كيف تبيت وحولك جوعى ؟

28-10-2007

كيف تبيت وحولك جوعى ؟

جاء في كتاب بعث به أمير المؤمنين علي (ع) الى عثمان بن حنيف الانصاري وهو عامله على البصرة، وقد بلغه انه دعي الى وليمة قوم من أهلها فمضى اليها:
أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني ان رجلا من فتية أهل البصرة دعاك الى مأدبة فاسرعت اليها تستطاب لك الالوان وتنقل اليك الجفان وما ظننت انك تجيب الى طعام قوم عائلهم مجفو وغنيهم مدعو فانظر الى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما ايقنت بطيب وجوهه فنل منه".
ويمضي أمير المؤمنين (ع) في كتابه فيقول: "وانما هي نفسي اروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الاكبر وتثبت على جوانب المزلق ولو شئت لاهتديت الطريق الى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز ولكن هيهات ان يغلبني هواي ويقودني جشعي الى تخير الاطعمة ولعل بالحجاز او اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع او أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى واكباد حرى او اكون كما قال القائل: وحسبك داء ان تبيت ببطنة وحولك اكباد تحن الى القد".
هذه الكلمات التي وردت في كتاب أمير المؤمنين (ع) لعامله أبي حنيف، رغبت في ابرازها، كونها تلامس واقعا نعيشه في هذه الايام حيث تصول وتجول فيه اكثر من حالة تتشابه في كثير من ظواهرها وبواطنها لتتطابق وحالة اولئك الولاة والحكام الذين غلبهم هواهم وقادهم جشعهم، فراحوا يتخيرون الاطعمة ويتناوبون على مقاضمها رغم علمهم بوجود بطون غرثى واكباد حرى، همهم وغايتهم الاعتلاف، في حين ان من هم حولهم لا طمع لهم في القرص ولا عهد لهم بالشبع، وكأني بهؤلاء وقد استنسخت منهم الاقدار ما ضجت بهم البلاد والامصار، فراحوا يطوفون فيها وهم يتخيرون ما لذ وطاب من الموائد والمواقع، ولا همّ لهم سوى اشباع بطونهم وإرضاء شهواتهم وتحقيق ما تقودهم اليه رغباتهم التي تجاوزت كل الحدود حتى دفعت بهم الى كل ظلم ومفسدة، ضاربين بعرض الحائط مصلحة البلاد والعباد الذين اصبحوا في حسابات وقياسات أصحاب الشهوات والنزوات قطعانا لتعرض وتسام في اسواق البزارات السياسية المخادعة وغير المستندة الى تلك القيم التي اراد امير المؤمنين علي (ع) من خلالها في كتابه الموجه الى  عامله ابن حنيف ان يسلط الضوء عليها كي تتبدّى وتتوضح معالم المسار الصحيح والمسلك القويم التي ينبغي على كل من هو في الموقع المسؤول ان يتبعها ويلتزم بها، مخالفاً لهواه وغير متوله بما يشتهي، لان القلوب المتولهة بالشهوات لن يسكنها ورع، ومن غلبت عليه شهوته وبطنته لن تسلم نفسه، كما ان من يستديم الشبع لن يصفو فكره. امير المؤمنين علي (ع) يقول: "أجل الامراء من لم يكن الهوى عليه أميراً، وعنه (ع): "من اتبع هواه أعماه وأصمه وأذله وأضله".
فمجاهدة النفس اذن ومغالبة الهوى لا بد منهما لاستقامة وصلاح أي أمر، كما ان ترويض النفس بالتقوى يعد من افضل السبل.
روي عن رسول الله (ص) انه قال: "خصلة من لزمها اطاعته الدنيا والآخرة، وربح الفوز بالجنة"، قيل: "ما هي يا رسول الله؟ قال (ص): "التقوى، فمن اراد ان يكون اعز الناس فليتق الله". لأن من يتق الله سبحانه وتعالى يجعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا. ولهذا فنحن نركز ونحث دائما على ضرورة بناء الذات وتهذيبها وتريوضها وتنظيفها من ادران الآفات والشهوات، كما نحاول ابراز اهمية وارجحية التزام التقوى، لاننا مدركون ومتيقنون بأن ما من حكم استوى وما من عيش استقر، وما من أمن استظلت به رعية، الا وكان العدل قوامه، والتقوى سبيله. فالعدل من أعلى مراتب الايمان، فأمير المؤمنين علي (ع) يقول: "اعدل الناس من انصف من ظلمه، واجور الناس من ظلم من انصفه، واعدل السيرة ان تعامل الناس بما تحب ان يعاملوك به".
لهؤاء المفسدين المتفننين في التخير والاختيار، والمتخصصين في القنص والاصطياد، العارفين من أين وكيف تؤكل الاكتاف، بعدما تزايد عديدهم، وتضاعفت عدتهم، وتنوعت مكائدهم، وبعدما توزعت شرائكهم المموّهة بأكثر من قناع سياسي وطائفي ومذهبي، والتفت حبائلهم وحبالهم على رقاب البسطاء من الناس لتجرهم الى حظائرهم المحصنة بكل وسائل الذل والقهر والاستبداد، تحت عنوان الظرف يستدعي والمسؤولية تستوجب والواقع يلزم، بأن يكون المسار والمشوار الى الامان والاستقرار على هذا الشكل وبهذا المنحى الذي تفلت من كل ما يضبطه وكل ما يوجهه وكل ما يحفظ ولو قليلاً من ماء الوجه. لهؤلاء المفسدين والمستبدين في هذا البلد، المتخيرين والمتزاحمين على القصاع، المستهزئين والمستسخرين بالحد الادنى من كرامات الناس ومشاعرهم، لهؤلاء نقول ان الله تبارك وتعالى سائل كل رادع عما استرعاه، حفظ أم ضيّع.


الشيخ احمد قبلان     

المصدر: النهار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...