هل قرّرت إسرائيل قصف إيران فعلاً؟

18-03-2023

هل قرّرت إسرائيل قصف إيران فعلاً؟

حسن صعب:


شكّل حادث استهداف 3 طائرات مسيّرة منشأة عسكرية تابعة لمجمع الصناعات الدفاعية في أصفهان، في نهاية شهر كانون الثاني/يناير الماضي، تطوّراً غير مسبوق في إطار ما سمّي “حرب الظل” أو “الحرب الخفيّة” بين “إسرائيل” وإيران، والتي بدأت منذ فترة طويلة.

في السنوات الماضية، تعرّضت إيران لاعتداءات وهجمات متنوعة، عسكرية وأمنية واستخبارية وسيبرانية، وقفت “إسرائيل” وراء معظمها، بحسب مصادر إيرانية وغربية وإسرائيلية، وتسبّبت بخسائر “معتبرة”، فضلاً عن الطابع الدعائي والسياسي لهذه الهجمات.

وقد أثارت الهجمة الإسرائيلية الأخيرة على المنشأة العسكرية في أصفهان مخاوف دولية وإقليمية من تطوّر هذه الحرب الخفيّة إلى حرب مباشرة، تبدأ بقصف إسرائيلي (مفترض) لمنشآت إيران النووية (نطنز وأصفهان وبوشهر وأراك وفوردو وغيرها)، وخصوصاً مع وجود حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة التي تعاني أزمة داخلية خطرة، فهل تُقدِم “إسرائيل” على خطوة جنونية كهذه بعد طول تردّد وتخوّف وحسابات دقيقة، أم أن عوامل كبح أي جموح إسرائيلي عدواني لا تزال على حالها، كما كانت طيلة السنوات الماضية، بل ربما زاد تأثيرها أخيراً؟!

لماذا صعّدت “إسرائيل” تهديداتها لإيران؟

لا شك في أن “إسرائيل” تواجه منذ عقود مأزقاً كبيراً في تعاملها السياسي والميداني مع إيران، التي شكّلت منذ العام 1979 تحدياً خطراً، وربما وجودياً، للكيان الإسرائيلي، الذي بات يستنجد بما يسمّى “العالم الحر”، وهو الذي كان قد اعتاد “معالجة” التهديدات بنفسه، ولو في ظل حماية أميركية كاملة.

لكنَّ “إسرائيل” لم تستطع تنفيذ تهديداتها بقصف المنشآت النووية الإيرانية، وهي التهديدات التي لم تتوقف منذ بداية القرن الحالي، بسبب خوفها من الردود الإيرانية، المباشرة وغير المباشرة، على أي قصف إسرائيلي شامل أو محدود، كما من التداعيات المحتملة على مستوى المنطقة عموماً، والتي لا تضمن “إسرائيل” أنها ستكون قادرة على استيعابها أو حتى منعها، كما فعلت سابقاً بعد قصفها محطات أو مراكز أبحاث في العراق وسوريا (في العامين 1981 و2007)، بزعم أنها منشآت “عسكرية الطابع، وتهدف إلى صنع قنابل نووية”!

أما التصعيد الإسرائيلي الكلامي الأخير حيال إيران، والتهديدات العلنية التي أطلقها رئيس وزراء الكيان بأنه سيزيل أي خطر يهدّد كيانه من إيران، وسيمنعها من تطوير سلاح نووي مهما كلّف الأمر، فيعود أساساً إلى التقارير الأميركية التي لم تنفها الوكالة الدولية للطاقة الذريّة حول اكتشاف ذرّات يورانيوم مخصّبة في منشأة فوردو بنسبة 83.7%، وهي قريبة جداً إلى النسبة اللازمة لصنع قنبلة نووية، أي 90% أو 95%، لكن إيران نفت هذا التوجه مراراً وتكراراً، مع إلماحها إلى احتمال رفع نسبة التخصيب في أجهزة الطرد المركزي داخل منشآتها النووية إلى 60% فقط.

