الرواية العربية، صراع التقليد والهوية

02-04-2022

الرواية العربية، صراع التقليد والهوية

Image
ميلان كونديرا

الجمل ـ عماد عبيد:


لم تكن رواية (دون كيشوت) للإسباني (ميغيل دي سرفانتس 1547-1616) بجزأيها (العبقري النبيل 1605 والعبقري الفارس 16015) أول سردية سطرها الأدب، فإرهاصات الفن الروائي تعود لأزمان موغلة في القدم، مذ عرف الإنسان التدوين، حتى ما قبل التدوين على رأي الروائي الألماني (غونتر غراس 1927-2015) القائل: ( الإنسان الأول كان يروي قبل أن يتعلم الكتابة ويخترع الأبجدية)، وما الأسطورة والملحمة إلا الأرحام التي تناسل منها الفن الروائي، ولا ننسى المسرح بتأثيثه السردي وفضله على حركة الحوار وبنائية الحبكة وتوظيف الحدث، كذلك عرف الأدب نماذجا سردية قديمة عنيت بقصص الأعاجيب وسير النبلاء وبطولات الفرسان وأجواء الطبقات الحاكمة، حتى أن سرفانتس نفسه استبق روايته (دون كيشوت) الشهيرة بأكثر من عشر روايات والعديد من المسرحيات.

لكن رواية (دون كيشوت) شكلت نقلة نوعية باستيلادها لنمط سردي غزا عالم الأدب وأسس لجنس أدبي مستقل استطاع أن يتربع على عرش الريادة من حيث الانتشار والقراءة والتأثير، تظافرت له مجموعة من الأسباب وجعلته مولودا شرعي الحسب وفاخر النسب، ورعته ليصبح ذا سطوة وشأن، مولود اسمه الرواية.

(سرفانتس) المبدع امتلك لغة فارهة وأسلوبية خلابة حتى أطلق عليه لقب (أمير الدهاء) نسج روايته المختلفة (دون كيشوت) بشكل مغاير يكاد يكون انقلابيا على الكتابة السردية قبلها، فجعلها متعددة الألحان، وأشرك البسطاء كشخوص روائية بعد أن كانت الشخصيات تقتصر على الفرسان والأمراء والنبلاء، ومزج الواقعي بالخيالي وأجاد حبكتها، مما حدا بالنقاد والباحثين أن اعتبروها الرواية العالمية الأولى الحائزة على شروط هذا الفن.

سرعان ما انتشرت فن الرواية وخاصة في أوربا، سيما بعد تهيأت له أسباب عدة ساهمت في تشكيله ونموه وجاذبيته.

أهم تلك الأسباب نضوج الفكر واتساع المعرفة الناهلة من عصر النهضة الذي بدأ في القرن الرابع عشر واستمر إلى نهاية القرن السابع عشر، ثم تلاه عصر التنوير في القرن الثامن عشر وما حمله من ارتقاء في التطور وتمدد في المعارف على كافة المناحي الحياتية. لتأتي الثورة الصناعية وما صنعته من انقلابات في أسلوبية الحياة أدت إلى إعطاء دورا مميزا للمرأة التي أضحت مشاركة في الحدث بعد أن كانت متلقية له، وهذا ما أكده الشاعر (روبرت مارت) بقوله (إن العصور القديمة لم تنشأ الرواية لأن المرأة كانت مستعبدة، الرواية هي تاريخ المرأة)، كذلك توضحت معالم المدينة الحديثة وتبلور الفكر المدني المؤسساتي الناظم للحياة المتحضرة.

كل تلك التحولات وظفها كُتّاب الرواية خلال الثلاثة قرون التالية لولادة الرواية، فأسند إلى المرأة أدوار بطولية كشخصية روائية مركبة، وتأثثت المدينة كأهم بيئة للعمل الروائي صناعة وحدثا، لذلك يقال (الشعر ابن الريف والرواية ابنة المدينة) وليشهد القرن التاسع عشر نموا نوعيا وكميا لهذا الفن حتى سمي بعصر الرواية.

