ماذا يطلب النّاس من الحياة؟ وفِيمَ يأملون؟

24-08-2017

ماذا يطلب النّاس من الحياة؟ وفِيمَ يأملون؟

ليس ثمّة من احتمال في أن نُخطئ لو أجبنا بالقول: إنّهم يَرْمُون إلى السّعادة، الناس يريدون أن يكونوا سعداء وأن يستمرّوا كذلك.ماذا يطلب النّاس من الحياة؟ وفِيمَ يأملون؟

ولهذا الطموح وجهان، هدف سلبيّ و هدف إيجابي: من جهة تجنّب الألم وتحاشي الحرمان من الفرح، ومن الجهة الثانية طلب ملذّات و مُتعٍ عارمة.

و بمعنى أضيق يدلّ لفظ “السّعادة” فقط على أنّ ذلك الهدف الثاني قد تمّ الفوز به.

ونتيجة لثنائيّة الأهداف هذه يمكن لنشاط البشر أن يسير في وجهتين وذلك حسب سعيهم ـ ترجيحا أو حصرا ـ إلى تحقيق الهدف الأوّل أو الثاني. واضح إذن أنّ مبدأ اللذّة، دون غيره، هو الذي يُحدّد هدف الحياة، ويحكم، منذ البداية، عمليّات الجهاز النفسي ولا يمكن لذرّة من الشكّ أن تطال نفعيّته و أولويّته، ومع ذلك يقف الكون بأسره من برنامجه موقف العداء والتحدّي. فهذا البرنامج غير قابل للتحقّق بالمرّة، ونظام الكون بأسره يقف في وجهه، حتّى نوشك على القول إنّه لم يدخل البتّة في مخطّط “الخلق” أن يكون الإنسان “سعيدا”.

وما نُسمّيه سعادة، بالمعنى الحصري للكلمة، إنّما ينتج عن تلبية مباغتة بالأحرى لحاجات بلغت حدّا عاليا من التوتّر، وهي غير ممكنة، من حيث طبيعتها بالذات، إلاّ في صورة ظاهرة وقتيّة. وكلّ دوام لوضع يرغب فيه الإنسان بدافع مبدأ اللذّة لا يجلب غير هناء فاتر فلقد جُبلنا على نحو لا نستطيع معه أن ننْعم بمُتعة عارمة إلاّ إذا قامت على أساس نقيضها أمّا دوام المُتعة فإنّه لا يُوفّر لنا إلاّ النزر القليل من السّعادة. وبناء عليه فإنّ استعدادنا لنكون سعداء محدود أصلا بتكويننا و طبيعتنا. وبالمقابل فإنّه لأيسر علينا بكثير أن نخوض تجربة التعاسة.

فالألم يتهـدّدنا من ثلاث جهات: في جسدنا الخاصّ المُقدّر له سلفا أن يفنَى و ينحلّ و العاجز عن تجنّب إنذارات الألم و القلق التي تذكّره بمصيره. ثمّ من جهة العالم الخارجي الذي يُسخّر قوى عاتية وضاريّة من أجل الفتك بنا و إبادتنا. أمّا التهديد الثالث فمصدره علاقتنا بنُظرائنا من البشر.

ولعلّ الألم الناتج عن هذا المصدر أشد ّوقعا علينا من أيّ ألم آخر، حتّى لو كنّا ميّالين إلى اعتباره ثانويّا فهو جزء لا يتجزّأ من مصيرنا، محتوم علينا كغيره من الآلام. و لن تأخذنا الدّهشة البتّة إذا ما وجدنا الإنسان، تحت ضغط احتمالات الألم هذه، يركّز جهده عادة على الحدّ من طموحه للسّعادة ويعتبر نفسه سعيدا لمجرّد أنّه نجا من التعاسة وتغلّب على الألم. كما لن تأخذنا الدهشة البتّة إذا ما رأينا بوجه عام مهمّة تحاشي الألم تتقدّم على مهمّة الفوز بالسّعادة وتدفعها إلى الخلف.

 

المصدر: فرويد: قلق في الحضارة - ترجمة: جورج طرابيشي 
نقلاعن: الأوان

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...