مؤتمر مدريد لحوار الأديان ... الخطوة والتوقعات

30-07-2008

مؤتمر مدريد لحوار الأديان ... الخطوة والتوقعات

لا شك في أن تعزيز الحوار بين الأديان والثقافات والحضارات يعد من القضايا المهمة في عصرنا الراهن، لما لهذا الحوار من إيجابيات في سبيل تقوية ثقافة التسامح وتقريب وجهات النظر في المشتركات الإنسانية. لذلك جاء المؤتمر العالمي للأديان الذي دعا إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز آل سعود، واختتم أعماله منذ أيام في العاصمة الأسبانية مدريد والذي ركز على محاربة ظاهرة الإرهاب العالمية وتعزيز التسامح واحترام
الأديان والعديد من القضايا التي تسهم في إزالة العقبات أمام الحوار والتعايش بين الأديان والثقافات الإنسانية.
والواقع أن التقارب والانفتاح على الآخر ومحاورته بدلاً من الازدراء والاتهام والأحكام المسبقة والتي تزيد من الاحتقان والتوتر والصراع الذي ترفضه الأديان. وقد كان المؤتمر في هذه الأمور إيجابياً وحيوياً، لأن الآراء التي طرحت من العديد من المشاركين كانت متعددة المشارب والاتجاهات، وهو الأهم والأجدى للحوار، لأن الآراء والاختلاف حول الخروج من الأزمات والتوترات في عالمنا العربي والإسلامي متعددة. صحيح أن مسالة الغرب والإسلام قضية ملتهبة والغرب لا تزال أحكامه المسبق قائمة، لكن إذا رغبت بعض النخب الغربية في الحوار مع العرب والمسلمين أهلاً وسهلاً ولا ضير في ذلك.
إن كلمة الآخر عند العرب والمسلمين تتجه تلقائياً إلى الغرب بحكم العلاقة الملتبسة والصراعية عبر القرون بين الإسلام والغرب، أو الإسلام والمسيحية حتى إن العلاقة اتسمت بعدم الثقة بينهما إلى الآن. وإذا ما تتبعنا صورة هذه العلاقة الملتبسة والمتوترة، فإن الغرب كان البادئ دائماً إلى جعل هذه العلاقة يشوبها التوتر والتوجس بدلاً من التفاهم والتقارب والاحترام المتبادل عبر حوار جدي وصادق لإيجاد علاقة صحيحة وعادلة. والإشكالية إن الموروث السلبي عند الغرب،الذي غذته بعض دوائر الاستشراق وغيرها من الدوائر،جعلته يتخذ مواقف سلبية ومعادية وغير منصفة للعرب والمسلمين. وهذه الرؤية - كما
يقول هشام جعيط - اتسمت «برؤية سيكولوجية جامدة للإسلام و بنزعة مركزية للأنا والآخر تكاد تنسف فكر وحضارة، بل وعقلية الآخر المختلف. وهذه قللت كثيراً من وضعية الاستشراق وربما مكانته، إذ صور أنه ملأ الفراغ الذي وجده في فترة من الفترات وهي فترة ضعف العرب والمسلمين وتراجعهم العلمي والثقافي وكذلك فترة الاستعمار ونتائجه السلبية. وهذه الرؤية الجامدة أيضاً في بعض منطلقاتها ضخمت «الأنا» بصورة لا عقلانية، وتخالف ما يطرحونه
للآخر المختلف بأنه «لا عقلاني» ناهيك عن قدراته وملكاته العقلية والفكرية وإقصاء الآخر وتهميشه فكرياً وثقافياً، والعمل على تأسيس ذاكرة تاريخية ثقافية محورها «الأنا» الغربي وتميزه وتفوقه بصفات وخصائص يفتقدها الآخر عقلياً وحضارياً وعرقياً.