إلا أن عددا لابأس به من سدنة الفكر والأدب توقعوا أفول الرواية واعتبروا أن شعلتها قد أخذت بالنوسان، وستنكفئ على نفسها لتنطفئ تدريجيا وتعود إلى ما كانت قبل توهجها، فها هو الأديب الفرنسي (أدموند دي غونكور 1822- 1896) والذي تحمل اسمه أهم جائزة أدبية في فرنسا توازي جائزة نوبل في قيمتها المادية - إذ يقول: (الرواية جنس مستنفذ قال كل ما لديه) وليناصره فيما بعد الأديب البريطاني الأمريكي (تي أس إليوت 1888 - 1965) ويصرح (الرواية انتهت بعد هنري جميس وغوستاف فلوبير) وهما (جيمس وفلوبير) من أهم كتاب الرواية في القرن التاسع عشر، العصر الذهبي للرواية، إلا أن هذا الكلام بات هباء منثورا ، وردّ عليهما الروائيان العالميان (النمساوي هيرمان بروخ 1886 – 1951 و التشيكي ميلان كونديرا 1929) بمقولتين حاسمتين إذ قال بروخ (إن السبب الوحيد لوجود الرواية هو أن تقول شيئا لا يمكن أن تقوله سوى الرواية) أما كونديرا فقد جزم رأيه بالقول (الرواية حرية بلا حدود لابتكارات شكلية)، ليؤكد الزمن نهوض الرواية وتصدرها حتى تجاوزت جميع الأجناس الأدبية – على الأقل من حيث الانتشار والقراءة.

هكذا نشأت الرواية عالميا وتطورت إلى أن وصلتنا نحن العرب وبدأنا انتاجها بعد منتصف القرن التاسع عشر تأثرا وتقليدا للرواية الغربية، ووفقا لمواصفاتها ومقاييسها، وانتشرت كحشائش الأنهار الاستوائية متفوقة على سائر الفنون الأدبية الأخرى، وهنا يبرز السؤال، هل مازالت الرواية العربية تنتهج مسلك الرواية الغربية وتتقلد بها، أم استطاعت أن تؤسس لها هوية مستقلة مدموغة باسمها كعلامة فارقة ومائزة لها.

أصرَّ الكثير من الباحثين الأدبيين العرب على ترجيع فن الرواية عربيا إلى جذور النثر العربي عبر تاريخه السحيق، تارة يستشهدون بالسير، وأخرى بسرديات يتيمة كـ (ألف ليلة وليلة) أو (حي بن يقظان لابن الطفيل) حتى أن الدكتورة (عائشة عبد الرحمن – بنت الشاطئ 1913-1998) اعتبرت أن رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، (مسرحية أدبية لغوية) وتكاد تكون رواية كاملة لو عنيت قليلا بمكننة السرد الروائي، إلى ما هنالك من استنجاد بآثار النثر العربي ككتابات الجاحظ وابن المقفع والخطب والرسائل والمقامات، ومن أنصار هذه الفكرة الدكتور الناقد (عبد الملك مرتاض 1935) الذي يرى في هذه الكتابات (شكلا روائيا مبكرا) لكن الواقع والبحث الجاد يقول إن الرواية العربية جاءت تقليدا ونقلا عن الرواية الغربية.

وبعودة سريعة على بدء نشوء الرواية العربية ومراجعة للأسماء الرائدة في الكتابة السردية، تطالعنا قامات مشهورة سجلت حضورها الأدبي في القرن التاسع عشر، انتهجت هذا المسلك نذكر منها (سليم البستاني 1848-1884 ويعقوب صروف 1858-1927 وفرح أنطون 1874-1922 وخليل أفندي الخوري 1836-1907 وجرجي زيدان 1861-1914 ونعمان القساطلي 1854-1920 وفرانسيس المراش 1836-1873 وعلي مبارك 1823-1893 و محمد المويلحي 1858-1930) فهؤلاء الرواد تروضت الكتابة الروائية على أياديهم، بيد أن النقد المعاصر برؤيته العلمية وأحكامه التقيمية لم يعتبر ما كتبه هؤلاء الرواد أعمالا روائية وفقا للمقاييس النقدية التي حددت بنائية هذا الفن، حيث اتسمت كتاباتهم بالقص الحكائي الفاقد للحبكة الدرامية والمفتقر للبنية الروائية وغلبة اللغة الركيكة – حتى أن بعضهم كتب بالعامية الدارجة – وضعف المخيال الروائي باعتمادهم على استلهام التاريخ والتراث كمادة للحدث الروائي، فضلا عن تأثرهم بالثقافة الغربية وانصياعهم لهيمنتها، فسمّوا شخوص أعمالهم بأسماء أجنبية، وجعلوا من البيئة الغربية مكانا لمجريات أحداثها، ولا غرابة إن عرفنا أن جميع هؤلاء الوارد ذكرهم تأثروا بالثقافة الغربية وأتقنوا لغاتها ونقلوا معارفها، لكن الناقد الدكتور (صلاح فضل 1938) يرى في كتابه (لذة التجريب الروائي)(إن ما ينكره البعض عن الميلاد العسير لهذا الفن في القرن التاسع عشر والاختلاف على البدايات، ما هو إلا الأب الشرعي الحقيقي لهذا الوليد)

