الشرق أمام مرآة الغرب في حوار متخيّل بين سقراط وكونفوشيوس

31-05-2010

الشرق أمام مرآة الغرب في حوار متخيّل بين سقراط وكونفوشيوس

قبل أن نأتي إلى محتوى الحوار المتخيل بين سقراط وكونفوشيوس، الأول كقطب للفكر والفلسفة في الغرب، والثاني لهما في الشرق وتحديدا الصين القديمة، علينا أن نعرّف بمؤلفه، أعني بذلك الفرنسي فينيلون "FENELON" الذي كان أحد أبرز رموز النهضة الأوروبية، خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر، وبداية القرن الثامن عشر.الشرق أمام مرآة الغرب في حوار متخيّل بين سقراط وكونفوشيوس

وكان فرانسوا دو سالينياك دولاموت فينيلون المولود عام 1651 والمتوفى عام 1715 في قلب المعارك الدينية والسياسية التي نشأت في عصره. وكان اسقفا ومربيا قديرا اذ كلّف بتربية دوق بورغوني "BOURGOGNE" حفيد الملك لويس الرابع عشر فكتب له حكايات عجيبة وكتابا حمل عنوان: "مغامرات تيليماك" الذي أغضب الملك وحاشيته بحجة أنه تضمن نقدا مبطنا للحكم الملكي المطلق. كما أنه طالب بضرورة تعليم الفتيات.

وبعد تعيينه عضوا في الاكاديمية الفرنسية وذلك عام 1693، شارك في كل المعارك الفكرية والأدبية التي عرفتها فرنسا في زمنه وألف حول ذلك كتابا حمل عنوان: "رسالة حول مشاغل الأكاديمية". ويقول المؤرخون إن فينيلون كان يحرص على الجمع بين التأمل الديني على غرار الزهاد، والفكر السياسي والفعل التربوي والبيداغوجي.

لذا كانت جل مواقفه تغيظ رجال الدين ورجال السياسة ورجال الفكر والأدب. وفي الرسالة التي وجّهها إلى الملك الرابع عشر والتي وزّعت سرا في أغلب مناطق المملكة الفرنسية، انتقد مظاهر الاستبداد والتسلط والثراء الفاحش الذي تتميز به الطبقة الارستقراطية، والضرائب التي تثقل كاهل الشعب وتحرمه من متعة الحياة، والحروب التي تهدف إلى غزو البلدان الأخرى، مطالبا بالعودة إلى الفضائل البدائية القديمة التي تتميز ببساطة العيش، وبالمساواة بين الناس.

وقد ورد الحوار المتخيل بين سقراط وكونفوشيوس في كتاب فينيلون "محاورات الأموات" وهو كتاب ضمنه الكثير من آرائه وأفكاره في مجالات متعددة.

ومعلوم أن سقراط الملقب بـ"أب الفلسفة" "470 ق.م – 399 ق.م" لم يكتب ولو جملة واحدة. غير أن أقواله وأفكاره التي كان يطلقها في الشارع، أمام طلبته ومريديه، شكلت رؤيته الفلسفية للعديد من القضايا المتصلة بالانسان والوجود، وبالموت والحياة، وبالشر والخير.

وقد كتب عنه نيتشه يقول: "كان "أي سقراط" أول من تفلسف حول الحياة، وجميع المدارس التي انبثقت عنه هي أولا فلسفات للحياة. حياة يسيّرها الفكر. الفكر يخدم الحياة بينما كانت الحياة لدى جميع الفلاسفة السابقين تخدم الفكر والمعرفة.

الحياة النزيهة هي الهدف لدى سقراط، أما لدى الآخرين فالهدف درجة رفيعة من المعرفة الصحيحة. وعلى هذا النحو، فان الفلسفة السقراطية عملية بصورة مطلقة. انها تناصب العداء لكل معرفة لا تقترن بأفاعيل خلقية". أما شيشرون فقد كتب عن سقراط يقول: "لقد أنزل "أي سقراط" الفلسفة من السماء إلى الأرض، وأدخلها إلى البيوت والأسواق".

ولأنه حارب الدجل والسفسطة والنفاق فإن سقراط بات مكروها في اثينا. وفي النهاية حكم عليه أعداؤه بالموت بتهمة الحط من قيمة التقاليد وتوقير آلهة أخرى غير آلهة المدينة، وافساد الشبيبة. لذلك اعتبره هيغل "بطلا من أبطال الانسانية" و"فيلسوفا حقيقيا عاش فلسفته بدلا من أن يكتبها".

وأما كونفوشيوس الذي يعني اسمه "المبجّل المعلم كونغ" الذي ولد عام 551 ق.م وتوفي عام 479 ق.م، فانه ينتمي إلى عائلة نبيلة اشتهر أفرادها بالبسالة والشجاعة.

