الفايسبوك والشعر

25-10-2015

الفايسبوك والشعر

شعراء الفايسبوك. هل تصحُّ هذه التسمية، وهل هناك شعراء يتّسمُ شعرهم بخصائص فايسبوكية، لا تنطبق عليها معايير ومقاييس كتابة شعرية أخرى؟ أم أنّ الفايسبوك مُجرّد وسيلة، أو أداة، لإيصال الرسالة النصيّة فحسب؟ وهل بدأت هذه الوسيلة، الأداة، الجديدة بالتأثير على نوعيّة المُنتج وخصائصه، وخاصّة أن الكثير من الكتّاب قد أصدروا مجموعات شعرية، وهم الذين بدأت علاقتهم بالكتابة عبر الفايسبوك، ولم يعيشوا تجربة النشر الورقية من قبل؟ أي هل يجوز اعتماد القانون الاقتصادي الذي يربط جدليّا بين علاقات الانتاج وأدواته، على أن النص الأدبي تجليّاً لعلاقة الانتاج؟ أم أن افتراضاً كهذا الأخير ضرب من الميكانيكيّة التي لا تصحّ في ميدان الشعر ومجاله؟
هذه وغيرها من الأسئلة باتت تهمّ عدداً لا بأس به ممّن يتنكبون الهمّ الشعري، وتستدعي ملاحظاتهم واستقصاءاتهم التي تظهر هنا وهناك. ولم يعد من الترف الثقافي، كما أظن، اعتبارها ظاهرة من الضروري معاينتها، للوقوف على مدى تأثيرها في انتاج واستهلاك النص الشعري الجديد، ولإجلاء الكيفيّات التي تحكم جدل العلاقة بين طرفي هذه الثنائية.
بماذا تفكّر؟ ما الذي يشغلك؟ ما الذي تشعر به؟ أكتب شيئاً. قل شيئا. كن أول من يكتب شيئا على هذه الصفحة.... الخ
قد تبدو مجرّد تعابير، لا قيمة إيحائية لها، تواجه مُستخدم الفايسبوك مع كلّ دخول إلى صفحته. غير أن تتالي ظهورها، إلى أن يصبح اعتياديا، يكون قد فعل المأمول منه، وفرز المُستخدمين وفقا لدرجة التأثر، إلى مُستفزين دائمين من هذا الإملاء، وآخرين يشعرهم بأن آخر يعنيهم ينتظرُ الامتثال، وكأنه من يسأل أو يطلب. وهناك أيضا من لا يرى في هذه العبارات غير أنها تتطابق مع حالات استخدامهم للفايسبوك، دون أن تكون لها صفة الآمرة، إذ ينحصر استخدامهم لهذه الوسيلة في إيصال حالتهم الشعوريّة الآنية، من تفكير، وانشغال، واهتمام. لكنّ جميع المستخدمين، على اختلاف فئاتهم الثقافية، أو العمرية، يشتركون في صفة أنهم جميعا كُتّاب بالمعنى التقني لوسيلة التعبير. وأنّهم قرّاء بالمعنى ذاته لطريقة الاستقبال. الأمر الذي يطرح سؤالا واجباً عن تأثير ذلك على اللغة. هل ستنزاح اللغة، في طريقة استخدامها هذه، إلى المزيد من الشفوية، أي الكتابة حسب اللفظ، وبالتالي إحياء اللهجات العاميّة، أم أن لهجة عاميّة واحدة ستتشكل وتولد من مجموع لهجات المتواصلين؟ وخاصّة أن التواصل يتعدّى المتكلمين بلهجة واحدة. أم أنّ لهجة كهذه ستتخذ في تداولها ما يقترب من فُصحى بدائية تهتمّ بالمفردات والتعبير على حساب القواعد؟ يضاف إلى هذا بأن بعض الأحرف التي تشير إلى أصوات (ههههه... آخ.. آه... واو..) أو الرسوم التي توحي بحالات نفسية ما (الغضب.. التساؤل، الدهشة، البكاء، الفرح..) باتت مفردات شائعة الاستخدام في نصوص التخاطب. وربّما كان همّ تجاوز تلك الأحرف والرسوم إلى مقابلات، أو معادلات لغوية، ليس بذي شأن بالنسبة لأولئك الذين اعتادوا في كلّ وقت على استخدام اللغة بأقل أشكالها انحرافاً وتقشّفاً بلاغيّاً. لكنه سيغدو كذلك، إن لم يكن قد غدا، بالنسبة لأولئك الذين يجنحون في طرائق تعبيرهم إلى الإخراج اللغوي لما في دواخلهم، وليس إلى البحث عن مقاربة لغوية له، من باب الإيفاء بالغرض، وبالتالي سيجد هؤلاء أنفسهم، وربّما قد وجدوها، أمام لحظة مركّبة هي لحظة الانتاج والاستهلاك دون أية مستويات أو مراحل من التوسُّط. فالمُنتج يُستهلك لحظة إنتاجه، ويكون أيضاً عُرضةً لحكم القيمة الفوري فيما يتعلق بالجودة، الذي يحدّده المتلقي بطريقة تلقيه، وبردود أفعاله التي ينتجها ويثيرها هذا التلقي.
