أدونيس: أنقاض

30-08-2012

أدونيس: أنقاض

ـ 1 ـ

جاك أتّالي، الكاتب الفرنسي، المستشار السابق للرئيس ميترّان، يقول في تعليق أخير له إنّ أوروبا اليوم «غائبة» عن التاريخ، وهي «عاجزة» إلى درجة أنّها لم يعد في إمكانها أن تنقذ اليورو «حتى لو أرادت». ويرى في التعليق نفسه أنّ الولايات المتّحدة تعيش في شلل مزدوج: داخليّ وخارجيّ.

مع ذلك:

«غياب» أوروبا، و «شلل» الولايات المتّحدة هما اللذان يقودان السياسة العربية اليوم.

للتبعيّة عبقريةٌ هائلة نُختَصّ بها نحن العرب، خصوصاً في مرحلتنا التاريخية الراهنة.

 

ـ 2 ـ

الأرض العربية مصدرٌ أساسيّ للطاقة. غير أنّ السياسة العربية كما يبدو لا تفهم ذلك إلا على المستوى السياسيّ- الاقتصاديّ. لا تفهم الأبعاد الإنسانية والحضارية في الطاقة، أو أنها تتجاهلها. هكذا تبدو عمليّاً كأنها تشارك الرأسمالية الكونيّة في تدمير العالم، وفي المقدّمة العرب أنفسهم. وهكذا يصبح العرب في هذه السياسة، مجرّد مادّة. مجرد وقود.

 

ـ 3 ـ

انتهت المعركة

لكنّ الناس ما زالوا يموتون. لا الذين أُصيبوا فيها وحدهم،

بل أيضاً جميع أولئك الذين لم يُصابوا

 

ـ 4 ـ

سوقٌ اسمها الشرق الأوسط العربي الإسلامي.

البضاعة الرائجة: الورم. والغاية أن يحل محلّ الشحم.

 

ـ 5 ـ

هل قرأت أيها القارئ، أخبارَ بشرٍ يريد الواحد منهم أن يكون ثوباً قبل أن يكون جسماً، ومرآةً قبل أن يكون وجهاً، وقبّعةً قبل أن يكون رأساً، وعلَماً قبل أن يكون اسماً؟

وهو قبل ذلك، يحـسب الدّبابة كرسيّاً للسلطة.

لكن لماذا القراءة؟ يكفي أن تنظر حولك.

 

ـ 6 ـ

بلادٌ لا معنى فيها للمعنى.

 

ـ 7 ـ

ـ تنتقد التقدّم. هل أنت ضدّه؟

ـ كلاّ. لا أنتقد التقدّم، وإنّما أنتقد طرقه السائدة. يجب أن نتقدّم بطرق أخرى.

 

ـ 8 ـ

ـ ماذا يقول هذا الحارس الذي لا ينام؟

ـ يطفئ القناديل.

 

ـ 9 ـ

ساسةٌ بارعون في هندسة الركب الجاثية، والأكتاف المحدّبة.

 

ـ 10 ـ

بلى، أفضّل أن أكون عروةً صغيرة في قميص الفجر،

على أن أكون فارساً في إصطبل الظّلمات.

 

ـ 11 ـ

بلادٌ لم تعد موجودةً إلاّ في السجون.

 

ـ 12 ـ

أقنعتُ نفسي بما علّمَنا إيّاه أرسطوطاليس، المعلّم الأول، أنّ النُّطق هو العلامة الفارقة للتمييز بين الإنسان والحيوان.

غير أنّ التجربة خذلتني. فهي تؤكّد بطلان ذلك تماماً.

 

ـ 13 ـ

مات الجالس على الكرسيّ،

الكرسيّ هو، وحده، الذي شيّعه.

الكرسيّ هو وحده الذي بكاه.

 

ـ 14 ـ

عشيرة، قبيلة، مذهب، طائفة: بلادٌ تتكلّم اليومَ هذه اللغة، إنما هي بلادٌ لا يمكن أن تكون ثقافتها إلا امتهاناً للمكان، وتحنيطاً للزمان.

ثقافة تكتبها التمزّقات والأشلاء.

 

ـ 15 ـ

كلاّ، لم يكتب شيئاً.

كلّ ما فعله هو أنه حاول أن يُثبت على الورق ما تهمس به شفتا التاريخ في أذن الشمس حيناً، وحيناً آخر في أذن الريح.

 

ـ 16 ـ

دائماً يصدُقُ الواقع، ودائماً تكذب اللغات.

لولا ذلك لما كانت اللغة إلا لغواً. ولكان الواقع مجرَّد عبَث.

