فكرة الحداثة عند محمد أركون

26-03-2009

فكرة الحداثة عند محمد أركون

منذ عدة عقود من الزمن والمفكر الجزائري محمد أركون يحاول أن يقدم رؤية تنويرية للفكر الاسلامي، وذلك من خلال مجموعة من الأبحاث والكتب التي كان أغلبها باللغة الفرنسية.

من بين إنجازات أركون نذكر: 1- الفكر العربي، 2- تاريخية الفكر العربي – الاسلامي، 3- الاسلام أصالة وممارسة، 4- الفكر الاسلامي، قراءة علمية، 5- أين هو الفكر الاسلامي المعاصر؟ 6- قضايا في نقد العقل الديني، 7- الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، وغيرها من المؤلفات، والأبحاث المنشورة في الصحف والدوريات.

في هذا المقال سأنظر في محورين من فكر أركون على ضوء كتاب "الحداثة في فكر محمد أركون" للكاتب والباحث الجزائري فارح مسرحي وهما محور "مفهوم الحداثة". ومحور "النقد للعقل الاسلامي".

ومن المعلوم أن هذين المحورين يحتلان موقعا مهما في المناقشات الفكرية العربية ويبدو أن الخلاف حولهما لا يزال قائما، كما أن كل الجهود الفكرية التي بذلت في الثقافة العربية المعاصرة من أجل غرس أفكار الحداثة في المجتمعات العربية – الاسلامية لم تتكلل بالنجاح ميدانيا، وفضلا عن ذلك هناك ما يمكن دعوته بمقاومة المجتمعات المتخلفة للحداثة لأسباب كثيرة منها سيطرة التقاليد العتيقة والبالية على الذهنيات، وعلى أشكال التنظيم الاجتماعي، والسياسي والإخفاق في إنجاز التنمية المتطورة ماديا ومعنويا. ومن هنا فإنه يمكن لنا أن نبحث في فكر أركون عن المشكلات الكبرى التي تحول دون تبلور الحداثة في مجتمعاتنا منذ استقلالها عن الاستعمار الأوروبي.

ينطلق الكاتب والباحث "فرح مسرحي" في تثمينه للتجربة الفكرية للمفكر أركون من فتح ملف "السياق التاريخي والفلسفي للحداثة". إنه يفعل هذا لأن أركون في جل مؤلفاته مشغول فكريا بمشكلة الحداثة، والبحث عن عناصرها في الفكر الاسلامي، وعن العوائق التي تعوق تنميتها سواء في المستوى الذهني أو في الممارسة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنظيمية.

في مفهوم الحداثة

يلاحظ الكاتب فرح مسرحي أن هناك عدة مستويات لفهم مفهوم الحداثة ومنها خاصة مستوى اللغة، ومستوى الفلسفة. من الناحية اللغوية فإنه يتقصى مفهوم الحداثة في اللغة العربية المشتق من فعل "حدث" الذي يعني وقوع وحصول الشيء، وأن هذا الذي حدث وحصل هو محدث وجديد. وبخصوص اللغة الفرنسية فإن مفهوم الحداثة له جذر لاتيني حيث أن الحديث قد استعمل للتمييز "بين الماضي الروماني الوثني، والحاضر المسيحي الذي لم يكن قد مضى زمن طويل على الاعتراف به رسميا". ويضيف الكاتب مسرحي قائلا: "وقد ازداد استعمال لفظ حديث منذ القرن 10م، في الميدانين الفلسفي والديني، ويكاد يستعمل دوما بمعنى ضمني للدلالة على الانفتاح والحرية الفكرية، أو بمعنى عامي للدلالة على الخفة وحب التغيير لأجل التغيير" حسب ما ذهب إليه مؤلف الموسوعة الفلسفية أندريه لالاند. ومن جهة أخرى يستنتج الباحث فرح مسرحي أن لفظ "حداثة" لم "يأخذ معناه ودلالته إلا في القرن 19م، وقد ارتبط بأعمال شارل بودلير "1821-1861" الذي يعتبره أغلب الدارسين أبا للحداثيين لأنه أول من حاول تقديم صياغة نظرية للحداثة". ومن الناحية الفلسفية فإن مفهوم الحداثة كثير التعقيد، ويختلف عند هذا الفيلسوف وعند ذلك المفكر.

وهنا يستعرض فرح مسرحي عدة تعريفات لعدد من الفلاسفة والدارسين المعاصرين. وهكذا يرى الفرنسي جان بودريار: "ليست الحداثة مفهوما سوسيولوجيا أو سياسيا أو تاريخيا بحصر المعنى، وإنما هي صيغة مميزة للحضارة، تعارض صيغة التقليد، أي أنها تعارض جميع الثقافات السابقة والتقليدية" وهكذا "تفرض الحداثة نفسها وكأنها واحدة متجانسة مشعّة عالميا انطلاقا من الغرب ويتضمن هذا المفهوم إجمالا الإشارة إلى تطور تاريخي بأكمله وإلى تبدل في الذهنية".

