أنطونيو تابوكي... شخص برتغالي سمين يصبح بطلاً إيطالياً

30-03-2012

أنطونيو تابوكي... شخص برتغالي سمين يصبح بطلاً إيطالياً

كنّا أشرنا في عدد الثلاثاء الماضي، إلى غياب الكاتب الإيطالي الكبير أنطونيو تابوكي، الذي قدم عبر عدد من أعماله، خطا روائيا متميزا، جعله يتربع على قمة أفضل الكتاب في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي.
مجموعة من الروايات عرفت كيف تقرأ عصرها وتخترقه، من دون أن يسقط في فخ الايديولوجيا المباشرة، بل عرف كيف يولي الاهتمام بأسلوب ومناخ، أتاحا له أن يقدم عملا متميزا.
في ما يلي، نقدم شهادتين عن تابوكي، كتبهما صديقان له، غداة رحيله هما الكاتب الإيطالي ستيفانو بيني الذي كان من المقربين إليه، وقد نشرها في صحيفة «لاريبوبليكا»، والثانية شهادة الكاتبة الروائية كلارا دوبون مونود، التي نشرتها على موقع «المجلة الأدبية» الالكتروني.
شهادتان حيتان تدخلاننا إلى بعض التفاصيل التي تسترجع بهاء هذا الكاتب بكلّ حسه الإنساني المتميز.

«وداعا صديقي أنطونيو»
ستيفانوبيني

«لن يتبقى من كلّ شيء سوى القليل». هذا هو البيت الأول من قصيدة «إقامة» لكارلوس دروموند دو أندراد، وهو شاعر (برازيلي) كان تابوكي يحبه كثيرا وجعلني أكتشفه منذ عدة سنوات. شكل ذاك الأمر واحدة من هداياه. وبعيدا عن التحيات الكبيرة، فبفضل هذا «القليل» الساخر والنادر، في الوقت عينه، سيبقى أنطونيو في ذاكرتنا. فهذا «القليل» غالبا ما يكون ثمينا، وكان تابوكي يصف الأدب بالثمين دائما، مثلما يصف الالتزام والعواطف.
قليلة هي الذكريات التي تعاودني عن أنطونيو، ربما لأني لا أرغب في أن أنتزعها. ذات مساء، وفي مدينة بيزا، خلال عشاء، تحدث أحدهم عن «عذاب» الكتابة، عن القلق بالبقاء مسمرين أمام الصفحة. «لا يحدث لي هذا الأمر مطلقا»، قال أنطونيو وابتسامة الملاك على شفتيه. «أستيقظ كلّ يوم عند الخامسة صباحا، أعمل لمدة خمس ساعات متواصلة، ولا أصحح سوى سطر أو سطرين في أقصى حدّ. بهذه الطريقة استطعت كتابة «بيريرا يدّعي» خلال أشهر». بعد دقيقتين من الصمت الذي ساد على الطاولة، انفجر تابوكي بالضحك وأضاف قائلا: «لقد كذبت. لا شيء صحيحا من هذا. أنا أيضا، امضي أحيانا يومين لأكتب صفحة واحدة. رغبت فقط في أن أغيظكم».
كان أنطونيو خفيفا وقاسيا، صفتان كأنهما تتناقضان. كان خفيفا بابتسامته الشبيهة بابتسامة فارس، بعذوبة حديثه، بالشغف الذي يبديه وهو يتحدث عن غرامياته الأدبية. لكن، إن لم يعجبه أي شيء، كان الفارس يستلّ سيفه، ويصبح حديثه قاطعا ومثيرا للجدال، ولا ينجو أي كاتب من نقده وبخاصة حين كان يسمع هسيس كلمة «اللاالتزام». كان يمكن نثره الميلودي وموسيقاه الناعمة، اللذين يبدوان كأنهما هاربان من إحدى نوافذ لشبونة أو الريو، أن يتحولا إلى إشارة تحذير. مقالاته حول الواقع الإيطالي جاءت قوية، ولم تكن أبدا عديمة الفائدة. يغضب ويدفع الجميع إلى الغضب. لم يدخل أبدا في معارك ثنائية، بل كان ينزل دائما إلى الشارع.
أعتقد أن أنطونيو تألم كثيرا حين رأى ما عاناه بلدنا في السنين الأخيرة. لم يتأت ذلك من حماسة إيديولوجية ولا من رغبة في التحريض، بل لأنه كان يرى أنه من غير المعقول أن لا يهتم أي كاتب بمسألة السلطة. «أحيانا، أخشى العودة إلى إيطاليا»، أسرّ لي ذات يوم. لم يكن خوفا شبيها بخوف ذاك الذي لن يحمل السلاح، بل الخوف من أن يرى انهيار كلّ ما يحبه. تعاودني ذكرى أخرى. ذات مساء، خلال حفل فني، قال لي: «أحب أن أعزف على الغيتار، أو على أيّ آلة أخرى، أن أغني، أن أستسلم للموسيقى وأنسى كلّ شيء». ولماذا لا تفعل ذلك، سألته. «لأنني أتخيّل المشهد التالي: في وسط أغنية، إن أزعجني مشهد أو أيّ شيء آخر، فسأمسك بالميكروفون وبالغيتار وأكسر كل شيء وأغادر الحفل». لم تكن من عادات أنطونيو أن يحطم الآلات الموسيقية. لكن من الصحيح أيضا أن نثره الأنيق والمتراقص كان يصبح خشنا ومفترسا حين يتحدث عن شيء يتراءى له أنه غير عادل. على الرغم من أن كلّ شيء يبقى مضاءً بابتسامته وبنغم فوراته التي تجيء بصوت خفيض.
حين أعلمني ألبرتو رولو (أحد ناشري تابوكي في إيطاليا) بأن أنطونيو وصل إلى مراحله الأخيرة، حدد بالقول إنه يصارع المرض بشجاعة وأمل. أعتقد أننا لو سألناه إن كان مريضا، لأجابنا «قليلا». أو ربما لتخيل تشخيصا طبيا فانتازيا ليؤثر على محيطه كي يمرح قليلا. حاز أنطونيو العديد من التقديرات المستحقة خلال حياته، لكن قليلا ما كان يتكلم عن ذلك، حتى أنه كان يسخر من ذلك («لم تكن الجائزة سيئة، لكن النبيذ كان كريها). ذات مرة، رأيته سعيدا حقا: لقد أثر به تصفيق طلاب الجامعة الحار (لقد درّس الأدب البرتغالي في جامعات جنوى وبولونيا وسيينا). أتخيل أن هذه العاطفة سترافق دوما ذكراه وكتبه الرائعة. سنشتاق إليه كثيرا، لكن، كي نجعله يبتسم، سأقول إننا سنتشاق إليه قليلا.

