سيرة وزير الخارجية الفرنسي الجديد برنارد كوشنر

01-06-2007

سيرة وزير الخارجية الفرنسي الجديد برنارد كوشنر

الجمل ـ د. ثائر دوري : منذ عقد و نيف أطل نوع جديد من الرأسمالية ، هو رأسمالية الكوارث .و هذا النوع يعني تحويل كارثة طبيعية ، أو مصنوعة : بالحروب ،أو بالعقوبات الاقتصادية، أو بفضل سياسات البنك الدولي ،  إلى وسيلة لجني الأموال يجتاحه الرأسماليون ،فيجعلون حكومته تقبل ما كان يمكن أن ترفضه في الظروف العادية ، من قبل الرأسماليين . فالكوارث سواء كانت زلازل ، أم أعاصير ، أم براكين ،أم حروباً تخلق وضعاً سياسياً و اجتماعياً هشاً في البلد المنكوب تجعل من السهل أن لكن ظروف الكارثة و الحاجة إلى إغاثات إنسانية ملحة تجعل الحكومات ترضخ و تجرد الشعوب من مقاومتها . تقول نعومي كلاين في مقال بعنوان رأسمالية الكوارث :
(( الدول المدمرة تجذب البنك الدولي لسبب آخر: إنهم يطيعون الأوامر بشكل جيد جدا.  بعد أي حدث مدمر، سوف تصنع الحكومات عادة كل ما يطلب منها حتى تحصل على دولارات المعونة – حتى إذا كان ذلك يعني الغرق في الاستدانة والموافقة على إصلاح سياسي كاسح.  وحيث أن السكان المحليين يكافحون حتى يحصلون على الملجأ والطعام، قد يبدو التنظيم السياسي ضد الخصخصة كرفاهية لا يمكن تخيلها.  حتى أن الأفضل من منظور البنك الدولي، كثير من البلاد التي نكبتها الحروب هي في حالات "سيادة محدودة": هم في نظر الآخرين يعتبرون غير مستقرين وليست لديهم المهارة للتعامل مع نقود المعونة التي تنصب عليهم، لذا فمن الغالب أن هذه النقود توضع في صندوق ضمان مالي يديره البنك الدولي.))
و قد وصفت كوندوليزا رايس كارثة تسونامي بأنها ، "فرصة مدهشة"!
الكوارث فرصة مدهشة لإعادة تشكيل المجتمعات بما يتوافق مع المصالح الرأسمالية . لذلك أنشأ البيت الأبيض عام 2004 مكتباً مكتبا لمنسقي إعادة الإعمار والاستقرار ، يرأسه السفير الأمريكي السابق في أوكرانيا كارلوس باسكيوال.  السلطة المخولة للمكتب هي وضع خطط مكتملة "لما بعد النزاع" لما يبلغ خمسة وعشرين بلدا لم تدخل، حتى الآن، في نزاع.  طبقا لتصريحات باسكيوال، سوف يكون المكتب قادرا على التنسيق بين ثلاث عمليات إعادة إعمار كاملة في ثلاث بلاد مختلفة "في نفس الوقت"، كل منها يستمر لمدد تتراوح بين "خمس إلى سبع سنوات".
أما الحدود بين أن يكون نشاط هذا المكتب هو مجرد توقع الكارثة ، أو بين المساهمة بصناعتها فغير موجودة ، لذلك يمكن تسميته مكتب توقع و صناعة الكوارث في هذه البلدان من أجل إعادة الإعمار . مع ملاحظة أن إعادة الإعمار هي الاسم الحداثي المهذب للاستعمار 
و الطاقم الإمبريالي الذي يقدم خدمات ما بعد الكارثة يتكون من : منظمات لا حكومية ، أي ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني ، و ما يسمى " برجال الأعمال " ، و مندوبي الشركات المتعددة الجنسيات ، و الساسة الفاسدون ،و القوة العسكرية الأمريكية . و قد وجدنا هذه العناصر جميعاً في العراق ، و في كارثة تسونامي ، فحيث يكون الأمر بحاجة إلى الوجه الناعم تتوجه منظمات المجتمع المدني ، مثل منظمة أطباء بلا حدود و الصليب الأحمر الدولي ،أو غيرها من منظمات حقوق الإنسان ، و ذلك لتخفيف سخط السكان و المساهمة بتمرير السياسات التي تقررها المراكز الإمبريالية لإدارة ما بعد الكارثة ، فعلى سبيل المثال نصبت مخيمات اللاجئين بعيداً عن الشواطيء  في كارثة تسونامي كي لا يعود المنكوبون لإعمار بيوتهم المدمرة على هذه الشواطيء التي تحتاجها الحيتان الكبيرة لإقامة منشآت سياحية لأغنياء العالم .