وفي الواقع فإن الحداثة حسب تعريف قاموس جامعة إدنبره "مفاهيم مفتاحية في نظرية الأدب" لمؤلفيه جوليان وولفريز، وروث روبنز، وكنينيث ووماك هي الشرط الذي يعكس أنظمة القيمة المتواجدة في أنظمة القيم الفكرية للحداثوية". بمعنى أن الحداثة هي الشرط القاعدي وليست مجرد عملية تحديث. وهنا يميز الكثير من الدارسين بين الحداثة وبين المعاصرة منهم أركون القائل: "إن الحداثة ليست المعاصرة، فقد يعاصرنا أشخاص لا علاقة لهم بنا ولا بالحداثة والعصر. أناس ينتمون عقليا وذهنيا لمرحلة القرون الوسطى، وقد توجد في القرون السابقة شخصيات تمثل الحداثة". ويذكرنا الباحث فرح مسرحي بالمناقشات التي دارت في الفترة الممتدة بين السبعينات والثمانينات من القرن العشرين حول ماهية الحداثة والموقف النقدي منها. ويركز على تيارين أحدهما يمثله الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار الذي انتقد شعارات الحداثة مثل التقدم والحرية والعقل. بالنسبة إلى ليوتار فإن المشروع الغربي للحداثة قد فشل، ولكن التيار الذي يمثله الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يعارض ليوتار وأتباعه بالقول بأن الحداثة مجرد مشروع لم يكتمل ولابد من العمل داخله لاستكماله.

وينتقل الباحث فرح مسرحي إلى سبر السياق التاريخي للحداثة من خلال قراءة الملامح الأساسية لعصر النهضة الأوروبية مركزا على حركتين وهما النزعة الانسانية ونشأة العلوم الطبيعية. كما يقدم بعض ملامح عصر التنوير ومميزاته كظهور المنهج التجريبي، وتأسيس المنهج العقلي. وإلى جانب ذلك فإن الباحث مسرحي يلخص المقومات الفلسفية للحداثة وهي: 1- الذاتية، و2- العقلانية، و3- العدمية. بالنسبة إلى الذاتية فإن الذي حصل في رأيه هو "إنتصار الذات ورؤية ذاتية للعالم، بعدما كان ضباب القرون الوسطى يحجب عنها الرؤية". أي أن الذاتية هنا تعني فكريا وفلسفيا أن الذات "أصبحت تريد التحكم في الطبيعة والكون" في حين تعني العقلانية "فصل العلم عن التصورات الدينية والأيديولوجية والسياسية" و"دراسة الظاهرة السياسية كموضوع مستقل بذاته" و"الانفصال عن ميتافيزيقا التفكير في تدبير شؤون الدولة.." و"الانفصال عن الأيديولوجية الدينية من خلال اعتبار السلطة السياسية اجتماعية قبل كل شيء". وفضلا عن ذلك فإن العقلانية تطال "عقلنة القول التاريخي" و"عقلنة القول الديني"، ويواصل فرح مسرحي قائلا: "من خلال ما سبق نخلص إلى أن الحداثة من وجهة نظر فلسفية تقوم على الرؤية الذاتية للوجود، والنزعة العقلانية في المعرفة، والقول بالعدمية والنسبية في مجال القيم".

ومن ثم يقدم مسحا لمستويات الحداثة وأنماطها مثل المستوى السياسي ونشأة الدولة الديمقراطية العلمانية، والمستوى الاجتماعي، والمستوى الأخلاقي.

بعد ذلك ينتقل الباحث فرح مسرحي إلى استعراض أفكار أركون بخصوص العلاقة مع الحداثة في مجتمعاتنا.

وهنا يوضح أن أركون منتبه إلى ضرورة "التمييز بين الحداثة الحقيقية والحداثة السطحية". إذ هناك فرق بين استيراد عناصر ومنتجات الحداثة المادية وبين الحداثة العقلية. إن استيراد الدول العربية والاسلامية للوسائل التقنية والآلات لا يعني الانخراط في الحداثة إلا من الناحية الشكلية الاستهلاكية؟
أما التغير العميق في البنية الثقافية والفكرية، والسياسية، والبنيات الاجتماعية فلا أثر له في مجتمعاتنا.

وهكذا يرى فرح مسرحي أن "بلوغ نموذج الحداثة الحقيقية في الدول العربية والاسلامية يقتضي امتلاك ثقافة وفكر ومؤسسات حديثة بأتم معنى الكلمة".

أسس نقد أركون للعقل الاسلامي

يتضح جليا من التوطئة التي قدمها الباحث فرح مسرحي أن نقد الدكتور محمد أركون للفكر الاسلامي، ونصوصه التراثية الموضوعة، أو ما يتعلق بالوحي ينطلق منهجيا من توظيف الفكر الحداثي رؤية ومنهجا. إنه لكي نفهم مشكلات العقل الاسلامي، ينبغي أولا أن ندرس التاريخي منه، والواقعي، وكذلك السحري والأسطوري والخرافي للفصل بين العقلاني واللاعقلاني. بمعنى آخر فإن الدكتور أركون يوظف أبرز المستجدات في الفكر الانساني النقدي من علم اجتماع، وألسنيات، وفلسفة، وأنتروبولوجيا، وغيرها من عناصر المنهجية الحديثة للنظر في مشكلات الفكر الاسلامي القديم والحديث والمعاصر. فكيف يقارب الدكتور محمد أركون العقل الاسلامي، والسجل التراثي الاسلامي؟

وما هي آفاق تحديث هذا العقل، وهذا التراث؟ وما هي الشروط الكفيلة بذلك؟ إن هذه هي النقاط التي سأنظر فيها في الحلقة الثانية القادمة على ضوء المناقشة التي يجريها الباحث فرح مسرحي في مؤلفه المخصص للعالم الفكري لأركون.

أزراج عمر

المصدر: العرب أون لاين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...