ترسيم اللغة الأمازيغية في دستور جديد.. ولكن ماذا عن العربية في المغرب؟

30-06-2011

ترسيم اللغة الأمازيغية في دستور جديد.. ولكن ماذا عن العربية في المغرب؟

لم تعد الطاحونة اللغوية في المغرب، منذ الشروع في صوغ دستور جديد، طاحونة صامتة، كما كانت طيلة عقود طبعها الصمت والمناورات والحروب اللغوية الباردة بين الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، بما فيها المؤسسات الاجتماعية والثقافية. أما الدولة فكانت تتفرج على لغات البلاد وهي تلعب وتلهو. تلغي إحداها الأخرى. وتقوم لغة مقام أخرى وبالتناوب، وكأنها تتفرج على مقابلة في لعبة الشطرنج. فلا هي حمت العربية باعتبارها اللغة الرسمية بمقتضى الدستور.

ولا هي تعاملت بوضوح ورجاحة عقل مع اللغة الفرنسية باعتبارها إرثاً لغوياً استعمارياً لم تتزعزع مكانته مع رحيل الفرنسيين واستقلال المغرب. بل إن الفئة الفرنكوفونية اتسعت قاعدتها وتنوعت مع شيوع الفرنسية في الإدارة والمعاهد العليا، العامة والخاصة، وأيضاً بين صفوف الطبقة الشعبية التي ارتأت في لغة الجنرال ليوتي، وفولتير أيضاً، رافعة طبقية سحرية. فبمجرد أن تتحدث الفرنسية حتى ترتقي درجات الى صفوف البورجوازية الفرنكوفونية.

الإسلاميون لم يعربوا عن رؤيتهم وموقفهم من الوضع العاجز الذي تعيشه اللغة المقدسة، لغة القرآن، وذلك يعود بالدرجة الأولى إلى كون القضية اللغوية، كقضية «هوياتية» وثقافية، هي آخر ما يشغل حزباً لا يبحث سوى عن اتساع قاعدته في المجتمع والبرلمان والحكومة. أما فئة المثقفين المعربين، المنتمين في غالبيتهم إلى أحزاب تقدمية ناضلت على جبهات عدة، فنضالهم من أجل العربية كان شحيحاً ومتفرقاً على مراحل، بحيث كان يفتقد إلى تلك الكثافة التي يتطلبها وضع لغة محاصرة من كل الجهات: الفرنسية، الأمازيغية التي اختارت أن تكتب لغتها بحرف تيفيناغ الفينيقي عوض الحرف العربي، واللهجة الدارجة المغربية، التي يسعى الكثيرون اليوم إلى إحلالها محل العربية الفصيحة في جميع مجالات الحياة، بما فيها قطاع التعليم، على رغم ناقوس الخطر الذي دقه واحد من أعرف اللغويين بخريطة اللغات في العالم عبدالقادر الفاسي الفهري.

وكأن على المغرب مستقبلاً أن يترجم المتنبي وألف ليلة وليلة والمعري وابن رشد والقرآن إلى اللغة الدارجة حتى تتمكن الأجيال القادمة من فهم تلك النصوص والمتون. بل وربما قد نترجم، وهذه هي الخيانة العظمى، حتى بدر شاكر السياب وأدونيس ومحمود درويش ومحمد بنيس ومحمد بنطلحة ومحمد عابد الجابري وعبدالله العروي وعبدالفتاح كيليطو ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف وبنسالم حميش ومحمد شكري ومحمد زفزاف وإلياس خوري إلى الدارجة المغربية، حتى نقربها من فهم الطلاب المغاربة، الأبرياء المساكين الضائعين في خليج اللغات.

إذاً، نحن في مرحلة الربيع العربي الزاهر، نشهد حدثاً من أهم الأحداث: ترسيم اللغة الأمازيغية في مشروع الدستور الجديد. ها هو حلم أبناء مازغ قد تحقق. الحلم الذي سخّروا من أجله كل الأدوات والجهود. دعونا نذكر من تلك الجهود تحالفهم مع الفرنسية، الممثلة في حراسها الفرنكفونيين، ومع الدارجة التي ينادي بها غير المتعلمين.