 قضى السيد كوشنر حياته المهنية كطبيب في تقديم خدمات ما بعد الكارثة ، عبر المساهمة بطهي المجتمعات كي يلتهمها عتاة رأسمالية الكوارث . لكن حياته السياسية لم تبدأ مع منظمة أطباء بلا حدود، المختصة بتقديم خدمات ما بعد الكوارث ، بل بدأت بعيداً كقائد  ثوري من قادة الثورة الطلابية التي اجتاحت فرنسا ثم العالم عام 1968 في ذروة ازدهار الرأسمالية احتجاجا على الاستلاب و الضياع الروحي الذي تسببه للإنسان الغربي ، أي أنه بدأ ثورياً متطرفاً على طريقة المحافظين الجدد الذين ينحدر أغلبهم من التيار التروتسكي . لكن بعد أن فشلت ثورة الطلاب إذ عجزت عن تغيير النظام القائم قرر بعض قادتها و منهم كوشنر أن يتغيروا هم، فالتحقوا بالنظام الذي ثاروا عليه ليعطوه بعض الوجه الإنساني أمام الشعوب على طريقة السم في العسل ، أو تغليف حبة الدواء الفاسدة المرة بطبقة من السكر كي يسهل ابتلاعها . فأسس عام 1971 منظمة "أطباء بلا حدود " ، قبل أن ينسحب منها ليؤسس عام 1980 منظمة «أطباء من العالم»، التي ترأسها حتى1988 ،و قد وصف الوزير السابق شوفنمان عمل السيد كوشنر الإنساني بأنه يسبق عمل الجيوش ، و غالباً يغني عنها . و نسي السيد شوفنمان أن يضيف أن للسيد كوشنر عملاً بعد عمل الجيوش أيضاً،لأن هذه المنظمات حاضرة قبل و بعد الجيوش و قد تغني عن الجيوش .
و من حسن حظ السيد كوشنر أن رأسمالية الكوارث زاد حجم عملها فصار شخصاً مطلوباً في كل الأماكن ، فاستلم وزارة الصحة الفرنسية عدة مرات ، لكن ذلك لم يرض طموحه فهو يعتقد محقاً أن مكانه هو وزارة الخارجية لا سيما بعد أن أدى مهمته كحاكم لكوسوفو بين عامي 1999-2001 ،و بعد أن أيد العدوان الأمريكي على العراق ، و دافع بشدة عن "مبدأ التدخل الإنساني " ، أي إرسال الجيوش لحماية ما يسمى بحقوق الإنسان ( مع ملاحظة أن حقوق الإنسان هي الطبعة الأخيرة من الخطاب الاستعماري الغربي الذي بدأ بتحضير العالم و إخراجه من الهمجية إلى الحضارة ) . يقول كوشنر :
"والتهمة بإمبريالية حقوق الإنسان ضد القواعد الثقافية/الحضارية المحلية لا تصلح حجة ضد حق التدخل . ففي كل مكان , حقوق الإنسان هي حقوق الإنسان . والحرية هي الحرية . والمعاناة هي المعاناة . والقمع هو القمع . فإذا اعترضت امرأة مسلمة في السودان على ختان الإناث أو اعترضت امرأة صينية على تربيط قدمها فإن الحقوق تُنتهك هنا . وتحتاج هذه المرأة وتلك إلى الحماية . والتعلل بأن مثل هذا القمع هو جزء من هوية ثقافية/حضارية مقدسة منيعة ليس إلا هراءً وكلاماً  فارغاً ! .." .
(لوس أنجلس تايمز , 18/10/1999)
 و في عام 2005 عندما كان العالم مشغولاً بالكارثة التي صنعها بوش في العراق كان السيد برنارد كوشنر مشغولاً بتأليف كتاب عن ما يسمى بجرائم صدام حسين . في وقت لم يعد يجرؤ أحد من عتاة المحافظين الجدد عن التفوه بمثل هذا الكلام .
لقد امتلك كل المواصفات التي تؤهله ليكون بطلاً من أبطال رأسمالية الكوارث التي تحكم العالم .
 من قائد  طلابي ثوري متمرد على كل الإيديولوجيات السائدة ، إلى الحزب الشيوعي الفرنسي ، إلى الحزب الإشتراكي ، و من رئيس "أطباء بلا حدود" ، إلى وزير للصحة ، إلى حاكم لإقليم كوسوفو ، إلى وزير خارجية في حكومة ساركوزي ، و هو جدير بها و هي جديرة به فحكومة محافظين جدد تستحق أن تضم في صفوفها رجلاً أفنى عمره في تقديم خدمات ما بعد الكوارث الرأسمالية ، أي في حفر قبور الضحايا . و أحياناً في خدمات ما قبل الكارثة على حد تعبير شوفينمان . هذه هي سيرة وزير الخارجية الفرنسي الجديد