يجدر الذكر أن البحوث الأدبية في هذا المجال تغفل أسماء الروائيات النساء الرائدات في الفن الروائي العربي، مثل (اللبنانية زينب فواز 1860-1914) ومواطنتها (لبيبة هاشم 1882-1947) بغض النظر عن مدى انطباق المعايير الروائية على مؤلفاتهما، فلا بد من الاعتراف بتجربتهم الملفتة في تلك الحقبة، والتي لا تقل عناء عما سلكه أترابهما من أدباء المرحلة.

بقيت الرواية أسيرة لهذا النهج الاستنساخي في الكتابة السردية، حتى ظهرت رواية (زينب 1913) للمصري (محمد حسين هيكل1888-1956) فتم الاتفاق على تصنيفها كأول رواية عربية تحمل مواصفات الرواية الأدبية وفقا للمقاييس والأصول المعترف بها نقديا وأدبيا، لكن هذا الجزم لم يرق لفئة من أهل الأدب المشككين بهذه الريادة التي روجت لها الصحافة المصرية وزكاها الباحثون المصريون، لما لمصر من دور بارز في نهضة الأدب العربي، ليطالعنا باحث مصري حيادي الرأي وهو (الدكتور محمد سيد عبد التواب) في كتابه (بواكير الرواية: دراسة في تشكل الرواية العربية) الصادر عام 2007 نافيا أن تكون رواية زينب هي الرواية العربية الأولى، بل إن رواية اللبناني (خليل أفندي الخوري – وي إذا لست بإفرنجي - الصادرة عام 1858) هي الرواية العربية الأولى الحائزة على شروط الرواية وتتفوق على رواية زينب من حيث اللغة والمعمار البنائي الفني لها.

شكلت رواية زينب منعطفا فتح الدرب أمام تدفق الفن الروائي، معلنة صافرة الانطلاق له عربيا – كما فعلت رواية دون كيشوت لسرفانتس حينها- إلا أنه لم يسلم من صولة الخصوم من عتاة الأدب والأسماء الكبيرة المستبدة بالساحة الأدبية في مصر، فإذ بأربعة من هؤلاء العتاة الموسومين بالتجديد والحداثة ينبرون بالسخط والتقريع على هذا المولود الغريب وعلى من يسير في ركبه أكان كاتبا أم قارئا، ويا لهول الخبر إن عرفنا تلك الأسماء، على رأسهم (عباس محمود العقاد (1889-1964 مؤسس مدرسة الديوان، و(أحمد حسن الزيات 1885-1968) مؤسس وصاحب مجلة الرسالة الشهيرة، و(مصطفى صادق الرافعي 1880-1937) الملقب بمعجزة الأدب العربي، و(أحمد زكي أبو شادي 1892-1955) مؤسس جماعة أبولو. نعم هذه الأسماء من رواد عصر النهضة ومنهم من درس في الغرب، وجميعهم نقلوا ترجمات عن لغات أجنبية، وسبق لهم أن اتهموا أسلافهم بالجمود والمحافظة، بلغ بهم الازدراء أن أطلقوا على الروايات اسم (الرومانيات – من كلمة ROMAN الفرنسية وتعني رواية) ناعتينها بالفن الدخيل المليء بالأكاذيب والمتعدي على التراث والأصالة العربية، لكن حربهم كانت خاسرة، ولم يأبه لهم روائيو تلك المرحلة، فأشرعوا مراكبهم إلى مياه السرد الدافئة.

