أنسي الحاج: لا أفهم

25-08-2007

أنسي الحاج: لا أفهم

ترياق الشر
كثيرون، في المعاهد ومن المنابر، يحضّون الأدباء، ولا سيما منهم الناشئة، على انتهاج سبيل الأدب «الإيجابي»، ويقصدون أدب الإخاء والبناء والمحبة.
الأرجح أن المشجعين هؤلاء لا يطالعون منشورات الغزل والحنان والصَّبابة. لو فعلوا لتملّكتهم نوبة من الغثيان قد لا ينقذهم منها إلّا الاعتصام بكتابات الشرّ.
على أن كتابة الشرّ، وسائر الرذائل، تتطلّب الحرية، ممّا لا يتوافر في مكشوف عقلنا العربي على النحو «المنحرف» الذي نشير اليه. إنني أشعر بالتعاطف التام مع مئات الألوف من العرب الذين لا يستطيعون الهرب والتنفيس بلغة «أجنبية».
رغم محبتي للصديقات والأصدقاء الفخورين بالعربية وبالقومية العربية.

-----------

«لا أفهم»
يتعرف عليّ قارئ جديد وغالباً يقول لي: لا أفهم ما تكتب.
في الماضي كان مثل هذا الموقف يستفزّ عدوانيّتي فازداد انغلاقاً. ولي في صحف أواخر الخمسينات وفي الستينات، خصوصاً، مقالات من الظلم لأية جريدة أن تتحمل نشرَها. كنت أخاطب نفسي.
اليوم باتت معرفتي بأن قارئاً ما لا يفهمني، تصيبني بالخجل وتشلّني. الانتقال من الأدغال إلى المدينة.
كنت ألكُمُ بلا وعي. اللغة كانت لغة البال لا لسان المجتمع.
في ظروف كتلك، نخترع لغتنا. نضطر إلى اكتشاف الكلمات. ننبثق مثل كبش ينطح الأرض ويخرج منها ويُخرجها من أحشائها، مانحاً إياها أحياناً الخصب في لحظة تخريبها.
لا أستطيع أن أكون أوضح، هذا هو حدّي الأقصى. أَظلمُ من يحسبني سأحلّل الأخبار وأعلّق عليها، هذه مهمة أصعب من قدرتي. كنت ولا أزال كبير الإعجاب أمام الصحافيين الذين يَطْلَعون على القارئ يومياً بزاد تحليلي أو موقف سياسي متميز مثل ميشال أبو جودة وجوزف سماحة. تدهشني هذه الطاقة على الغزارة والبساطة والإحاطة. لولا هذا الجنس من الصحافيين، ولولا نقيضهم أيضاً من أصحاب «الأعمدة» الحامضة أو الكاسرة، لما بقي في الجريدة ما يُقرأ، فقد ألغاها التلفزيون. إنهم الأشرعة الأخيرة.
أما نحن كتّاب المواسم، ولا سيما الأدباء، فهامشيون. فينا العديد من صفات الطفيليات، وأفدح ما فينا أمراض «الأنا». وأكثر ما يخيفنا في صحافيي التحليل والتعليق ويُعقّدنا، هو احتجاب «الأنا» رغم وَفرة المغريات، وأحياناً رغم وجوب وجود الأنا.

------------------

بياض، فراغ
يستلفت مقال لحسين بن حمزة في «الأخبار» عن مجموعة «يأتي الليل ويأخذني» للشاعر الإمارتي أحمد راشد ثاني. ذائقة رفيعة تدل على شاعر جديد، له أربع مجموعات سابقة، غير أنه جديد على القارئ اللبناني وأنا منه.
قصائد غنيّة بصور التلاقي بين العقل الباطن وذكاء التعبير. الحلم يرفّ على اللغة واللغة تراقصه غاوية مغوية. هينمات وعنف. (بعض الأخطاء، غير واضح إن كانت لغوية أم مطبعية). من المجموعات التي يُحسن صاحبها في مواضع عديدة التصرّف بنظام السطر، علماً أنّ ثمة مقاطع لو شُكّلت متلاحقة بلا تشطير لجاءت أفضل.
تنطبق هذه الملاحظة على معظم المجموعات الشعرية الجديدة، حيث التشطير فوضوي وغالباً نوع من تدليل الذات في الظرف غير المناسب. قَصْر السطر على كلمة واحدة أو اثنتين لا يعني أن هذه الكلمة صارت خطيرة إلى حدّ أن الفراغ وراءها سوف يضجّ بأصدائها. هذا في الغالب تَوهُّم نقع فيه نحن الكتّاب، وقد ينطلي على بعض القرّاء قبل أن تنفّرهم المبالغة. الإفراط في البياض، والأصح البخل بالكلام حتى الشحّ، يجوّف التعبير ويملأ الصفحات بالخيبة. إذا كان القصد الإيحاء بإيقاع فإلايقاع إنما ينبع من «الحالة الشعرية» السابقة والمرافقة للكتابة نبوعاً تلقائياً ولا يُصنَع بإلغاء التعبير إلغاءً شبه
كلّي.
لا بأس بـ«البيت» في النثر. كلّنا نمارسه إما لأننا لم نتخلّص من ذاكرة العَروض وإما لتأثرنا بالشعر المترجم أو لأي سبب آخر. ولكنْ لنحاول ما أمكن أن نجعل البيت المنثور ذا نفَس وليس مخطوف النَّفَس دائماً. وإلى جانب «البيت»، قصيدة النثر المتلاحقة الجمل كالقصة أو المقال بلا تشطير «بيتي»، يجب أن لا تغيب. إنما سُمّيت قصيدة النثر على اسمها أولاً. لنعد إلى قصائد بودلير النثرية وإلى رمبو ولوتريامون، وقريباً منّا إلى رونيه شار وهنري ميشو. البياض بياض لا فراغ. إنه أفُقٌ أو صُعَداء. فلا نعهد إليه بأدوار هي من مسؤوليتنا. يستطيع البياض (وكل المسافات الحرّة) أن يحمل الكثير شرط أن نقوم قبله بما يجعله نافذة تنفتح بعد تلبّد الجوّ.
البياض دوائر الكلمات وليس هو الكلمات، وليس هو خصوصاً خيالنا البديل ولا الخيال الذي نريد أن نجعله في القارئ بديلاً من «قيامنا بواجباتنا». البياض تموّجات، تموّجات قد تكون أبلغ من البحر، لكنها تحصل «بعد» البحر.
إشارة: هذه الملاحظة، كما يعرف من يعرف، تنطبق أيضاً على العديد من قصائد كاتب هذه السطور.

--------------

ظنَّ، ظنّتْ
أَحبَّتْهُ لأنه عرف قيمتها فظنّ أنها أحبّته لأنها عرفت قيمته.
أَحبّها لأنها عرفت قيمته فظنت أنه أحبَّها لأنه عرف قيمتها.
كلٌّ يبحث لا عن ظلّه الضائع بل عن أصله.
الأصل ضائع ونبتغيه في المرآة.
والمرآة تحسب ذاتها، في وحدتها الأصقع من أية وحدة، هي الأصل!

أنسي الحاج

المصدر: الأخبار

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...