تمتاز العلاقات الدولية في هذه المرحلة التاريخية بشفافيتها الهائلة فلم يعد أحد يستطيع القول أنه كان مخدوعاً ، أو لا يعرف فكل الأمور تجري علناً . إن العلاقة بين ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني ، و المنظمات التابعة للأمم المتحدة ،و بين الحكومات الغربية صارت واضحة وضوح الشمس ، و الوظيفة التي تؤديها هذه المنظمات في خدمة رأسمالية الكوارث لم يعد أحد يجادل بها .
إن أبطال رأسمالية الكوارث ينتقلون من منظمات المجتمع المدني ، إلى الحكومات ،  إلى المنظمات التابعة للأمم المتحدة كمن ينتقل من رصيف إلى رصيف في نفس الشارع ، فكوشنر انتقل من منظمة أطباء بلا حدود ، إلى وزارة الصحة الفرنسية ، ثم إلى الأمم المتحدة ليعود إلى وزارة الخارجية الفرنسية . و قصة بول وولفيتز و عشيقته شاهة علي رضا على نفس النسق الكوشنري ، فوولفيتز انتقل من وزارة الدفاع الأمريكية إلى البنك الدولي ، فرفع مرتب عشيقته تمهيداً لنقلها إلى منظمة مجتمع مدني لتتقاضى نفس الراتب . و ضمن نفس النسق تأتي تعييناته في البنك الدولي ، و هذا الأمر لم تتطرق له وسائل الإعلام مع أنه فضيحة أكبر من فضيحة شاهة لكن هذه الفضيحة لا تمتلك بعداً جنسياً !فمن بين خمس تعيينات كبرى لمسئولين دوليين قام بها وولفويتز ذهب ثلاث منها إلي مسؤولي حكومات دول وفرت دعما قويا لسياسة المحافظين الجدد في العراق. ويأتي على رأس هؤلاء في التعيين¬ مروان المعشر نائب رئيس الوزراء الأردني السابق الذي عينه وولفيتز نائباً لرئيس البنك الدولي للشئون الخارجية.
وكان المعشر قد عمل سفيرا لبلاده في واشنطن قبيل حرب العراق في عام 2002 ونقلت التقارير أنه لعب دورا رئيسيا في ضمان تعاون عمان مع الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003. وخلال عملية الغزو عمل المعشر وزيرا للخارجية ثم نائبا لرئيس الوزراء، حيث كان يعد من أهم داعمي واشنطن في العالم العربي في وقت كانت تشتعل فيه مظاهرات الكراهية ضد العدوان الأمريكي.
كما قام وولفويتز بتعيين وزيرة الخارجية الأسبانية السابقة آنا بلاسيو نائبة أولى ومستشارا عاما لرئيس البنك الدولي، وكانت بلاسيو و حكومتها برئاسة أزنار من المؤيدين الصريحين لحرب تدمير العراق، كما ساهمت بالغزو بـ1500 جندي تم سحبهم بعد سقوطها.
وعين وولفويتز أيضا وزير المالية السلفادوري السابق خوان جوزيه ديوب ليكون واحدا من بين مديري البنك الدولي الإداريين وبالإضافة لمنصبه المالي عمل ديوب مديرا لمكتب الرئيس السلفادوري السابق فرانسيسكو فلوريس، حيث أرسل في ذلك الوقت ما يقرب من 400 جندي سلفادوري إلي العراق، وهو أكبر عدد من الجنود تبعثه دولة نامية، وهو ما يعني قيام بول وولفويتز بمكافأة الأشخاص والحكومات الذين دعموا بشكل خاص العدوان الأمريكي علي العراق.
و بالتالي إن ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني ، أو التابعة للأمم المتحدة ، أو التي تتخذ طابعاً إنسانياً ما هي إلا أقنعة مختلفة لوجه رأسمالية الكوارث التي تحكم العالم ،إن حكام العالم يسكنون بيتاً متعدد الشرفات ، فإذا كرهت الشعوب منظر جيوشنا نطل عليها من شرفة منظمات المجتمع المدني و المنظمات الإنسانية ، فإن ملّتنا بهذا الشكل نطل من شرفة الأمم المتحدة و منظماتها ،و هكذا . و رجال ككوشنر  و وولفيتز ينتقلون في هذا البيت من شرفة إلى شرفة لأن البيت بيتهم .  

الجمل

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...