مع رواية (زينب) ظهر الجيل الأول للرواية العربية التي سماها (الدكتور حسام الخطيب 1932) (المحاولات الحائرة للرواية العربية) ومن أبرز أعلامه (إبراهيم المازني ومحمد تيمور وتوفيق الحكيم – مصر) و(ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران – لبنان) و(شكيب الجابري ومعروف الإرناؤط – سوريا) و(محمود أحمد السيد – العراق)، غير أن روايات تلك الحقبة كانت ماتزال تحمل تأثيرات الرواية الغربية، وغلبت عليها الصفة الرومانتيكية والكلاسيكية ومحتكمه لنماذج الرواية الغربية.

تشكل الجيل الثاني للرواية العربية في نهاية الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن العشرين، وبرزت أعلام جديدة على رأسهم (نجيب محفوظ – يوسف إدريس – إحسان عبد القدوس – مصر)، (عبد السلام العجيلي – سلمى الحفار الكزبري – حنا مينا – سوريا)، (سهيل إدريس – وداد سكاكيني – لبنان)، (جبرا إبراهيم جبرا – أميل حبيبي – فلسطين)، (فؤاد التكرلي – غائب طعمة فرمان – العراق)، (كاتب ياسين – مالك حداد – الجزائر)، (محمد العروسي المطوي – محمود المسعدي – تونس)، (الطيب صالح – السودان)، (الطاهر بن جلون – محمد بن التهامي – المغرب) ولا يكاد يخلو قطر عربي من روائي اختط طريقه في هذا الجنس الذي تشكلت ملامحه وأثبت حضوره على الساحة الأدبية العربية، لكن النمط التشكيلي بقي يراوح بين الكلاسيكية والواقعية التقليدية مع ظهور للوجودية التي أخذت مداها في الأدب الغربي.

ثم ظهرت ملامح الجيل الثالث بعد نكسة حزيران، واتخذ كتاب هذا الفن مسلكا جديدا من حيث الرؤية والبناء الفني ومعالجة القضايا الحياتية، فظهرت الواقعية الاشتراكية، وتيار الوعي، ومن الناحية التكنيكية عرفنا الرواية المتعددة الأصوات كحالة اعتراف بالمكافئ الموضوعي للأخر.

ومازالت أجيال الرواية تتالى وصار من الصعب تحديد بداية ونهاية كل جيل، إلا أننا سنلحظ كمّا هائلا من الزخم في الكتابة والنشر في هذا الجنس حتى بلغ عدد الروايات المنشورة (5700 رواية) حتى عام 2010 حسب ما أورده الدكتور (سمر روحي الفيصل) في مؤلفه (الرواية العربية ومصادر دراستها).

القارئ المتابع يدرك مدى التحولات التي طرأت على هذا الجنس عربيا، من جهة طريقة معالجتها للأفكار الحياتية، أو من حيث أسلوبية البناء والمعمار الفني والتطور المعرفي والثقافي الموظف في الكتابات الروائية الحديثة.

وهنا نعود إلى سؤال العنوان، هل استطاعت الرواية العربية التخلص من هيمنة التقليد للرواية العالمية؟ هل استطاعت الابتكار والتجديد بطريقة غير مسبوقة؟ هل تشكلت هويتها العربية الصرفة؟ ... إنها لأسئلة محيرة حقا، فبالرغم من انكباب موضوعاتها على البيئة العربية واشتغالها على بناء الشخصية الروائية العربية، ومعالجتها للأسئلة المقلقة الشاغلة للإنسان العربي، وجلاء اللغة الروائية العربية اللامعة وقدرتها على السموق برفعة هذا الفن، وامتلاكها لعنصري الجذب والتشويق اللازمين لسماتها، إلا أن الأسلوبية البنائية لهذا الفن مازالت مقتادة دون وعي لنهج الرواية العالمية، سيما إن عرفنا أن الحبكات الأدبية العالمية استغلقت على عشر حبكات كحد أعلى وجميعها ابتكار عالمي – ما عدا الحبكات الشعرية – حتى أن النقد المعالج لهذا الفن مازال محتكما لمناهج النقد الأجنبية، ومازال التقييم القيمي مستقى من معايير التقييم العالمي.

 


 

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...