وداخل هذا الوضع لا تنفع بيانات اتحاد كتاب المغرب، التي لم تصدر يوماً حول الوضع الكارثي للغة العربية، ولا أكاديمية اللغة العربية التي تنظم ندوات، تصرف فيها الأموال الطائلة، حول حماية العربية من باب الواجب فقط، وليس من باب تحقيق أهدف تاريخية لأمة ظلت طيلة قرون تفاخر الأمم بلغتها والأدب الذي أنتجته تلك اللغة. وهنــــا نذكر نصيحة المفــــكر محمد عابد الجابري الذي استجارت به ثلة من الكتاب المغاربة ليساعدهم على تأسيس جمعية تكون بمثابة جبهة تدافع عن اللغة العربية من التحلل الذي تتعرض له، ومنحها مكانة بين اللغات المتداولة داخل المجتمع. فما كان من الجابري إلا إسداء هذه النصيحة البليغة: للدفاع عن العربية اكتبوا أدباً جيداً وفكراً عميقاً. هذا هو الطريق الوحيد السالك. أما تقليد اللغويين العشوائيين، والملهجين الفظيعين، والشوفينيين البؤساء، فما هو إلا مضيعة للوقت وإساءة للغة عظيمة.

هنا، والآن ستتأسس أحزاب جديدة ستركب الموجة نفسها المنادية بالتلهيج، وستعزف العزف الناشز نفسه. هنا، والآن سيتم ترسيم الأمازيغية في الدستور الجديد الذي سيطرح للاستفتاء غداً. وأمازيغي الأمس، الذي كانت أمازيغيته هي دينه الوحيد، والذي كان يعتبر أن اللغة العربية تأكل من رأســـماله اللغوي، هو اليوم يقول إن ترســـيم الأمازيغــــية يتم فقــــط بهدف تحقيـــق الحماية القانونية لتعليم الأمازيغية، مبيناً أن قضيته اللغوية هي قضية كانت زائفة. هنا، والآن ستأتي مرات ومرات السيدة دومينيك كوبي، الفرنسية التي لا تعرف حرفاً في العربية أو في الدارجة المغربية، ستأتي وتبدأ رحلتها الشيقة للإسراع بإحلال الدارجة محل العربية.

وستلتقي فلاناً وفلاناً من الكتّاب وكتّاب كلمات الأغاني، وتلعب على وعيهم البسيط وسداجتهم المقززة، مبشرة بجنة لهجية موعودة. أما الرسامة الأميركية التي تقضي عطلتها المفتوحة في مدينة طنجة فسترفع من نسخ جريدتها «خبار بلادنا» (عوض «أخبار بلادنا»)، بل وقد تصدر صحيفة بالأمازيغية. والكاتب الإسباني خوان غويتيسولو سيستمر في حشر أنفه في قضايانا اللغوية منادياً بالدارجة، هو الذي لا يعرف إلا بضع كلمات من اللهجة المراكشية التي تعلــمها طيلة إقامـــــته ضيفاً على المغرب، ناسياً أن جل كتبه وروايـــــــاته ترجمت في شكل مشرق وولدت ولادة جديدة، وعرفت في العالم العربي بفضل العربية وليس الدارجة التي هي عاجزة كل العجز عن نقل أدبه وأدواته الفنية ورؤيته للعالم.

إن الوضع اللغوي في المغرب مأزوم، ومن يرد أن يتأكد فليقرأ ما يكتبه طلاب الجامعات من مواضيع وبحوث، سواء بالعربية أو الفرنسية. أو فليقرأ، إن استطاع، ما تكتبه شركات الهاتف المحمول في إشهاراتها لسلعتها. عندها سيدرك أن هذا الجنون اللغوي لا يشفيه الدستور ولا الجمعيات المدنية. إن العقوق في حق العربية درس لعقوق آخر آت لا محالة. ولا بد لنصيحة الجابري أن تبقى راسخة في الذاكرة: اكتبوا أدباً جيداً لحماية لغتكم وتطويرها. إن اللغة ليست قانوناً، إنها سيدة الأشياء المستحيلة، ونحن سدى نبحث عنها.

محمود عبد الغني

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...