غسان الرفاعي: من يوميات «مثقف مهمش»..

27-07-2008

غسان الرفاعي: من يوميات «مثقف مهمش»..

ـ 1 ـ تصدر الدولة العظمى التي تنفرد بتصنيف الآدميين ـ حسب استراتيجي بارز ـ الى اخيار واشرار ، وتوزع عليهم إما اقراص الحلوى اذا كانوا «مدجنين»، او القنابل العنقودية اذا كانوا «مارقين»، مرشحيها الى البيت الأبيض، بذات الطريقة التي تصدّر فيها شطائر الهامبرغر او قناني الكوكاكولا.

لقد شهدت ساحات متباعدة من العالم، في الأسبوعين المنصرمين زيارة المرشح الديمقراطي «الملون» باراك اوباما، إذ قفز، ومعه جوقته الخاصة من المستشارين والمنظرين، من افغانستان الى العراق، ومن إسرائيل الى رام الله، ومن برلين الى باريس ولندن، وكانت قد شهدت ذات الساحات جولة لاتقل اثارة، قام بها مرشح الحزب الجمهوري السيناتور «ماكين» واللافت في الجولتين هو ان المرشحين قد استحصلا، مسبقاً، على بطاقة انتماء الى اللوبي الصهيوني ـ الأميركي، جعلتهما ضيفي شرف في متحف «الهولوكست». ‏

مثير جداً رؤية المرشح الأسود الذي أعلن ذات يوم أنه يتعاطف مع شعب فلسطين المضطهد المظلوم، وهو يعتمر بالقلنسوة العبرية في متحف «ياد فاشيم» المكرس للتذكير بضحايا الهولوكست، ويسجل في دفتر الزائرين: «من حظنا أن نزور مثل هذا المكان، لأنه يذكرنا بقدرة الانسان على فعل الشر، كما يذكرنا بقدرة الانسان على تجاوز المحنة وإعادة البناء». ‏

ولم ينس المرشح الأسود أن يضرب رأسه على حائط المبكى، وان يزور مدينة سدوروت التي تعرضت لصواريخ المقاومة الفلسطينية، وأن يقول أمام حشد من الاسرائيليين، والدموع تنفر من عينيه: «إذا قصف منزلي بالصواريخ، حيث تنام ابنتاي، سأفعل كل ما بوسعي لإيقاف القصف، وهذا ما ستفعله اسرائيل!» ولكن المرشح الأسود أغمض عينيه عن آلاف المنازل التي دمرها القتلة الاسرائيلون، وآلاف الاطفال الذين لقوا حتفهم تحت الانقاض، وبرصاص المعتدين الاسرائيليين، بل انه تعهد، اذا ما تم انتخابه رئيساً للولايات المتحدة بأن لا يمارس أي ضغوط على إسرائيل لارغامها على القبول بتنازلات، وان يضمن بأن تبقى القدس موحدة وعاصمة لاسرائيل. ‏

ـ 2 ـ ‏

دعا المثقفون والكتاب من العالم الثالث، في بداية هذا الشهر، الى الاستماع الى محاضرة يلقيها الروائي سلاخو سيزيك النجم المتلألئ الصاعد في الأدبيات، ويروي سيزيك قصة معروفة عن رجل كان يعتقد أنه حبة قمح، وكان يرتعد رعبا من احتمال أن تلتقطه دجاجة وأن تبلعه، لقد فشلت كل محاولات اقناعه أنه انسان سوي من المستحيل أن يكون حبة قمح، الى أن عرض على عالم نفس مشهور جداً، نجح في اقناعه بعد جهود مضنية، أنه ليس حبة قمح، ولكن الرجل عاد لرؤية العالم النفسي بعد يومين، وطرح عليه سؤالاً محرجاً: «وهل تعرف الدجاجة أنني لم أعد حبة قمح؟!» ولكن الرجل ككل المصابين بانشطار الشخصية، صريع أوهامه، ويتوقع وقوع الكارثة، في أي لحظة، وتوجه المحاضر الى جمهوره وقال لهم: «إنكم جميعاً، مصابون بعقدة حبة القمح، وتعتقدون أن الدجاجة الأميركية سوف تلتهم استقلالكم وحضارتكم، ولم تجد حتى الآن محاولات شفائكم...» على أي حال، هناك زعامات تصر على أن الشعب العربي «حبة قمح» وانه من المصلحة العامة أن تبتلعها الدجاجة الأميركية، اذ لا سبيل آخر للتمفصل مع العولمة واقتحام الحداثة، والويل الويل لمن يسعى الى الاعتصام في واحة للمقاومة، ورفض تحويله الى حبة قمح، ولكن هذا الاعتصام هو الطريق القويم للحفاظ على الهوية والكرامة. ‏