ويمكن التوقف في هذا السياق أيضاً عند القلق الإسرائيلي الجديّ من احتمال تسليم روسيا طائرات “سوخوي- 35” الحديثة ومنظومة الدفاع الجوي المتطورة “أس 400” لإيران في وقت قريب، كما ادّعت تقارير أميركية، وبما يشكّل عائقاً جدياً أمام أي هجمات إسرائيلية محتملة ضد المنشآت الإيرانية النووية.

أما الأسباب الأخرى للهستيريا الإسرائيلية حيال إيران، فتشمل تعاظم المأزق الداخلي لحكومة الكيان، بسبب التعديلات القضائية، بموازاة تصاعد فعاليات المقاومة الفلسطينية، العسكرية والمدنية، التي كشفت عجزاً أو قصوراً فاضحاً لدى قوات الاحتلال عن مواجهتها.
مواقف إدارة بايدن من التهديدات الإسرائيلية لإيران

سعت الإدارة الأميركية الحالية لإظهار اختلافها الملتبس مع حكومة الكيان الإسرائيلي، ومع رئيسها نتنياهو تحديداً، إزاء استخدام القوّة العسكرية لتدمير منشآت إيران النووية، بعد تقدّمها “الخطر” في عمليات تخصيب اليورانيوم، كما أُشيع أخيراً، وكأنّ “إسرائيل” تستطيع اتخاذ قرار إستراتيجي ومكلِف كهذا من تلقاء نفسها، ومن دون مظلّة أميركية كاملة، فقد أبدت إدارة بايدن توجّسها المبطّن من نيات نتنياهو لتصدير أزماته المستعصية إلى الخارج، عبر شنّ حرب أو الدفع باتجاه عملية عسكرية كبيرة في المنطقة، عبر الدعوات المتكررة للتصدي للبرنامج النووي الإيراني.

هذه الإشارة كانت عندما سُئلت الخارجية الأميركية عما تسرّب عن زيارة اثنين من المسؤولين الإسرائيليين لواشنطن “للتباحث مع الإدارة بشأن النووي الإيراني”. المتحدث الرسمي نيد برايس لم يؤكد ولم ينفِ، واعداً بالكشف عن الموضوع “في الأيام القليلة المقبلة”، لكنه سارع إلى التذكير بتمسك الإدارة بـ”الخيار الدبلوماسي” في هذا الملف، على اعتبار أنه السبيل “الوحيد لضمان حل دائم وقادر على الاستمرار”، ولكونه “الأكثر فعالية” من غيره.

في المقابل، وفي دلالة على السياسة الأميركية الملتوية بخصوص ملف إيران النووي، كان السفير الأميركي لدى “إسرائيل” توم نايدس، قد قال قبل أيام، في مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية – الأميركية الكبرى المنعقد في القدس المحتلة، إنّ “بإمكان إسرائيل، بل يجب عليها، أن تفعل ما يجب القيام به تجاه إيران”، مضيفاً أنّ “واشنطن تدعمها” في ذلك.

وتابع السفير الأميركي: “كما قال الرئيس جو بايدن، لن نجلس هنا ونراقب إيران وهي تحصل على سلاح نووي. جميع الخيارات مطروحة على الطاولة”، مشدداً على أنّ “تهديد إيران النووي ليس لإسرائيل فحسب، بل للشرق الأوسط وأميركا أيضاً”، لافتاً إلى أنّ “التعاون بين إسرائيل والولايات المتحدة في مواجهة إيران يحدث كل يوم”.

وكان السفير نيدس قد أعلن في أيلول/سبتمبر من العام الماضي، أن البيت الأبيض أكّد لـ”إسرائيل” أن واشنطن لن تسعى أبداً إلى منع “تل أبيب” من حماية نفسها ضد التهديد الإيراني.

على المستوى الميداني، وفي الإطار التهويلي أيضاً حيال إيران، كان “جيش” الاحتلال ونظيره الأميركي قد أجرى في كانون الثاني/يناير الماضي مناورة عسكرية كبيرة وصِفت بأنها “الأهم” لاختبار الجاهزية وتعزيز التنسيق بينهما، في إطار الاستعدادات لهجوم محتمل ضد منشآت إيرانية.