كما تم تغذية الكثير من المفاهيم المغلوطة التي هدفها تشكيل صورة سلبية عن العرب والمسلمين «ذات السمة النفسية - والاجتماعية التي جعلت من الإسلام «ديانة» - كما يقول د. فهمي جدعان - غارقة في شتى الصور النمطية المنحرفة: فهو عدواني، شهواني جنسي، متعصب، ذميم، عدو للحرية، أناني
يحتقر المرأة ويجردها من حقوقها الإنسانية، مستبد، خرافي، قدري، تراثي... وفي العقدين الأخيرين أتاحت الحركات الدينية والسياسية الراديكالية لأجهزة الإعلام الأوروبية والغربية ولقادة الفكر والسياسة وللجماعات «العامة» النشطة أن تجرد للإسلام صورة عدمية قوامها العدوان والوثوقية والتطرف وكراهية (الغير) ومعاداة القيم المدنية الكبرى الحديثة. وتم نقل هذه الصورة بأشكال متفاوتة من المطابقة أو التحريف أو التعديل فتولد لدى خاصة المسلمين وعامتهم يقين قوي أن الأمم الأوروبية أمم معادية مبغضة وأنه لا فائدة ترجى من طلب ودها أو من بذل الجهد في سبيل تعديل الصورة النمطية العدمية التي استقرت في مخيلتها الجمعية في أمر دين الإسلام».
لكن البعض ربما يجهل أن التشويه والإقصاء ومحاولة تدمير الأفكار بالتشويه والتحريف لا تغير من الواقع شيئاً (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض). ومقتضى العدل أن «تعطى الأفكار جميعاً فرص الحياة والسماع، ليتخلى الناس عن الأفكار الخطأ طوعاً لا كرهاً، ينبغي أن نزيل الخوف من الأفكار الخطأ، والخوف هو بسبب وهم الناس بأن الحق ضعيف والباطل قوي، وهو ظن سيئ بالحق وبالباطل أيضاً ؛ إذ ليس الباطل قوياً وليس الحق ضعيفاً، وإذا علم الناس الحق ووصل إليهم، فلن يبقى أكثر
الناس مع الباطل بل مع الحق.
وهذا الصد والرفض والتشويه يفترض ألا يجعلنا نتردد في الحوار مع المختلفين والكارهين أيضاً، باعتبار الحوار هو منطق الرسالات السماوية، لأنه يقهر الكلمة الخطأ والباطلة، ويدحضها بالمنطق والعقل والبرهان. ولذلك كان
الحوار أساس نجاحها، واستقطاب المؤمنين، فأصبحت خالدة بخلود أفكارها ومعطياتها الإيجابية التي ترسخت في «الأذهان والقلوب - والقرآن الكريم هو نموذج حي دائم لحوار مستمر مع الآخر تارة بأسلوب المحاججة، وأخرى
بالجدل الحكيم، ومرة عبر الإيحاء الرمزي للقصة المعبرة؛ فكان الحوار في القرآن رمز إقناع الآخرين من مختلف التوجهات، بقوة منطقه وسلامة أفكاره وحيوية قيمه.
ويمثل الحوار مع الآخر منطلقاً مهماً للرد على الكثير من المفاهيم والموروثات الخطأ التي التصقت بالعرب والمسلمين طوال قرون طويلة، وإيجاد قنوات للاتصال مع المؤسسات الثقافية والفكرية والدينية في الغرب للحوار في القضايا العالقة والملتبسة والخلافية، بحيث يتم الحوار على أسس منهجية وعلمية، فنبدأ بالمتفق عليه حتى يكسب الحوار عناصر النجاح مع الغرب، ويكون ذلك سبيلاً إلى الوصول إلى قاسم مشترك بين الفريقين، ولا نأتي إلى الشيء المختلف فيه، فلا يمكن أن نلتقي ونقول: نبحث ماذا يجمع بيننا؟ نحن نؤمن بالله، ولو إيماناً إجمالياً، نؤمن بالآخرة، والجزاء الأخروي، نؤمن بعبادة الله وبالقيم الأخلاقية، وبثبات هذه القيم، نؤمن بوحدة الإنسانية، وبأن الإنسان مخلوق مكرم.