ـ 3 ـ ‏

حينما قرر الكاتب المكسيكي «غير موفا دافللي» ان يتوقف عن متابعة ما يجري في العالم، و ان يقلع عن الاستماع الى نشرات الأخبار ومشاهدة التلفزيون، وقراءة الصحف أصبح يشعر بالراحة، وتبين له ان فهمه قد زاد واتسع، كتب غاضباً: «مما يدعو الى الريبة ان منابر المعرفة والمعلومات هي منابر متسخة، ويملكها اناس لا نثق بهم، ولا بنزاهتهم، ولا بحيادهم، ولن أسمح لهم بعد الآن أن يتحكموا بما ينبغي أن أعرفه، وما ينبغي أن أجهله، واستشهد بألان تورينغ مخترع الكمبيوتر، الذي انتحر قبل ان يبلغ الأربعين من عمره، تاركاً وصيته التي يقول فيها: «ستصابون بالهستريا جميعاً، وستحفرون قبوركم بأيديكم، ولن تتحملوا هذه الأمطار من المعلومات الكاذبة التي ستتساقط على رؤوسكم» واستشهد بما كتبته «النيويورك تايمز» ـ أهم صحيفة عالمية كما يزعم ـ :«نعتذر من قرائنا، ونعلن أن معظم ما قلناه لهم عن حرب العراق، هو كاذب وملفق، ونعترف لهم اننا قد خدعناهم..» ‏

ـ 4 ـ ‏

«مارتن والسر» أهم كاتب ألماني معاصر، تحدث عن «تورم الشعور بالذنب» في العصر الحديث، بعد تصاعد «العدوانية الحيوانية الأميركية»، اذ لم يعد بالمستطاع التظاهر «بعدم الاكتراث» والزعم بأن ما يجري يخص الأميركيين وحدهم، ولا علاقة لنا به، إنه يتساءل: «وماذا عساه أن يقول ديستوفسكي لو علم بآخر أنباء العراق؟ كان سيرتجف رعباً ويكتب رواية أقسى من «الجريمة والعقاب» والمفارقة الكبرى، في نظر هذا الكاتب النزيه، ان الانسان «منخرط» في الاحداث الدامية وعلى الرغم منه، وانه لا يستطيع أن يتحمل بوش الذي يزعم انه قائد معسكر الحرية والتقدم، وهو يورط العالم في «الاتساخ الاخلاقي» دون أن يشعر بكراهيته»، وذكرنا بصورة الفيتنامية العارية، ورشاش الجندي الأميركي في صدغها، وكيف انه لم يعد من الممكن للانسان الطبيعي ان يبقى على الحياد بعد رؤية هذه الصورة، وكذلك الأمر بعد رؤية صور القتل والتعذيب في افغانستان والعراق وفلسطين، انها تولد عندنا الغثيان وتدفعنا الى طرح السؤال المفجع والمؤلم: «لماذا هذه الحروب؟ لماذا هذا الحقد على العرب؟، أكان من الممكن أن تمارس هذه الجرائم على الفرنسيين أو السويديين؟» ويكتب «مارتن والسر» في مرارة: «انتهى الأمر بماكنامارا ـ وكان وزيراً للدفاع في ذلك الوقت ـ الى أن يعترف بأن حرب الفيتنام كانت خطيئة كبرى، يقول هذا بعد مقتل مليوني فيتنامي، وتدمير ثلاثة أرباع البلاد، فهل سيعترف وزير الدفاع الأميركي الجديد بأن حرب العراق كانت خطيئة، ولكنه ينتظر أن يرتفع عدد الضحايا الى أربعة ملايين، والمهجرين الى 10 ملايين؟ ‏