وقال “الجيش” الإسرائيلي في بيان: إن “مناورة “سنديان البازلت” مع القيادة المركزية للجيش الأميركي ستختبر مدى الجاهزية المشتركة، وستعزّز العلاقات العملياتية بين الجيشين”.

من جانبها، قالت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية إن 6400 جندي أميركي سيشاركون في المناورة، إضافة إلى 142 طائرة، بينها قاذفات يمكنها حمل أسلحة نووية ستشارك في المناورة التي ستدرّب على نموذج هجوم في إيران.

وتابعت: “ستتدرّب القوات على سيناريو للهجوم في إيران يتضمّن اختراق أراضي دولة معادية، والتغلب على أنظمة الدفاع الجوي المتقدمة، وتدمير الأهداف المحمية تحت الأرض”. وستكون هذه هي المرّة الثالثة منذ العام الماضي التي تُجري فيها القوات الجوية لكلا الجيشين تدريبات تحاكي الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، وفق الصحيفة، إلا أن الكلمة الفصل في هذه المسألة كانت، كما يبدو، لوزير الدفاع الأميركي الذي زار كيان الاحتلال أخيراً، إذ أكّد أنّ واشنطن قلقة من عنف المستوطنين ضدّ الفلسطينيّين، محذّراً من أعمال قد تزيد رقعة انعدام الأمن.

وفيما أكّد نظيره الإسرائيلي يوآف غلانت أنّ “إسرائيل” تصر على “اتّخاذ جميع الإجراءات اللازمة لمنع إيران من الحصول على أسلحة نوويّة”، ذكّر أوستن بموقف إدارة بايدن بأنّ “الدبلوماسيّة هي أفضل طريقة لمنع إيران من ذلك”، لكنه عبّر في الوقت نفسه عن قلق بلاده إزاء تقدم إيران في تخصيب اليورانيوم، مضيفاً أن “التهديد النووي الإيراني يتطلب منّا الاستعداد لكلّ مسارات العمل”.
هل تهاجم “إسرائيل” إيران فعلاً؟

طيلة السنوات الماضية، وخلال وجوده على رأس حكومة الكيان الإسرائيلي، لم يكلّ نتنياهو ولم يملّ من توجيه الاتهامات الزائفة إلى إيران، والتهديد بأنه سيوجّه ضربات مدمّرة إليها إذا ما واصلت برنامجها النووي العسكري، وقبل أن تتمكن من صنع قنبلة نووية تهدّد بها كيانه المحتل.

وقد “تفنّن” نتنياهو في أساليب حربه النفسية على إيران، من أجل ثنْيها عن متابعة برنامجها النووي، سواء عبر “كشفه” الاستعراضي لأهداف هذا البرنامج من منبر الأمم المتحدة في نهاية شهر أيلول/سبتمبر 2018، أو من خلال تأكيد الجاهزية الكاملة لـ”جيشه” لتدمير المنشآت الإيرانية النووية، حتى إنه وجّه تهديداته مرّة باللغة الفارسية كي يُحدث تأثيراً أكبر لدى الشعب الإيراني، وبما يدفع إيران إلى التراجع وإعادة الحسابات. وقد باءت كل مساعيه وتهديداته الجوفاء بالفشل الذريع حتى تاريخه.

في المقلب الآخر، هدّد رئيس المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد، أخيراً، بكشف أكاذيب نتنياهو بشأن الجاهزية العسكرية ضد إيران. وقال في تغريدة في “تويتر”: “ما لم يكفّ نتنياهو عن الكذب بشأن الجاهزية في الموضوع الإيراني، فسأضطر إلى شرح كل الثغرات والإشارة إلى الإهمال الذي كان مسؤولاً عنه حتى قمنا بتغييره”، في إشارة إلى خسارة نتنياهو الانتخابات وصعود حكومة لابيد – بينيت عام 2021، قبل أن يعود في 2022.