ويقال إن أحد أجداده الأولين رفع بمفرده الجسر المتحرك لقلعة معادية فأتاح بذلك لرجاله الانسحاب قبل أن يقتلوا عن آخرهم. وكان كونفوشيوس لا يزال في الثالثة عشرة من عمره لما توفي والده فتكفلت أمه بتربيته.

ورغم الفقر الذي اضطره إلى أن يكون حارسا لقطعان الماشية، فانه تمكن من الحصول على شيء من التعليم. وبجهده الخاص تعمق في الدراسة الشيء الذي سيجعله أكبر المعلمين الأخلاقيين في عصره. وبين سن الثلاثين والخمسين وبعد أن درس جيدا التاريخ الصيني، والعادات والتقاليد الصينية.

اهتم كونفوشيوس بالتعليم. ومن خلال ذلك نشر أفكاره وتعاليمه. وعندما تجاوز سن الخمسين، عيّن على رأس ولاية مدينة "تشونغ – تون" فأحسن ادارتها، بل "فعل فيها العجائب" بحسب تعبير أحد المؤرخين.

وقد ترك كونفوشيوس الكثير من المؤلفات أهمها تلك التي تعرف بـ: "سسوشو" "أي الكتب الاربعة" وفيها وضع عصارة فكره، وتجاربه في الحياة وفي السياسة والادارة. وقد كتب م.غارنييه بشأن كونفوشيوس يقول: "غالبا ما شبه كونفوشيوس بسقراط فمجده، وان لم يكن فوريا بالدرجة الأولى، لم يكن أقل ديمومة وحظوته لدى تلاميذه لم تكن أقل شأنا.

ولكن إذا كان ثمة بعض الشبه في الروح بين التعليمين اللذين أعطاهما هذان الحكيمان فليس ثمة من سبيل ممكن إلى المقارنة بينهما فيما يتصل بالمردود.

فقد تعرف الصينيون بكونفوشيوس "معلما لعشرة آلاف جيل"، وإنما بعد أن جعلوا منه صاحب أخلاق امتثالية. وهم يرون فيه النموذج الأكثر كمالا للحكمة القومية، ولا أحد يعزو اليه فضل فكر أصيل. وما حاول كونفوشيوس وأتباعه تأسيسه لم يكن علما مجردا في الانسان، وانما فن للحياة يشمل علم النفس والأخلاق والسياسة.

وهذا الفن يولد من التجربة، ومن الملاحظات التي توحى بها إلى من يعرف كيف يتأمل ويتبصر حياة المعاشرة والتي تنضاف إليها المعرفة المتوارثة عن الأقدمين".
يبدأ الحوار الذي تخيّله فينيلون على الشكل التالي:

كونفوشيوس: علمت أنكم أنتم الاوروبيون تأتون أحيانا عندنا نحن أهل الشرق وأنكم تسمونني "سقراط الصين". وأنا أتشرف بهذا اللقب.

سقراط: لندع المجاملات جانبا في بلد لم يعد لها فيه مكان. على أي أساس تقيم هذا التشابه بيني وبينك؟

كونفوشيوس: على أساس أننا عشنا تقريبا في نفس الأزمنة، وأن كل واحد منا كان فقيرا، معتدلا وشديد الحماس لجعل الناس صالحين، فاضلين.

سقراط: بالنسبة لي، أنا لم أكن أبدا، مثلك. أنت رجل رائع لكي أذهب إلى كل الأقاليم والمحافظات زارعا الفضيلة، محاربا الفساد والشر ومعلما الناس.

كونفوشيوس: لقد كوّنت مدرسة من الفلاسفة الذين أناروا العالم كثيرا

سقراط: ان فكري لم يهدف أبدا إلى جعل الشعب فيلسوفا، وأبدا لم أتجرأ على أن آمل في ذلك. ولقد أهملت السوقيّ الفظ والخشن والفاسد لكل الأخطاء، واقتصرت على تعليم عدد قليل من المريدين ذوي الفكر الثاقب، والذين كانوا يبحثون عن مبادئ الأخلاق الفاضلة. وأنا لم أرغب البتة في كتابة أي شيء إذ أني وجدت أن الكلمة الشفوية الوسيلة الأفضل للتعليم.

ان الكتاب شيء ميت لا يستجيب مطلقا للصعوبات غير المتوقعة والمختلفة لكل قارئ. الكتاب يمر بين أيدي الناس وهم عاجزون عن أن يجعلوا منه وسيلة ناجعة ومفيدة. وقد فضلت أكثر اختيار بعض الناس، وأتعهد إليهم بنظرية أوضحها إليهم بصوت عال".