لكن الإشكالية أن بعض الكتاب والباحثين العرب يعتقدون أن الحوار مع الآخر لا فائدة منه، لأن هذا الآخر وهو الغرب في الوقت الراهن، لا يقبل الحوار، وإذا قدر وان انفتح للحوار، فإن هذا الحوار يفتقد أهم شروطه وهو «الندية»، فالغرب هو الأقوى عسكرياً وتقنياً واقتصادياً، بما لا تقارن به أية دولة في عالمنا العربي، والإسلامي، ليس هذا فحسب، وإنما ينطلق في خطابه وسياسته إزاء العالم الإسلامي من منطلقات الفرض والهيمنة. وبموازين القوة الراهنة، فإن العلاقات بين الطرفين أشبه بعلاقة الفيل بالنملة. صحيح أن النملة تستطيع أن تزعج الفيل، لكنها لا تستطيع بحال أن تتحداه فضلاً عن أن تهزمه، مثل هذه العلاقة ليس لها أن تتيح المجال لإمكانية الحوار، لأن الأقوى والمنتصر هو الذي سيفرض إرادته في نهاية المطاف ومن ثم فإن مصطلح الحوار سيكون غطاءً مهذباً لموقف الإملاء.
لكننا نعتقد أيضاً بأن هذه النظرة للحوار غير دقيقة، لأن هناك التباساً عند البعض في مفهوم الحوار عنه في التفاوض، فالتفاوض فعلاً يحتاج إلى الندية والتوازن، لكن الحوار في أحيان كثيرة لا يحتاج إلى الندية أو التكافؤ، والأنبياء حاوروا أقوامهم من الحكام والمتكبرين والطغاة، وكانوا - عليهم السلام - الطرف الأضعف بمقاييس القوة والندية، ولكن الحوار والجدل والبرهان ثم الإقناع جعل لدعوتهم التأثير والأثر بعكس الجبابرة والطغاة، ولنا في دعوة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وهو الأسوة الحسنة - كيف حاور المشركة وهو الطرف الأضعف. وبالحوار زعزع قناعاتهم الاعتقادية المشركين وانتصرت دعوته بتأييد الله عز وجل في النهاية. ولذلك فالحوار يطلب لذاته، بغض النظر عن المعايير والاشتراطات - وإن كانت وجيهة ومقبولة - وهو كذلك مبدأ إسلامي أصيل، يجب أن نحرص عليه للحوار مع الآخر المختلف
حتى وإن كان معادياً وكارهاً لمعتقداتنا وأفكارنا...
ونعتقد أن الحوار مع الآخر يعتبر الطريق الأمثل لحل إشكالية تضاد الأفكار وتصادمها عند غياب الحوار، فعبر الحوار يستطيع البشر أن يوصلوا للآخرين - من بني جلدتهم - أفكارهم ومعتقداتهم، بالإقناع والتفاهم والاحترام
المتبادل الذي يجر عند التجرد والعدل إلى الاعتراف ببعضهم البعض، وهذه هي القاعدة الأساسية التي يجب أن تتفق عليها البشرية ونخبها. فمع انقطاع الحوار تبرز التقاطعات البشرية كحقيقة ترتهنها النفوس الضيقة، كوسيلة لإيجاد حالة الصدام، وإثبات تسلطها وطغيانها على الآخرين. فمعظم الحروب الدامية والصراعات البشرية ما هي إلا نتيجة لانقطاع قنوات الحوار، وحلول أسلحة الصدام التي تتكلم بلغة واحدة غايتها تحطيم الآخر مهما كان الثمن.
المؤتمر خطوة إيجابية للحوار لذاته، ولمناقشة المشتركات الإنسانية، وإزالة الكثير من التوجسات والمرارات القديمة التي يجب النظر إليها نظرة عقلانية بعيدة من التعصب والاتهام والازدراء الآخر والتهوين من عقيدته وثقافته، وهذه ستكون البداية للتفاهم والتقارب وإبعاد أصحاب الأجندات الداعية الى الصراع والصدام وكراهية الآخر ونبذه واحتقاره... ولله الأمر من قبل ومن بعد.

 

عبد الله علي العليان

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...