إن احتمالات شنّ الكيان الإسرائيلي هجوماً عسكرياً واسع النطاق ضد المنشآت النووية الإيرانية أو ضد إيران عموماً، ضعيفة للغاية، سواء في القريب العاجل، كما تشيع مصادر إسرائيلية وأميركية وعربية، أو حتى في المدى المنظور والمتوسط، كما تكشف القراءة المتعددة الزوايا للإستراتيجية الإسرائيلية تجاه دول المنطقة وتأثّرها بالعوامل والتحوّلات الكبرى داخل كيان الاحتلال وفي الإقليم والعالم، فما العوامل أو العوائق التي تكبح “إسرائيل” عن شنّ هجوم “مضمون النتائج والعواقب” على إيران، والذي اعتاد المسؤولون الإسرائيليون التهديد به منذ مطلع هذا القرن؟

تتصرّف “إسرائيل” وفق إستراتيجية دفاعية (استباقية) تهدف إلى ضمان وجودها، ودرء التهديدات وإرجائها لضمان فترات طويلة من الهدوء، بالتزامن مع جهود عسكرية وسياسية استباقية. إنه مبدأ أساسي للأمن القومي يجسّد رغبة “إسرائيل” في عدم خوض معارك وتأجيل الصراعات بقدر المستطاع. الجودة على الكميّة.

“إسرائيل” بطبيعتها في وضع غير مؤاتٍ مقارنة بأعدائها. لذلك، يجب أن تعوّض ذلك بتفوّقها النوعي. نقل المعركة إلى أراضي العدو والسعي لتحقيق النصر في الحرب. تقليص مدة القتال. يشمل ذلك الحاجة إلى الحدّ من الضرر الذي يلحق بالشعب وبالبنية التحتية للبلاد نتيجة للقتال، وتحقيق أهداف المعركة في أقصر وقت ممكن. حدود قابلة للدفاع عنها. وتعتبر الروح القتالية للأمّة والإيمان بعدالة قضيتها مكوّنين أساسيين لإستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي.

لكن بات واضحاً، وبعد سلسلة طويلة من الحروب والمعارك الإسرائيلية الفاشلة وغير الحاسمة، سواء داخل فلسطين أو في المحيط الإقليمي، أنَّ عطباً جوهرياً قد أصاب هذه الإستراتيجية التي ارتكزت على التفوّق النوعي، والحرب الاستباقية والسريعة، والقتال في أرض العدو، ومنعه من تحقيق التوازن، وترسيخ مبدأ الردع الذي يؤجّل الحرب، ولكنه لا يمنعها بالمطلق.

دخلت “إسرائيل” عام 2023 وهي تواجه مجموعة من التهديدات الإستراتيجية على عدة مستويات؛ فكما أوضح التقدير الإستراتيجي (الأخير) لمعهد الأمن القومي الإسرائيلي في مقدّمته، تواجه “إسرائيل” على المستوى الدولي صراعاً محتدماً بين الولايات المتحدة الأميركية والصين على التأثير في الخارطة الدولية، إضافة إلى الحرب المستعرة بين روسيا وأوكرانيا، ومن خلفها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، ووصولها إلى حد يمنع “إسرائيل” من التزامها سياسة الحياد.

هذه التهديدات تقلّل هامش المناورة الإسرائيلية في سياستها الخارجية وعلاقاتها الدبلوماسية، وتجعلها مُطالبة بإحداث تغيير إستراتيجي في سياستها الخارجية السائدة حالياً، وخصوصاً أن التهديد الخارجي الأخير مرتبط بوصول إيران إلى دولة شبه نووية، كما يتحدث التقدير الإستراتيجي، وأن ذلك معناه انهيار حقيقي لأسس الأمن القومي الإسرائيلي، المبني على احتكار القوّة النووية في الشرق الأوسط، كقوّة ردع إستراتيجية.

ولكن الإشكالية الإسرائيلية تكمن في قدرة “إسرائيل” على مواجهة المشروع النووي الإيراني، سواء من خلال التجهيز لخيار عسكري لتدمير المشروع النووي الإيراني، كما أمر بذلك رئيس الوزراء السابق نفتالي بينت قبل عام، أو من خلال إقناع الأميركيين والأوروبيين بتشديد العقوبات الاقتصادية على إيران، أو التأثير في أي اتفاق بين الأميركيين والدول الخمس مع إيران بما يتناسب مع الأمن القومي الإسرائيلي.

