«اجتماعيات الديـن والتـديُّن» لماذا غاب علم الاجتماع الديني إلى اليوم؟

30-01-2012

«اجتماعيات الديـن والتـديُّن» لماذا غاب علم الاجتماع الديني إلى اليوم؟

ضمن سلسلة الدراسات الحضارية صدر مؤخراً كتاب «اجتماعيات الدين والتدين» للشيخ حسين أحمد شحادة، رئيس منتدى المعارج لحوار الأديان والثقافات.

والكتاب مجموعة من الدراسات المعمقة في مختلف مناحي علم الاجتماع الديني الذي يمرّ في مراحل شائكة من التطور والتغيير، وهو محاولة جريئة لتبيان الخطوط التفصيلية للنظرية الاجتماعية في الإسلام، من خلال دراسات ومقاربات اجتماعية وعلمية تكاملية وفق المنهج القرآني.
 
يضع الكاتب في المدخل تساؤلات إشكالية فيقول: «ما حال الاجتماع الديني لو قرر كل دين من أديانه تقسيم جغرافياه الخاصة على حدود الأعراق والقوميات والأديان؟ ‏

ثم ما حال هذه الأرض ومستقبلها لو ضاقت على أهلها بما رحبت فارتفعت في مهادها أسوار الكراهية وجدار العنصرية والاستكبار»؟ ‏

في الفصل الأول يتناول الكاتب: تقلبات علم اجتماع المعرفة والدين، حيث انطلق في دراساته الاجتماعية من الإنسان الأساس في البناء الاجتماعي، وعنده تختلف نسبة التدخل الإنساني في تشكيل البناء الاجتماعي من بيئة إلى أخرى، حسب مفاعيل القوى المعتمدة في أي مجتمع، وتزداد هذه النسبة كلما اقتربنا من المنهج الديني لدراسة المجتمع، وهذا المنهج الأخير ينقسم ويتفرع هو الآخر بحسب طبيعة الدين والتدين. ‏

ويرى أن ثمة أزمة في العقل يضخها الموروث الديني ويتغذى منها، ومنها ما هو مزروع في وجدان العامة من الناس. ويقول: إن علمَي اللاهوت والكلام قد استنفدا كل ما لديهما من قراءة السماء في غيوبها، وقراءة الأرض في ماضيها، ولكن العلم الجديد لم يكتب جملة مفيدة تتحسس الوجع الإنساني في آلامه وآماله، ويتساءل: «مَنْ ذا يصدق أنه وحتى اللحظة الراهنة لم نكتب سطراً لتأسيس علم الاجتماع الديني ولماذا؟.. لأن هذا العلم لا يملك أن يؤسس إلا في ضوء الإجابة عن سؤال: ما هو الدين؟.. فما دمنا حتى الآن لا نملك إجابة يهودية مسيحية إسلامية مشتركة عن تعريف الدين، فمن العسير علينا أن نضبط الفصول المنهجية لهذا العلم، بما هو بحث ليس في علاقات الجماعات الدينية بعضها مع البعض الآخر، وإنما في علاقة الدين بالسياسة والاقتصاد والقانون». ‏

إذا كان المشكل الأساسي في الإسلام هو إشكال الدين والزمن وعدم استيعاب المعطيات الجديدة في مجال العلوم والتقنيات والتنظيمات، وبخاصة في مجال العلوم الإنسانية، فالحل يجب أن يتمثل في تطوير الثقافة الإسلامية وتحديثها، وفي التعرف على ما استجد في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية التي طوّرت نوعياً مسألة فهم طبيعة الظاهرة الدينية نفسها، ببيان أبعادها الانتروبولوجية والسيكولوجية والاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية، وذلك من خلال مساهمات العديد من الفروع المعرفية في إنتاج الثقافة الدينية. ‏

يرى الكاتب أن استخراج معنى التكامل بين مفاهيم العلم والدين هو الذي سيؤدي إلى تطوير المعارف العلمية والدينية «إذا كان العلم يدرس موضوعه في إطار توصيف الموضوع وتفسير قوانينه، فإن الدين يدرس علاقة الإنسان بهذا الموضوع في إطار نظم هذه العلاقة وفق الغاية المرتجاة من منظور الدين لفلسفة استخلاف الإنسان على الأرض، ولئن اختلف العلم والدين على وسائل البحث والدراسة حول موضوع ما، فإن جدال العلم والدين يجب أن يبدأ من تحليل مفهوم التكامل بين الكم والكيف في كل ما يختلفان عليه... ولعل إشكال الصدام بين العلم والدين أننا قد جعلنا لعلم الدين وليس ـ للدين ـ سلطة تملي على جميع العلوم ما يدور بأفهامها التي تخطئ وتصيب، من غير وعي منا لأهمية ثقافة الهدف الواحد، من وراء جدل العلاقة بين العلم والدين والإنسان». ‏

