى الناشر في أمستردام بعد موته. وفي يوم ٢٠ فبراير سنة ١٦٧٧م خرجت الأسرة التي كان يسكن معها إلى الكنيسة وبقي معه الطبيب "ماير" وحده، ولما عادت الأسرة؛ وجدت سبينوزا مُسجَّى بين يدي الطبيب وقد فارقته الحياة. انضم الفلاسفة والقضاة إلى الشعب، وساروا وراءه إلى مقره الأخير في لاهاي، واجتمع حول قبره رجال من كل مذهب ودين 

1 - بيار فرانسوا مورو، سبينوزا والاسبينوزية، ترجمة جورج كتوره، دار الكتاب الجديد، بيروت، ٢٠٠٣. 
2 - هاشم صالح، معارك التنويريين و الأصوليين في أوروبا، دار
الساقي، بيروت. 
3 - ول ديورانت، قصة الفلسفة، ترجمة فتح الله المشعشع، مكتبة المعارف : بيروت. 
4 - جلال الدين سعيد، سبينوزا والكتاب المقدس، مؤمنون بلا حدود : بيروت، ٢٠١٧. 
5 - فؤاد زكريا، اسبينوزا، مؤسسة هنداوي سي آي سي. 
6 - ول ديورانت، المرجع السابق.


 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...