بكلام أكثر دقّة، إن قادة الكيان الإسرائيلي يواجهون معضلة مركّبة ومعقّدة في ما يتعلق بتدمير أو إزالة المشروع النووي الإيراني، لكونها تتضمن أبعاداً إستراتيجية وسياسية وعملانية متعددة، من بينها:

– أولاً: سيتسبّب أي هجوم عسكري إسرائيلي على إيران بردود قوية وموجعة من إيران وحلفائها في المنطقة، قد لا تستطيع “إسرائيل” تحمّل نتائجها على مختلف المستويات، البشرية والمادية والمعنوية، وصولاً إلى المستوى الإستراتيجي، في حال تصاعد المواجهة المفترضة وتوسّع ساحاتها.

– ثانياً: على فرض نجاح أي ضربة عسكرية إسرائيلية (منفردة أو مشتركة مع القوات الأميركية في المنطقة) في تدمير كل محطات المشروع الإيراني النووي وأقسامه (وهو احتمال ضعيف بسبب توزّع مراكز المشروع وتحصينها وطرق إخفائها المتقنة)، فإن ضربة كهذه لن تُنهيه بالكامل، بل قد تؤخّره عدة سنوات فقط، وربما يعود هذا البرنامج بطابع عسكري، كما يتوقع الإسرائيليون وحلفاؤهم الأميركيون أنفسهم.

– ثالثاً: إن أي هجوم إسرائيلي واسع ومباشر على إيران سيؤدّي إلى تداعيات خطرة ستصيب شظاياها القوات الأميركية المتمركزة في دول عديدة في الدرجة الأولى، وستطال دولاً حليفة أو صديقة للولايات المتحدة و”إسرائيل” في الدرجة الثانية؛ أي أن هجوماً كهذا قد يؤدّي إلى تصدّع أو ربما انهيار المشروع الأميركي في المنطقة، الذي يحتاج إلى ركائز سياسية ثابتة (دول حليفة مستقرة) وقواعد عسكرية واستخبارية لا تزال ضرورة قصوى لاستمراره، وربما لعقود قادمة.

لذا، يمكن الاستنتاج بأن لا ضوء أخضر أميركياً لـ”إسرائيل” لشن هجوم في المدى المنظور على إيران، بموازاة عجز “إسرائيل” فعلياً عن تحمّل عواقب هجوم كهذا بمفردها، كما تشيع وتؤكد الأوساط الأميركية والإسرائيلية عبر وسائل الإعلام.

– رابعاً: إن تمكّن “إسرائيل” من شن هجمات عسكرية وأمنية وسيبرانية محدودة ضد البرنامج النووي الإيراني، مثل الهجمة الأخيرة بطائرات مسيّرة على المجمع العسكري الصناعي في أصفهان، وقبلها اغتيال عدد من العلماء الإيرانيين العاملين ضمن البرنامج النووي، وسرقة ملفات متعلقة بالبرنامج قبل أعوام… إن كل تلك الهجمات لا يمكن البناء عليها لتقدير أن “إسرائيل” باتت قادرة على استكمال مسارها الهجومي ضد إيران، وباعتبار محدودية ردود الفعل الإيرانية على الهجمات الإسرائيلية السابقة.

– خامساً: في المقابل، يمكن القول إن إيران ربما تتمكن من صد أو إفشال أي هجمات جوية أو صاروخية إسرائيلية مفترضة، حتى ولو بمشاركة قوّات أميركية، نظراً إلى التنامي المذهل في القدرات الإيرانية العسكرية كماً ونوعاً، وفي مجالات الدفاع والهجوم، كما تقرّ المصادر العسكرية والاستخبارية الأميركية والإسرائيلية على السواء، ناهيك بالردود الإيرانية المدمّرة التي تم إعدادها مسبقاً، والتي قد تستهدف أوّلاً مفاعل ديمونا النووي** ومستوطنات إسرائيلية حيوية، مثل “تل أبيب”، بحسب التصريحات والمواقف الصادرة عن رأس القيادة الإيرانية والجهات العسكرية العليا.