ويرى الكاتب أن جدل العلاقة بين العقل والدين يشكل مصدراً من مصادر التصارع داخل المذهب الواحد، لأن إشكالية العقل والنص لا تزال ملتبسة في تحديات الاتساق بين النظر العقلي والإيمان التقليدي، «إن نقطة الارتكاز لعلم اجتماع الدين والتدين من منظور قرآني يجب أن تبدأ من مفاصل الوعي بغياب المشروع، وإشكالاته ومشكلاته الحضارية، والتي آل بها إلى معضلات غيابها عن مسارح التأثير العالمي لتسقط بين مقولتين: إحداهما مثالية تمامية، تطمح إلى تغيير العالم من دون أي ترتيب منهجي لفقه الضرورات، وفقه الأولويات. وثانيهما: انتقائية تخصصية تلتزم بمنهاج تجزئة الحلول وصولاً إلى تعميمها، من دون أي ترتيب منهجي لإطارها الزماني، والمكاني. ومع هذه وتلك فثمة حقيقة جوهرية تتعلق بالباحث الاجتماعي الديني، حيث تسود أعماله منازع ـ التضحية ـ بأهمية موضوعاته لصالح المنازع المذهبية والطائفية، بحيث لا يتم التركيز إلا على قراءة أحادية منقولة نظرياً لإسقاطها على جانب وحيد من الواقع، وبذلك يتم عزل الظاهرة الاجتماعية عن عواملها وأسبابها الحقيقية في مدى يتأرجح بين نموذجين من بحوث الاجتماع الديني: أحدهما: تكنوقراطي موظف لخدمة مصالح المجتمع السياسية الرسمية.. وثانيهما: نظري موظف لخدمة مراكز البحث الطائفية، والمذهبية..». ‏

ولا يُشْكل الأمر على الشيخ شحادة ولكنه يطرح مجموعة تساؤلات إشكالية وتحليلية: «هل تنتهي مهمة العقل الإسلامي عند مهمات التحقق من صحة النصوص الدينية؟، أم أن وظيفته يجب أن تطول جميع ميادين المعرفة الدينية، بما فيها الأصول التي تشيد عليها العقيدة نفسها ليصبح المقدس هذه المرة، ليس هو الدين المجرد من العقل، وليس هو العقل المجرد من الدين، وإنما الحقيقة التي يتم اكتشافها من مزاوجة العقل والدين على قاعدة الاستعمال السليم للعقل وعلى قاعدة الوعي السليم للدين». ‏

الفصل الثاني خُصص للبحث في التدين الاجتماعي ومعضلات التغيير، فإذا كان الدين قد تحكم بالسياسة وسخرها في الغرب، فإن السياسة هي التي تحكمت بالدين في الشرق العربي الإسلامي ووجهته واستغلته لمصلحتها، وجعلته في الكثير من الأحيان بمنزلة أيديولوجيا، وجعلته مصدراً للمشروعية السياسية، واليوم يشهد الفضاء العربي الإسلامي صراعاً بين قوى التقليد وقوى التحديث؛ الأولى تماهي بين الحداثة والغرب، بين الغرب العقلاني والغرب العدواني، بين الحداثة والاستعمار، وتعد التحديث تخريباً، واستلاباً ومسخاً للهوية. أما الثانية فتدعو إلى التمييز بين القشرة والنواة، بين العقل كنور معرفي، والعقل كهيمنة، بين الحداثة كحرية والحداثة كهيمنة، بين الغرب الحامل للأنوار والمبشر بها والناشر لها على الصعيد العالمي، والغرب كاستعمار وإمبريالية كونية، أو بين العقل كحرية والعقل كأداة سيطرة وهيمنة. ‏

ولا تكمن مشكلة الإسلام في غياب «محاولات تأسيس سلطة علمانية» إنما في سيطرة تأويلاته الأولى وخضوعها المستمر للتعصب والتزمت.. «في مدى هذا الواقع الديني البائس، لا يسعنا إلا أن نرد الاعتبار لبرامج تصحيح علاقة المتدين بدينه في ضوء تصحيح مفهوماتنا عن كرامة الإنسان وحريته في تقرير مصيره، وها هنا يجب ألا نخشى على الأديان، وألا نخشى من الأديان، لربما علينا أن نخشى ممن يستخدمون الأديان وقوداً في إذكاء الصراعات السياسية والاقتصادية». ‏