مونود تابوكي يدّعي
كلارا دوبون

من المؤكد أننا سنتحدث عن «ساحة إيطاليا» و«ليالّ هندية» و«تريستانو يموت». سنتذكر كم أن أنطونيو تابوكي، هذا الرجل الصغير العملاق، عرف شجاعة الالتزام وبأنه تحدى برلسكوني وأسس «البرلمان الدولي للكتاّب» وبأنه حضن فكرة الديمقراطية، بانتباه، مثلما يحتضن زوج زوجته المريضة. سنردد ذلك كله، لكن شرط أن لا ننسى الأهم: روايته «بيريرا يدّعي»، التي نشرت العام 1994.
بيريرا شخص سمين، وحيد وكاثوليكي. ثلاثة أسباب كي تفسد حياته. لنضف إليها سببا رابعا: عاش في برتغال خنقها سالازار. يعني اسمه شجرة الخوخ بالبرتغالية، ومثل «كلّ أسماء أشجار الفاكهة، فهو اسم من أصل يهودي»، يكتب تابوكي في ملحق الرواية، مقدما بذلك التحية «إلى شعب تعرض لكلّ لاعدالة التاريخ». بيد أن بيريرا لم يكن يملك شيئا من سمات اليهودي التائه. كان شخصا سمينا لا يتحرك. وحدته تفطر القلب. يشرب ليترات لا تحصى من عصير الليمون، يجفف جبهته على الدوام ويتكلم مع صورة زوجته الراحلة. بكلمة واحدة، يتحرك مثل شخص محكوم. إلى أن يحدث أمر يقلب كيانه. يقاوم بيريرا الدكتاتورية. ويجرؤ على القيام بأمر خطير، لكنه يفعل ذلك بهدوء كبير، مثلما فعل تابوكي.
«بيريرا يدعي» هو أكثر الكتب التي تلخص أنطونيو تابوكي بشكل أفضل، إذ يتكلم فيه عن استيقاظ الوعي. إذ طيلة حياته، لم يتوقف تابوكي عن هزّ الوعي الأوروبي، سحبه من نومه العميق كي ينبثق احتمال الخيار، خيار أن نقول لا. من هذا الحيز، شاهد أنطونيو تابوكي، العام 1995، وهو مذهول، التظاهرات المعادية لبرلسكوني التي رفعت كتاب بيريرا، الذي سرعان ما أصبح رمز المعارضة اليسارية. «يخبرنا ذلك كثيرا عن شبكات القراءة، قال يومها، شخص برتغالي سمين يصبح بطلا إيطاليا»...
تشكل ولادة «بيريرا يدّعي» أيضا ملخصا عن عمل تابوكي كله. التقى ببيريرا صدفة، حين قرأ الخبر في صفحة وفيات في جريدة. أشار الخبر إلى دفن صحافي إيطالي. كانت رفاته معروضة أمام الجميع لالقاء النظرة الأخيرة عليها في كنيسة المستشفى. ذهب تابوكي إلى هناك. «في ذلك المساء من شهر أيلول، فهمت بشكل مبهم، أن ثمة روحا في طريقها إلى السفر في الهواء، وكانت بحاجة لأن تروي عن نفسها، كي تصف خيارها، عذابها، حياتها». وعلى طريقة الشعراء السلتيين الذين يرغبون في إعادة ترميم عبارة الأموات، أصاخ تابوكي السمع. بشكل عام، جاءت شخصياته لتزوره في اللحظة التي كان يغفو فيها، في هذا الحيز المتحرك الذي يسبق النوم. جاءه الشبح لمرة، ومن ثم لثانية. «قلت له أن يعود في مرات قادمة، أن يعترف لي، أن يروي لي قصته. عاد فوجدت اسمه للتو: بيريرا».
هكذا وُلد هذا الجسد الكبير والساكن. وحملت الأسماء هذا الظهور المليء بالاحسان الخارج عن المألوف الإحسان الذي يشير إلى التشوهات التي استهلكتها قباحة العالم. لقد جعل تابوكي الجنة تنبثق من قلب الجحيم. ثمة في داخلنا، يقول لنا بيريرا، مكان للشجاعة والاستقامة، لم يصب بأي أذى بالرغم من الكابوس. ثمة حديقة، بستان، كتاب. إنه هذا الكتاب.

اسكندر حبش

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...