وعندما يقول كونفوشيوس بأنه "كان سعيدا بين الصينيين" لأنه تركهم ومعهم قوانين حكيمة، ونظم صارمة يردّ عليه سقراط قائلا: "أنا أصرّ على الاعتقاد بأن الشعب كله ليس قادرا أبدا على العودة إلى المبادئ الحقيقية للحكمة الحقيقية.

بامكانه أن يحتفظ لنفسه ببعض القواعد المفيدة والحميدة، غير أن هذا لا يتم إلا عبر سلطة التعليم والتربية، واحترام القوانين وحب الوطن، والتنافس مع الآخرين وصلابة التقاليد وأحيانا يتم ذلك عبر الخوف من ضياع الشرف، والأمل في الحصول على مكافأة.

لكن أن يكون الانسان فيلسوفا يساير الجميل والخير في نفسه من خلال الاقناع ومن خلال الحب الحقيقي والحر للجميل والخير فإن هذا لا يمكن أن يوزّع على الشعب برمته ذلك أنه مخصّص لبعض المختارين الذين أرادت السماء فصلهم عن الآخرين.الشعب ليس قادرا على بعض الفضائل في العادات وفي الآراء، معتمدا في ذلك على سلطة الذين حظيوا بثقته".

ويضيف سقراط بأن كل الذين كتبوا عن الصين من الأوروبيين أجمعوا على أن الشعب الأكثر تعلقا بالخرافات والأشد زهوا واعتدادا بنفسه، والأكثر ظلما وكذبا، هو الشعب الصيني.

وعندما يعلق كونفوشيوس على كلامه هذا قائلا بان الكذابين والظالمين والمزهوين بأنفسهم موجودون في كل مكان من العالم، يرد سقراط قائلا: "الصينيون من خلال الصورة التي استنتجتها من كلام الآخرين يبدون لي شبيهين إلى حد ما بالمصريين.

انهم شعب هادئ ولطيف في بلد جميل وغني. وهم شعب مزهو بنفسه يحتقر كل شعوب العالم الأخرى. وشعب متعلق بالعصور القديمة الخارقة، ويضع مجده في عدد القرون التي ظل فيها هذا المجد قائم الذات. وهم الشعب الأكثر انشدادا إلى الخرافات الأشد تفاهة وحقارة، رغم أدبه ولطفه.

هم الشعب الذي وضع كل حكمته في الاحتفاظ بقوانينه من دون أن يميّز ماهو جيد فيها. وهم شعب وقور، غامض، خليط، وملاحظ صارم لكل العادات القديمة بالنسبة للخارج من دون أن يبحث فيها عن العدالة، والنزاهة وكل الفضائل الداخلية الأخرى.

وهم شعب بالغ كثيرا في تقدير أشياء هي في الحقيقة سطحية، ويكفي تفسير بسيط لها لكي تفقد أهميتها. وعند هذا الشعب الفنون سيئة، والعلوم لا تمتلك أي أساس صلب عندما شرع الأوروبيون في معرفتها".

ومدافعا عن الصينيين، يردّ كونفوشيوس على سقراط قائلا: "ألم نمتلك الطباعة، والبارود، والرياضيات الهندسية، وفنون الرسم والهندسة المعمارية، وفن صناعة الخزف.

وأخيرا الم نمتلك طريقة للقراءة والكتابة أفضل بكثير من طريقة الغربيين؟ وبالنسبة للعهود القديمة لتاريخنا، إنها مستقرة بسبب ملاحظتنا في علم الفلك.
انتم الغربيون تزعمون أن حساباتنا خاطئة، غير أن الملاحظات ليست مشككا فيها بالنسبة لهم، وهم يعترفون بأنها منسجمة مع ثورات السماء".

وداحضا حجج كونفوشيوس التي دافع فيها عن فضائل الصينيين، ردّ سقراط قائلا: "الطباعة ليست الا وسيلة خاصة بأهل الأدب، وهي لا تستحق مجدا كبيرا "..".

أهل اثينا لم تكن لهم طباعة في الزمن الذي عشت فيه مع ذلك ازدهرت عندهم الفنون الجميلة والعلوم. وبالعكس كان الغربيون الذين استعملوا الطباعة أفضل من الصينيين، أناسا خشنين، جهلة وقساة وبرابرة.

وأما البارود فهو اكتشاف سيء لمحق الانسانية، وهو مضرّ بكل الناس ولا ينفع أي شعب في العالم في شيء ".." ولو اتفقت كل الشعوب من هذا الجانب وذاك على التخلي عن الأسلحة النارية، فانه سيتم التخلص من أشياء كثيرة لا معنى لها، ولا علاقة لها بالواقع".

حسونة المصباحي

المصدر: العرب أون لاين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...