الفصل الثالث عالج المراجعات النقدية للاجتماع الديني، يقول الكاتب «ثمة محاولات جادة في علم الاجتماع الإسلامي لتفسير التناقض السياسي والأخلاقي في سلوك التدين الطائفي الإسلامي، ولاسيما قضايا التعاون والعدل والولاء والبراء، فالإسلام لم يجعل التعاون حكراً على مجال من دون آخر أو فئة من دون أخرى». ويتساءل«كيف نشأت إشكالات الحرية في تراثنا الديني لتغدو مصدراً من مصادر أزمات نهوضنا العربي في الفكر والسياسة والثقافة والاجتماع؟..» ليؤكد «أن مفاهيم رائجة عن المذاهب السياسية كالليبرالية والعلمانية، أو اليمين واليسار، ومفاهيم شائعة عن المذاهب الدينية وطوائفها مسيحية وإسلامية قد انتهت بنا إلى أخطر مزالق الفكر، بدءاً من إطلاق أحكام الارتداد إطلاقاً مذهبياً وطائفياً، ليغدو عالمنا العربي كله كافراً أو خائناً.. وإن لا فاتح لما أغلق علينا من إعاقات الأمية وخمول الإرادة، إلا بتفهم التداخل الموضوعي بين الحرية وموجبات الحوار وحقائق الاختلاف في زمن أصبح مستحيلاً علينا فيه أن نفهم الحرية وحقوقها واستحقاقاتها من خارج التصالح المرجو بين الدين والدولة والمجتمع». ‏

وهنا علينا الاعتراف بأن المجتمعات العربية الإسلامية منخرطة موضوعياً وزمنياً في الحداثة، لكن مع معوقات مصدرها في الأغلب الثقافة التقليدية. وفي سبيل الانتقال بالسلطة من السماء إلى الأرض، علينا العبور عبر التحديث الثقافي، الذي سيكشف الطابع الدنيوي للسياسة وللسلطة، نازعاً عنها إطارات القدسية والمقدس، وهذا الأمر رهين بمدى سيادة الوعي الذي سيواجه قروناً من الاستبداد السياسي والهيمنة المطلقة للسلطة باسم الدين، تتجسد ليس فقط في مؤسسات المجتمع وأعرافه بل أصبحت ثقافة راسخة في النفوس وفي اللاوعي. ‏

الفصل الرابع تحدث عن الاجتماع الإنساني وفلسفة التاريخ، حيث يرى الكاتب: «أن علوم العرب ـ قبل القرآن ـ كانت فرقاً من الفكر لا تشكل نظرية في أي من الاتجاهات، لكنها بعد القرآن، أخذت طريقها إلى التشكل في نظريات عديدة، رفدت العلم العالمي آنذاك بكثير من الاجتهادات الصميمية التي أضافت إليه وأخصبت مساره الواثق». ‏

ما هو أثر التدين المسيحي - الإسلامي في تشكل الهوية؟ «على مدى تلاطم أمواج النفي الديني، والنفي المضاد، أضيف إلى هموم وعي التدين، مشكلة أخرى، يطيب لبعض الباحثين أن يسميها بالإسلامية الجديدة أو المسيحية الجديدة، التي تحمل في الراهن المعاصر، هواجس وآمال التجديد في الفكر الإسلامي - المسيحي المهموم بمسألة من نحن؟». ‏

أما أزمات الاجتماع الديني التي اختتم بها الكتاب فقد فندها ضمن محاور تعالج مشكلات الدين والإنسان والحضارة، وثنائية التدين والتقدم العلمي، ولم يغفل عن أزمة التدين الإسلامي غير العقلاني الذي يعوق النهوض والتطور، كما عرج على الأصولية المسيحية التي أخذت تنهش في جسد الأمة مسببة الفوضى والقلق. ‏

نتيجة لما سلف من متابعات لما جاء في هذا الكتاب، نرى أن العوامل الحقيقية لظهور ظاهرة التطرف الديني هي عوامل دنيوية، تتعلق بشروط الحياة وأشكال نظمها المختلفة، ولا ارتباط عقلانياً لها بأصول الدين الإلهي، ويمكن أن نرى أن توظيف الدين لصلاح الدنيا ليس بالأمر الخطأ، بل هو أساس وهدف الدين، ومما لا شك فيه أن الدين كقيم أخلاقية وروحية، قد لعب عبر التاريخ دوراً مفصلياً في معارك الشعوب ضد أعدائها وفي استنهاض الهمم وشحنها، إلا أن هذا الدور للدين ما كان يمكن أن يكون لولا وجود قيادة عاقلة تُحْسِن توظيف الدين في هذا المجال..

هند نوري عبيدين

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...