سوق الاقتصاد الأدبي
أين الشعراء من هذا الاستخدام الذي يضعهم في مناخ وبيئة تجربة لم يختبروهما من قبل؟ انه السؤال الذي أجد في محاولة الإجابة عليه مهمّة نقديّة ليست مجّانيّة أبداً، بل تواجه ما أراه حقيقة تخصّ سوق الاقتصاد الأدبي حيث أدوات الانتاج تغيّر من علاقات الإنتاج التي بدورها تغيّر من الأدوات، ومن الدورة الاقتصادية للسلعة، التي تتضمّن عمليتي التسويق والاستهلاك.
شخصي جداً
هذا الأمر يقودنا إلى سؤال الشعر مباشرة عن مدى قابليّته للتحوّل إلى حديث شخصي جداً، ومباشر جدّاً، دون أن يكون مُهدّداً بجوهره الذي يميّزه عن كلّ أشكال الكتابة الأخرى. أم أنه في هذه الحالة يُعيد الاعتبار لجوهره الذي تنازعته مدارس واتجاهات وحركات لا أدبيّة المنبت أو المآل. إذ لأوّل مرّة يجد الشعر نفسه أمام قرّائه في اللحظة التي يولد فيها كتجربة شعورية مُتخفّفاً من كلّ مهمّة غير العيش، وغير عابئ بالدعوات التي لطالما ضغطت عليه للتكيّف مع الخصائص التي تجعل منه وسيلة لاستدراج واستحضار مشاعر وأحاسيس يقتضيها ما هو غير أدبي، وخصوصا غير شعري. حيث ما من أدوار منوطةٍ بالشعر غير شعريّته، فيأخذ آلية النبضة عند إرساله، ويؤكد عبر توتره وتواتره بأنه يقظ لإشارات مُستقبِلِه وانفعالاته التي تأتي في الغالب كتعليقات تتدرّج بين سذاجة تستدعيها الدهشة وملاحظة نقديّة فيها الكثير من الحرفيّة، إذا استثنينا المواقف التي تشي باعتبار النص رسالة شخصيّة إلى أحدهم دون غيره. وهكذا نجد أغلب النصوص قصيرة خاطفة وشديدة الكثافة، وأحياناً ينبني على مُفارقة أو موقف يكمن إدهاشه في فرادته وندرته. وهو في حالاته كلها لا ينسى خصوصيّته التي تنطوي على رغبة جامحة على العموميّة والشيوع، وكأنه بهذه الطريقة، أو بهذا الشكل من الوجود يتجاوز (رؤية المزيد، أو متابعة القراءة..) التي يتجاوزها مستخدمو الفايسبوك وقلّما يضغطون عليها. انه نص يوجد بنيّة مبيّتة لاصطياد انتباه الآخر المعني بالوصول إليه. وهناك دوماً ما يمكن تسميته بالبناء المُركّب للنص، إذ يقوم على مجموعات رمزية تخصّ مُتلقيّاً بعينه، دون تخليها عن التمتع بأكبر قدر من المُشترك البلاغي الذي يجعلها عامّة بقدر خصوصيتها. وهذا ما لا تستطيع اللغة أن تنجزه وتحتويه إلا حينما يكون النص حالة تجربة، وليس تصوّراً وصفاً. وهذا ما أراهُ مُنعَطفاً قد بدأت مجموعة لا بأس بها من النصوص الفايسبوكية بتجاوزه إلى مساحات جديدة من البلاغة المُضافة. وهذا لا يشمل أبداً كل النصوص التي تملأ الحيطان والجدران الفايسبوكية، وإلا لسلّمنا بحدوث ظاهرة موصوفة، ومعرّفة، تمتلك مُبرّر وجودها في ذاتها، عبر حدود وتمايزات أوجدتها لنفسها، وجعلت منها علامة فارقة مميّزة.
أخيراً لا يسعني غير القول بأن ما سبق لم يكن في منأى عن الارتباك الذي لموضوعه، إذ انها محاولة لقراءة متحوّل في لحظة جريانه وتشكّله، وأولى غاياتها الاستقصاء، وتلمّس ما قد يكون سِماتاً لجديد، قد تحرّض على المزيد من التقصي والبحث، وليس أبدا السعي إلى ترسيم وإحاطة، إذ ما من متحوّل يخضعُ لتحديد.

 

ياسر اسكيف: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...