ـ 5 ـ ‏

من جديد، بدأت انفلونزا الطيور تقتحم البلدان والمدن والأرياف، وتصاعد الخوف من الطاعون الأسود الجديد، أو هيروشيما القرن الحادي والعشرين، وفجأة تحولت الطيور «البريئة الطاهرة» والتي كانت على الدوام رمز الوداعة والمحبة والسلام، الى جوارح شريرة تهدد بالفتك، وامتصاص دماء الأطفال، لم نعد نسمع ـ في زمام الأخبار الفاجعة ـ إلا عن مؤتمرات حاشدة يعقدها العلماء والمؤرخون لتنظيم «المجازر الجماعية» التي تستأصل الطيور بالملايين، تحرق جثثها، وتدفنها في مقابر معقمة. ‏

غير أن مجتمع التخمة في الغرب، ومجتمع الإملاق في العالم الثالث مصابان بانفلونزا أخرى أشد هولاً هي «انفلونزا الجنون» وان اتخذت مظهرين مختلفين في المجتمعين: مجتمع التخمة يعاني من جنون التفوق، على مستوى قادته الذين حولوا العالم الى جحيم، وجنون الانشطار النفسي، على مستوى أفراده العاديين الذين يترددون على العيادات النفسية، ومستشفيات الأمراض العقلية، فلا عجب اذا خصص أكبر فيلسوف معاصر «فوكو» كتابه الأساسي عن الجنون، أما مجتمع الاملاق، فانه يعاني من جنون الاضطهاد والاذلال، على مستوى قادته الذين ينوسون بين الخضوع والمكابرة، ومن جنون القهر والتهميش على مستوى أفراده العاديين الذين يتأرجحون بين الانتحار والهدر. ‏

والكارثة انه حينما يصاب الانسان العادي بانفلونزا الجنون، فإن أذاه يقتصر على نفسه، وعلى دائرة ضيقة تحيط به، ولكن حينما يصاب القادة وصناع القرار السياسي والاقتصادي بهذه الانفلونزا، فان أذاهم يطول ملايين الناس، ويتجاوز هذا الأذى حدود بلادهم ليشمل العالم بأسره، واذا كان هؤلاء الأباطرة يتربعون على سدة الرئاسة في امبراطوريات عملاقة كالولايات المتحدة، تمتلك أسلحة الدمار الشامل، وتطمح الى التحكم بالمصير الانساني، فان الكرة الأرضية، تتحول الى جحيم. ‏

ـ 6 ـ ‏

‏ ما الذي دفع مجلة «ماغازين ليترير» الى حشد هذا العدد الكبير من الكتاب للتحدث عن «شذوذ طاغ يستبد بالانسدن المعاصر: الحقد!» صحيح أن التاريخ كان على الدوام مسرحاً لأحقاد دفينة قومية، طبقية، عنصرية، غير أن الحقد الجديد غائم بلا هوية، انه نزيف من الداخل انتحار عبثي. ‏

الحقد الجديد مجاهرة جديدة غير مألوفة، تسمعها في كل مكان، ترتسم على كل الوجوه، قد لا نفهمها، ولا نستسيغها، ولكنها مرمية كالقنبلة اليدوية، بين الناس، حيثما وجدوا، انها شر مختبئ خلف العيون، رغبة غامضة في الانتقام تنفر من كل القسمات، استعداد دائم لبطش، محشو في قبضات الأيدي، شعور مضغوط بالاهانة والغثاثة، واللا جدوى، طاقة سلبية مدمرة. ‏

الحقد الجديد حرب أهلية متجولة، تنتقل من مدينة الى مدينة، ومن شارع الى شارع، ومن غرفة الى غرفة، نار ثلجية تتغلغل في النسج والألياف، وتستقر في العظام، مزيج من الكبرياء والضعة، مبالغة في التكريم والتجريح، نوسان بين التقرب والنبذ، انتقال من الثقة الى الازدراء، كر وفر من الاحتفاظ البخيل الى الاتلاف السخي. ‏

الحقد الجديد هجوم على الآخرين أعمق من المحبة والانصياع والقبول والخضوع، خروج من العزلة المختارة والغيتو المراد والعزل المقصود، تحد متعال في المطلق، اعتراف بأنه اذا كان علينا أن نحمي أنفسنا من أنفسنا، وانه اذا كان هناك مخربون ومتلفون وناهبون في كل مكان فعلينا أن ننهب أنفسنا وان نتلف قوانا. ‏

د. غسان الرفاعي

المصدر: تشرين


إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...