سادساً: كذلك، قد يفرض الاتفاق الإيراني السعودي المستجد الذي عُقِدَ أخيراً برعاية صينية على “إسرائيل” إعادة حساباتها في ما يخص الهجوم على إيران، وربما أبعد منها، لتشمل مسارات التطبيع الإسرائيلي مع بعض دول المنطقة، ومنها السعودية، بل إنَّ هذا التحوّل السعودي الإيراني، إن كُتب له النجاح، سيدفع الكيان الإسرائيلي إلى تغيير حقيقي في أولوياته وخياراته، وبما لا يلائم توجهات القيادة الإسرائيلية المتطرفة الحاكمة اليوم ومصالحها.
خاتمة

في المحصّلة، واستناداً إلى التحوّلات التي شهدتها المنطقة خلال العقود الأخيرة، وأبرزها ظهور محور المقاومة كندٍّ للمحور الأميركي الإسرائيلي في أهم مفاصل المنطقة (من فلسطين إلى اليمن)، وثباته في وجه التحديات الكثيرة التي واجهها، في مقابل فشل مشاريع “إسرائيل” التوسعية على مستوى المنطقة، وعجزها عن متابعة إستراتيجيتها الهجومية (العدوانية)، كما كانت تفعل منذ نشأتها وحتى حرب تموز 2006 ضد لبنان، والهشاشة السياسية والمجتمعية التي باتت تطبع الكيان في السنوات الأخيرة بعد تنامي الاتجاهات اليمينية المتطرفة فيه، يمكن التقدير بأنَّ سيناريو هجوم إسرائيلي واسع ضد منشآت إيران النووية في المدى المنظور هو سيناريو تهويلي أكثر من كونه واقعياً.

الهدف من هذا السيناريو هو دفع إيران إلى التراجع أو استعادة الزخم الأميركي والأوروبي في إطار تشديد العقوبات عليها، ودفن الاتفاق النووي معها إلى الأبد، وربما الهروب من المأزق الإسرائيلي الداخلي الحالي الذي ينمّ عن أزمة وجودية خطرة***، كما يحذّر مسؤولون سياسيون وقادة عسكريون وأمنيون ومحلّلون صهاينة علناً.

لقد تهافتت ركائز العدوانية الإسرائيلية التي تمّ وضعها والشروع في تطبيقها قبل عقود (الحرب الاستباقية وحسم المعركة على أرض العدو وتحييد الجبهة الداخلية..)، في مقابل تكاليف بشرية ومادية وسياسية زهيدة بالنسبة إلى الكيان الإسرائيلي، إلى مرحلة ظهور المقاومة في فلسطين وبعض دول المنطقة، وترسيخ إيران موقعها كدولة عظمى على مستوى الإقليم، ودولة مقتدرة على مستوى العالم، وبما كبّل أيدي قادة وعقول الكيان عن المبادرة بالعدوان وإزالة أي خطر وجودي أو حتى موضعي يهدّدهم، وهذا ما تؤكده مواقف نتنياهو الأخيرة، حين قال إنه لن يمنعه أحد من شن هجوم كاسح على إيران في مواجهة الخطر الإيراني الداهم، لكنه لم يفعل حتى هذه اللحظة!

الهوامش

**أرسل الإيرانيون عبر دولة أوروبية صوراً دقيقة لمفاعل ديمونا تمّ التقاطها من الأرض، لإثبات جديّتهم في استهداف هذا المفاعل رداً على أي هجوم إسرائيلي محتمل.

***المقصود هو الأزمة الأخيرة التي حصلت على خلفية ما سمّي بالإصلاحات القضائية، واحتجاج قوى سياسية وشرائح اجتماعية واسعة عليها، وصولاً إلى “الجيش”، بما يهدّد أسس الكيان ويُضعف الروح القتالية لدى العسكريين. هذه الاحتجاجات مرشّحة للتحوّل إلى اقتتال داخلي واسع.

الميادين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...