 

ـ 17 ـ

«شعبٌ»؟ هل هذه الكلمة «معنى» أم «لفظ»؟

إذا كانت التجربة التاريخية معياراً، فإنّ تاريخَنا العربي يُثبت أنّ هذه الكلمة مجرّد «لفظة»، وأنّ الفرد هو الذي يعطيها «المعنى». كمثل الحريّة، العدالة، الحقّ. وكمثل الإنسان نفسه.

 

ـ 18 ـ

نهاية مسألة «الشعب الفلسطيني» وبداية مسألة «الشعب العربي».

أو لنَقُل بصيغة أخرى: نشهد اليوم مرحلة تاريخية جديدة: نهاية «المسألة الفلسطينية»، وبداية «المسألة العربية».

 

ـ 19 ـ

أوروبا كلُّها، اليوم، تقريباً تساعد العرب في استئناف اللغة التي كانت تعاديهم وتنبذهم بسببها: اللغة القروَسطية القديمة - لغة المذاهب، والطوائف، القبائل والعشائر. بعيداً عمّا بَنَتْه هي في هذا المجال، بعد خروجها من القرون الوسطى: الوطن، المجتمع، المواطنيّة، المدنيّة، التعدديّة، العلمانيّة... إلخ.

لماذا تدعم أوروبا اليوم، لغة الماضي عند العرب؟ هل أصبح الصراع السنّي - الشيعي، مثلاً، ضرورة حضارية وإنسانية، لكي يتحرّر المسلمون؟

 

ـ 20 ـ

ما يكون مستقبل بلدانٍ ليس حاضرها إلاّ معامل ضخمة لصناعة الإبر التي تتخصّص في خياطة الريح؟

 

ـ 21 ـ

شاركْ، اسمع، راقبْ! لكن إيّاك أن تشهد إلا كذباً:

هذه هي الثقافة التي ترعاها اليوم وتعمّمها في بلاد العرب، أوروبا والولايات المتّحدة.

من صدر العصفور الصيفيّ الصغير، وفقاً لهذه الثقافة، يخرج كركدنّ شتائيٌّ ضخم! كلّ يوم! وربما كلّ ساعة!

 

ـ 22 ـ

أعجوبة حديثة:

التاريخ العربيّ الراهن هو الذئب الوحيد الذي يعيش في وئام كامل مع كلاب السلطة.

 

ـ 23 ـ

أعجوبة ثانية:

اللغة العربية نفسها آخذةٌ في الانقسام إلى مذاهب وقبائل. هكذا لم يعد يُقال عن الكلام باللغة العربية إنه عربيّ إلا إذا كان مكتوباً أو منطوقاً بقلمٍ أو بلسانٍ قبَليّ أو مذهبيّ.

 

ـ 24 ـ

بعضهم، عربٌ وأجانب أصدقاء، يخترعون للعرب أسلوباً في التحرر، لم تعرفه أيّة أمّة في التاريخ. هذه خلاصته:

لكي تكون وطنيّاً يجب أن تدمّر وطنك وأن تقتل، خصوصاً، أبناءه النابغين.

ولكي تكون حرّاً يجب أن تكون عبداً.

 

ـ 25 ـ

نعم، البلدان العربية حرّة!

ولكلّ بلد عربيّ الحرية الكاملة في أن يختار كما يشاء، بين أن يكون دميةً، أو أن يكون جثّة.

 

ـ 26 ـ

لا الديموقراطية، لا التحرر، لا حقوق الإنسان،

بل المال والسلطة.

لا الوطن، بل المتجر.

لا الوطنيّة، بل التجارة.

حقّاً، دكّانٌ هو هذا العالم.

 

ـ 27 ـ

مجرّد الكلام على العربيّ بوصفه عضواً في طائفة أو قبيلة، بدلاً من الكلام عليه بوصفه مواطناً، وفي معزلٍ عن انتماءاته الدينية والاجتماعية، إنما هو استمرارٌ في تعميق العبوديّات وأصولها، عدا أنه عدوانٌ عليه وامتهانٌ لإنسانيّته وحقوقه.

 

ـ 28 ـ

تكاد كلّ غيمة في البلدان العربية أن تتحوّل إلى طائرة،

وتكاد الريح أن تتحوّل إلى سفنٍ لشحن الأسلحة من كلّ نوع.

كأنّ هذه البلدان ليست في حاجة إلى القمح والماء والعمل.

كأنّ حاجتها الملحّة هي إلى الحرب والقتل والغزو !

 

ـ 29 ـ

الهدْمُ عاملٌ أساسٌ في البناء. يهدم البشر لكي يتقدّموا نحو الأفضل.

لكن، لماذا نحن العرب، عندما نهدم شيئاً لا نبني مكانه إلا ما يجب هدمه فوراً؟

 

ـ 30 ـ

بعضنا، احتفاء بالصفر الذي ابتكره أسلافنا، وتمجيداً له، يريد أن يتحوّل هو نفسه إلى صفر.

أدونيس

المصدر: الحياة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...